من المعروف أنّ العاشِق الموريتاني اندثَر منذ عقود، حتّى قبل موت العاشق العربي، ولم يعد موضوعاً راهِناً إلاّ لدى المؤرِّخين. ولكن نظرية جذرية ازدهرَت بين الأكاديميين في السنوات الماضيّة بدأت تُشكِّك حتّى في أن الموريتاني عشق أصلاً. وقد طُرِحت هذه النظرية أولاً من قبل الحفري ريتشارد مان من جامعة أركنساس، الذي حلّل مومياء موريتانيّة وُجدت في منطقة جوك، وخلص إلى أنّ الوجبات التي وُجدت في ذلك البطن، وهي خليط من فدقو والتقزاز وبشنة وتجمخت والتقية، قلّما اختلطت في بطن عاشق، بل وأنّ خليطها مانِع للعشق أصلاً. إلاّ أنّ دراسات المتولِّه الموريتاني تخطّت هذه الفذلكة، وإنْ كانت وصلت إلى نفس الخلاصة.
فعلماء الإحصاء الاجتماعي استفادوا من نظرية تناقُض المطبخ الموريتاني مع الغرام وبدأوا يدرسون آخر مرحلة عاش فيها العاشق الموريتاني وهي مطلع التسعينيات. وقد حلّلوا أكثر من 60 ألف وثيقة خلصوا فيها أنّ البنية الاجتماعية منعت الحُبّ: فماقيل عن "وادي الأحبّة" كان أسطورياً. العاصِمة لم تُصمّم للغرام وسرعان ما قضى فيها الراكبون على الراجلين. ومعروف أنّ الهوى مشتق من الهواء. أيضاً شمس العاصِمة وهجمات الغبار ورقابة الأهل لم تسمع بوقتٍ مستديم للحب وإنْ كانت سمحت لبعض العيون بقتل بعض المارّة.
الألسنيون والنقّاد خلصوا إلى شيء شبيه. فقد وجدوا أنّ اللغة المحليّة لا تتوفّر على كلمة "عشق" و"وَجد" أو "هوى" أو "غرام" أو "صبابة". وما يوجد فيها هو إمّا "شيطان" أو "سقم"، وهو دليل على أهوال هذه التجربة. ينضاف إلى هذا أنّ الهائم الموريتاني، متمثِّلاً في الشاعِر، لم يهتمّ بالقمر ولا بالليل ولا بخرير المياه. وقد كان حبّه شبقياً أكثر مما كان معنوياً. وحتّى عندما توجّه إلى مدح المعشوقة فإنّه اهتمّ بدل ذلك بمدحِها الأنسابي وبأفضلتِها على قريناتِها وبأنّها "باشت الأريام" و"راص النعامة" و"جِملة الأقياد"، ولم يهتمّ بعلاقتِه معها وتفاصيل الوجد ومحلّه في النفس. أما التجربة الميتافيزيقيّة للحُب فإنها كانت فقيرة، ولم توجد غنائيات في الحب والغرام من حيث هو شيءٌ متعال ومقامٌ أنطولوجي.
أما علماء الاجتماع فقد درسوا العاشق الموريتاني في الثمانينيات وخلصوا إلى أنّه كان مترنِّماً وأدوارياً ولم يكن أهوائياً. فلم يمنعه تولّهُه بالواحِدة من رؤية غيرِها. كان شاعر السبعينيات والثمانينات طائر العين ملولاً مِزواجاً متسرِّياً مسياراً سدّاراً. وكان ينتقِل من طرف ملحفة إلى أخرى كأنّه ينوش البقر. وكان يثني رجله في غير مكان ويترنّم ببعض بوسوير ويرتشِف كأساً من الأتاي المُنعنع قبل أنّ يخطَف رجله إلى أخرى ويكرّر نفس الأبيات. كان "يسوم" الإناث. وقد عضّد اللغويون هذا بإثبات أنّ "المواعِدة" كانت تسمّى "المجيء" و"اتخوطير"، ولذا فقد ميّزوا بينها وبين الغرام. لقد كانت نشاطاً وأنُساً في مدينة خالية من الملاهي. انضاف إلى ذلك أنّ العشق المحلي لم يستطِع النجاة من الزمن. فقد لاحظ السيوسيولوجيون أنّ معظم القصص الموصوفة بالعذرية في التسعينيات انتهت إلى تطاحنات حول المرجن والعيد و"العادة" ودخلت في قشابة بلا رقبة وفي كدّك ماني كدّك. وكما هو معروف فإنّه عندما دخلها أبو عمود فسيخرُجها أبو دبّوس.
إلاّ أنّ بيدبا أنكَر هذا؛ فمعظم هذه الدراسات ما زالت استشراقيّة وجوهرانيّة. وما يغفله الدّارسون هو أنّ أسقام الخيام هي حرب استراتيجية لا تُفهم بسيرفانتس وإنّما بكلوزفيتس. فحبّ أهل الخيام كان يقتلُه البوح و"تنعات العزّة". فيصبح تحصيل حاصِل ويموت. ولذا فإنّه، بعكس الحبّ العربي والأوروبي، لم يبن على الغناء تحت نافِذة المعشوقة، بل باستراتيجية تسيير الأهواء. وهذه تُتعلّم بالحروب والأهوال و"اتخازي"، لا بالاعتراف والترنّم. إنّ الهوى الموريتاني لا يُدرَس سوسيولوجياً وإنما بدراسات الوجدان والثقافة وإدارة الأعمال واقتصاد البيوتات وفنّ الحرب. وفي الحقيقة فإنّه ليس مقام "لبتيت" وإنّما هو مقام "فاقو".
وغني عن القول إنّ الوقت صارَ متأخِّراً لدراسة العشق والصبابة، ليس محلياً فقط، بل وعالمياً. فالحب حرّره، ولكن في نفس الوقت قتلَه، الآيفون. هذا معروف.