كُنَّا ـ في محاولة تلَمُّس شروط تكوين سياقنا الوطني الراهن ـ قد بدأنا في تحديد وترسُّم ثِنْتَين من أكثر خصائص وجودنا الاجتماعي أثرا في تحديد قابلياتنا للإحجام وللفعل؛ بما جُبِلْنا عليه، وما نحن مهيؤون له من قبول وانصياع، هو أقوى وأشد أثرا من إمكان الإحجام والكفِّ، ومستتبعهما من رفض وإباء، لم يرَ طريقه إلى الفعل؛ بسبب ممَّا أسميْناه تعطيل القيَّم؛ بإبطال كَفِّ الوازع في المنع، وإعاقة الاستجابة عن الدفع إلى الفعل.
في إلماحات الوقفة السابقة، أقررنا أن خطر هذه الخصائص مِمَّا يستوجب التقفِّي ومحاولة تلَمُّس المسارب في رحاب السياسة والاجتماع، يستوجب استرسالا في الحديث، يحسن تأجيله ـ في تَتبُّع السياق ـ إلى وقفات أُخَر؛ سينقضي حولها بعد تحسُّس ازدحام مظاهرها، وطغيان أعراضها في واقع هذه الأيام، فيما أسميناه: استفحال الاستفعال في أفعالنا الآخذ تَمَثُّلَه في التعاطي مع الشأن العام، والعلاقة مع رموز الكيان ومقوماته.
إن هذا الذي يُلِحُّ الآن ـ أكثر من سواه ـ ممَّا هو ناشئ عن الاستهانة بالدولة وبتراثها؛ واستباحة المال العام؛ واستسهال الغرر في أموال الناس؛ واستهجان احترام القانون؛ واستفحال صيغ الولاء المصطنع ـ كافٍ للدلالة على تَحلُّل خطير أصاب نظامنا القيمي في عمقه، واختلالات صميمية قد انتابت معايير ومحددات السلوك الاقتصادي/الاجتماعي، في مجتمع صفوته شديدة التعلق بفقه المعاملات، وفق خبرة التبادل التقليدي، والتجارة عبر الصحراء.
ولعل ممَّا هو بادي للعيان، لا يعزب عن بال المهتم بأحوالنا العامة، وحتى كل من يعيش على أديم هذه الأرض، وإن لم يكن مهتما بأحوالها، أن ظواهر ثلاثا، عميقة الدلالة فيما نحن بصدد تجليته، أخذت في الظهور، وفي الاستفحال ـ على نحو متعاقب/متزامن ذات الوقت، في هذه البلاد، خصوصا حاضرتيها الأكبر، والأكثر ازدحاما بأعراض التمدن والحداثة: نواكشوط ونواذيبو، ولم يكن سوى متعاطيها ينظر إليها بعين الرضا؛ بل ربما لا ينعقد إجماعنا على استغراب أمر واستهجانه، مثلما كان حالنا مع تلك الثلاث.
حين غَشِي مجتمعنا وداخله في طوله وعرضه ما يسمى (اتَّبْتِيبْ) بلغته وصيغ تعاطيه التي أربكت اللغة في التعاطي، وأزَّت القِيَّم أزًّا عنيفا، منذ ما يناهز العقود الثلاثة، بدا، وكأننا مهيؤون لتَقَبُّل ما صاحبها من مفردات، وما استتبعته من مسلكيات ومواقف، لعل التحولات المجتمعية، والانفتاح هو مؤداها؛ ولم يكن الاستغراب والاستهجان، مثلما كان منهما، حين تسلَّلت ظاهرة التشبيك في التعامل في سوق السيارات، التي غدت فاعلية اقتصادية ملحوظة في الآونة الأخيرة؛ بخروجها عمَّا ألِفْنَاه، وما تَكَيَّف من صِيغ التعامل مع مواضعاتنا، وتقاليدنا في التعامل، وتلك كانت أولى الثلاث؛
أما الثانية، والترتيب ليس إلا باعتبار التعاقب الزماني، فهي النشاط المحموم الذي عرفته سوق العقارات، في الآونة الأخيرة، تلك السوق التي ظلت في منأى عن المضاربات، من يوم شرعنا في تأسيس حواضرنا الجديدة، رغم ما شهدته الأرض من صيغ التملك القسري، وأساليب الاختطاط العسفي؛ حتى صارت الأرقام وإجراءات العقود وطرق الحيازة، كلها أشبه بنسج الخيال وعبث الأوهام، وتنقلت مئات المباني والمنازل بين ملاك عديدين، دون جدوى، أو حيازة فعلية.
هاتان الظاهرتان واضحتا الدلالة على سهولة التغرير بالإنسان عندنا؛ ليجرد من ملكه، ويخرج من بيته، وتنزع منه سيارته، وهو بكل ذلك راض؛ بل إنه في كل الحالات يشعر بالرضى عن النفس والصنيع، ويغمره الإحساس بالزهو ونشوة النصر؛ فيغدو كالثَّمِل يأتي ما يأتيه غير واعٍ، فاقد القدرة على المفاضلة فيما يقدم عليه، لا يستطيع حساب الأمور والأشياء حسابا هو الشرط الأول للخيار الأقوم فيما يجلب النفع، وما يدفع الضرَّ من المواقف.
وأما ثالثة الظواهر، فربما تشي بها الأوليان، وإن كنت على نية التفصيل فيها في الوقفة القادمة ـ بحول الله وقوته.
محمد الامين الناتي