الساعة العاشرة والنصف ليلا، إنها القرية! وبدأ أهل المنزل استنفارا جماعيا لضيافة القادمين، جلست صغرى البنات تعد الشاي بتباطؤ مقصود مغطية بذلك الوقت الكافي لإعداد وجبة للقادمين، أما الأم فانشغلت بإعداد أقداح الشراب(الزريق)، وبادر الأقارب والمحتفون من الدور المجاورة لملاقاة الضيوف، ذاب غبار الرحلة مع لقاء الأحبة.
كان اللقاء دافئا حميما، وامتد السمر يحمل كل عبق الذكريات ، وكل ألق الماضي، وانفض الجمع والبرق يلمع بالأفق الشرقي مظللا مزنا ثقالا ما لبث نوؤها أن ادلهم يحدوه هزيم الرعد.
آه القرية والمطر! تلك النشوة الحالمة التي ظلت تسكنها منذ البعيد البعيد، ترافقها هاجسا على مر الأيام، ذلك الموسم الذي كان لا يختل مدى أيام طفولتها ومراهقتها. تتحينه مسكونة بالشغف والشوق ، وهي تراقب أسراب الطيور من حولها تملأ المكان أنسا بعد رحيل الطلبة والمعلمين، ورحيل الأحياء البدوية التي تقوض خيامها وتنأى بعيدا عن حمى القرية، كلما بدأ موسم الأمطار.
في شهر يوليو تأخذ السحب موقعها في صفحة السماء، وتظهر أشكالا عديدة،
كانت تأخذ وقتها لتتبعها وإحصائها؛ فهذه مزنة تأخذ شكل ادهيمه؛ مدرسة القرآن بتسريحتها المشنفة، وأنفها المعقوف، وعينيها الغائرتين تحت جبين ناتئ.
وتلك التي تليها تأخذ شكل الراعي محمود وهو يفرغ دلوه في الحوض، أما تلك المزنة المنبسطة فهي تشبه قطيعا من البقر يرعى العشب، وتظهر في الجنوب الشرقي أخرى بصورة الغول العملاق الذي خطف بنات الملك؛ حاملا بيده اليمنى سطلا وبالثانية إبريقا كبيرا. صور لا تخطئها العين إذا تمعنتَ هذه المزن المنتشرة في صفحة السماء.
كان موسم الأمطار أيامها واعدا، فمع منتصف شهر يونيو تغلق المدارس أبوابها، وتبدأ الغيوم الكثيفة تغطي سماء القرية، وتدب حركة دؤوب في عالم الطير؛ فتأخذ في الزقزقة المتواصلة، وبناء الأعشاش بين أغصان الشجر الوارف ، فتمتلئ أشجار السردين بالعناقيد المتدلية من أعشاش وكأنها ثمار تتفاوت في أحجامها، وألوانها..
تظهر حديقة بيتنا وكأنها محمية طبيعية لكثرة الأشجار فيها وتنوعها، فهناك أشجار السردين، وأشجار الحناء والكتان والطلح، وتنتشي الطيور صادحة ومتجاوبة فيها، وهي تعكف على بناء منازلها الكروية الصغيرة بين الأغصان.
يرزم الرعد ظهرا، ويتواصل هزيمه الهادرساعات، ويغطي الأفق الشرقي من وراء الكثيب الرملي الناصع نوء كثيف، يشتد تلاحمه، ثم ما يلبث أن يبدو بلون أزرق غامق، وأخيرا يضرب إلى الكدرة والسواد.
تبادر جدتي إلى طي خبائها لتدخل معنا في الدار، ويرزم الرعد أكثر، ويدنو النوء شيئا فشيئا، وتهب أولى تباشير الرياح أمامه، أتطلع إلى خباء عائشة فإذا بها تطنبه منخفضا حتى تلامس أطرافه الأرض، وتدير السجف من حوله، ثم تحكم الزريبة على الماعز، وكثيرا ما أسأل جدتي:
- ألا أذهب إليها لتأتي عندنا؟
- لن تقبل بالمجيء، والله لطيف بعباده، ومتى عرفنا الدور يا بنيتي؟
لقد ولدنا وعشنا كل حياتنا تحت الخيام، وكانت الأمطار أكثر غزارة والريح أشد وطأة.
تبدأ العاصفة هائجة يصاحبها وقع حبات المطر المفرقعة على السقف الزنكي، ونتجمع كلنا في الركن حول الجدة، نهلل بصوت عال، وحين يخطف البرق الأبصار نغلق آذاننا، ثم ما يلبث أن يتلوه الصوت المدوي الذي يهز المكان، مترددا كسقوط صخرة في البئر.
تبدأ جدتي تنشد المديحية المأثورة في أوصاف الرسول -صلى الله عليه وسلم-:
لقد كان خير الخلق أبهــر طلعة @@ من البدر بل من شمسه هو ألهب
جميل المحيا أزهر اللون أبلـــج @@ بهي بهيـــج الوجـــه ليس يقطب
وكثيرا ما تخرج الجدة مصحفها بغلافه الجلدي الأحمر المزركش، وتضعه على مقربة منا، أما أمي فتاخذ حفنات من الأرز، وقطعا من السكر، فتديرها فوق رؤوسنا، لتتصدق بها بعد انتهاء المطر.
ورغم حبي الشديد للمطر وترقبي لموسمه الجميل، فقد كنت أرهبه كثيرا وأنذر النذور التي لا أستطيع الوفاء بها ، كنت أتمنى أن يأتي مطر بدون عواصف أو رعود.
يستمر المطر أكثر الأحيان ساعات طويلة تمتد إلى الليل، وأحيانا يستمر طول الليل ونبقى جالسين بدون حراك، وبدون عشاء، فراعي البقر محمود لا يمكن أن يحلب أبقاره والسماء منهلة السحب.
نحاول أن ننام ولكن فرقعة الصواعق، وأوامر جدتي بأن نواصل ذكر الله، يقطع أملنا في النوم الهنيء الذي نحاول أن نغيب فيه عن عالم المطر ورهبته.
عندما يتوقف المطر أبادر بالنظر من النافذة، أو من باب الفرندة، فأرى خباء عائشة صامدا كما رأيته قبل نزول المطر، وكثيرا ما أجدها أوقدت النار أمامه لتصطلي عليها الماعز.
في الصباح يكون جو القرية رائقا؛ تأتي عائشة متفقدة أحوالنا وهي تحمل أخبار المطر، وتظهر أبقار الخريف الحمراء القانية، وكأنها نزلت مع المطر، فنجمعها في حظائر من الثرى، وكلما جمعنا منها قطيعا، انفلت منا ونحن نجمع البقية.
أما أعشاش الطيور فتبقى معلقة هي الأخرى بخيط رفيع، وكأن عصف الرياح، وزخ المطر جانَبَهَا، وتظهر الأسراب محتفلة شادية احتفالا بالموسم الجديد.
يمتلئ غدير اميحيم في وسط القرية ماء زلالا، ويتوارد الأولاد من كل حدب وصوب يسبحون ويتراشقون بالماء والطين ، وهو ما يثير حفيظة الأمهات فيأتين لأخذ الأولاد خوفا من إصابتهم بحمى الملاريا.
آه ! تنكرت أيتها القرية الفاتنة، أحتاج إلى أن أتعرف عليك وأكتشفك من جديد، كيف تمددت بشكل عشوائي، وأصبحت تضمين كل الأحياء البدوية القريبة والبعيدة؟
عندما كنتِ طفلة كان طقسك مذهلا، ومريدوك قليلين، لم يكن يقطنك إلا القليل من الأسر لا يتجاوزون عد الأصابع، ولا يهمهم الظاعنون أيام المواسم بحثا عن المراعي، ولا العابرون المستقون من البئر، أو المشترون من الحانوت الوحيد الذي كان عماد القرية الاقتصادي، بل كانوا يرابطون فيك صيفا وشتاء، ربيعا وخريفا. وعندما يرجع المدرسون والطلبة مع بدايات شهر اكتوبر، تشهد القرية الوادعة وقتها نشاطا وحيوية تستمر نهارا، وتخف ليلا حين يقصد التلاميذ الأحياء البدوية المجارورة.
لا يتجول تلاميذ الأحياء البدوية في القرية إلا في فسحة العاشرة صباحا، أو بعيد الخامسة مساء، يتفاعلون معها بنفور وكراهية؛ فيرسمون على جدران المنازل رسوما مشوهة بالفحم ، ويتخذون من السواتر الخالية مكانا للتبول، ويذللون الحمر الناعسة حول الدور، ويضربونها بالعصي لتقطع بهم الطريق السالك من البئر إلى الحي.
أما حديقة بيتنا فيتوقفون عندها طويلا، عندما يأتون للشراب، فيطالعون أشجار الحناء والكتان، وسنابل الزرع الطري، وحمام القمري الذي يهدل في الأقفاص مرجعا هديله الشجي.
لا يكتمل اجتماع الأهالي في القرية إلا بحلول نهاية فصل الشتاء ، حين تتوارد الأحياء البدوية بحثا عن الماء والكلأ ، فيضربون الخيام على مسافة غير بعيدة منها، ويجددون العهد مع التاجر الذي يمتلك الحانوت الوحيد في القرية، و مع القيمين على البئر التي تظل محجة الرواد طيلة أيام السنة.