تهدف هذه القراءة إلى لفت أنظار الباحثين المتخصصين إلى ضرورة انتشال النصوص الشعرية اللتي قَــرِّظَ بها الشعراء الموريتانيون فنانيهم القدماء ، في ظل ما يهددها في الوقت الراهن من أخطار مثل: فقد الرواة واختلاف الروايات وقدم الأسطوانات. أولا: مدخل عام قال بعض أهل التفسير في قول الله تعالى : ( يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ) هو الصوت الحسن. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري لما أعجبه حسن صوته :(لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داوود). وقال الإمام أبو حامد الغزالي : من لم يحركه الربيع وأزهاره، والعود و أوتاره، فهو فاسد المزاج ليس له علاج. ويؤكد أهل العلم بالطب أن الصوت الحسن يرتاح له القلب و تهتز له الجوارح ومن أجل ذلك كرهوا للطفل أن ينوم على أثر البكاء حتى يرقص ويطرب. و زعم الفلاسفة أن النغم فضل بقي من المنطق لم يقدر اللسان على استخراجه فاستخرجته الطبيعة بالألحان على الترجيع لا على التقطيع. و تحب البهائم الصوت الحسن وتعرف فضله فالإبل تطرب على الحداء، والنحل على الغناء، والطير ينزله من السماء، يقول الراجز: والطير قد يسوقه للموت * إصغاؤه إلى حنين الصوت وقال ابن خلدون في صناعة الغناء: "هذه الصناعة هي آخر ما يحصل في العمران من الصنائع لأنها كمالية من غير وظيفة من الوظائف إلا الفرح" وقد عرف الغناء تطوراً كبيراً وازدهاراً واسعاً في ممالك الفرس والروم وكان الأكاسرة يقربون أهل هذه الصناعة ويجزلون لهم العطاء دون غيرهم فانتشر الغناء في الشرق والغرب. وأول من غنى من العرب قينتان لعاد يقال لهما الجرادتان، ثم صار بعد ذلك عندهم على ثلاثة أوجه: غناء الركبان والقينات ويدعى بالنصب، والثقيل الكثير الترجيع وهو السناد أما الهزج فهو الخفيف كله وهو الذي يثير القلوب ويهيج الحليم. ثم تطورت بعد ذلك صناعته كثيراً حيث نجد الملك الضليل امرئ القيس بن حجر يصف قينة في القرن الخامس الميلادي و يشبه صوت كَرانها (عودها) بصوت الجيش فيقول: و إن أمس مكروبا فيا رب قينة * منعمة أعملتها بكران لها مزهر يعلو الخميس بصوته * أجشُّ إذا ما حركته اليدان ثم صار الغناء متداولاً بعد ذلك في أمهات القرى ومجامع أسواق العرب مثل يثرب والطائف وخيبر ووادي القرى و دومة الجندل. و لعل ذلك هو ما جعل أهل القرى ألطف نظراً من أهل البادية، الشيء الذي تؤكده مقولة الشاعر النابغة الذبياني عندما سمع أصواتاً من شعره يتغنى بها أهل يثرب فتنبه إلى عيوب الإقواء وخصوصاً في بيتيه الشهيرين من قصيدته التي مطلعها : أمن آل مية رائح أم مغتدي* عجلان ذا زاد وغير مزود فقال: "قدمت إلى الحجاز وفي شعري صنعة ورحلت عنه و أنا أشعر الناس" ولما جاء الإسلام وفتحت الأمصار و تحسنت الظروف الاقتصادية للمسلمين جراء الغنائم وما أفاء الله عليهم من الشام والعراق ، تفرق المغنون من الروم و الفرس في قرى الحجاز بعد أن صاروا موالي للعرب فغنوا جميعاً بالعيدان والطنابير والمعازف وسمع العرب تلحينهم للأصوات فلحنوا عليه أشعارهم. وأول من غنى في الإسلام بالغناء الرقيق طويس ونشيط الفارس، ثم علم طويس ابن سريج والدلال ونؤومة الضحى فكانوا في المدينة، ثم نبغ بعد ذلك سلم الخاسر مولى الصحابي الجليل عبدالله بن جعفر الذي كان هو معلم معبد وعلى يدي معبد تعلم الغريض فكانا فى مكة. أجاد طُوَيْسٌ والسُّرَيْجيُّ بعدَه* وما قَصَبَاتُ السَّبْقِ إلا لمَعْبَدِ وقد اختلف الناس في الغناء فأجازه أغلب فقهاء الحجاز وكرهه أهل العراق، وأدى ذلك إلى كثرة المغنين بالحجاز مقارنة مع العراق. ومما يؤكد ذلك سفر حنين (المغنى الوحيد في العراق آنذاك) إلى الحجاز استجابة لدعوة أصدقائه الثلاثة؛ معبد والغريض وابن سريج ومن المفارقة أن سفره ذلك كان سبب وفاته إثر تدافع حصل بين الجمهور المدني في منزل الشريفة سكينة بنت الحسين رضي الله عنهما. هذا مع أننا نجد أبياتا للشاعر عمر بن أبى ربيعة نظمها إثر زيارة سياحية قام بها لمدينة الكوفة تؤكد انبهاره من صوت مغنيتين سمعهما بمنزل صديقه عبد الله بن هلال حيث يقول: يا أهل بابل ما نفست عليكم * من عيشكم إلا ثلاث خصال ماء الفرات وطيب ليل بارد * وغناء مسمعـتين لابن هلال ووصلت صناعة الغناء إلى ذروتها زمن الخليفة العباسي هارون الرشيد، عندما ظهر ابراهيم الموصلي وابنه إسحاق وابن جامع السهمي ومخارق وطبقة أخرى دونهم منهم زلزل وعمرو الغزال و الزامر برصوما. ثم إن ابراهيم الموصلي عَلَّمَ غلاما له يدعى علي بن نافع ويلقب بزرياب أسرار الصنعة وفنونها فأتقنها الأخير أيما إتقان، إلا أن الموصلي قرر التخلص منه خوفا على مكانته عند الرشيد، فصرفه إلى القيروان، لكن المغني العبقري لم يجد بها ما يريده فقرر اجتياز البحر نحو الأندلس وعندما علم به الخليفة الأموي الحكم بن هشام ركب للقائه وخلع عليه وقربه و أجزل له العطاء. و تطورت الصنعة مع قدوم زرياب إلى الأندلس وتذوقها المجتمع و أحبها من خلال الإيقاعات الجميلة الجديدة التي ابتدعها زرياب، خصوصاً بعدما أضاف وتراً خامساً إلى العود العربي الرباعي. ثم انتشرت صناعة الغناء في المجتمع الأندلسي مع صعود نجم زرياب فعلم الجواري والقينات واخترع الموضة والتشريفات. وبعد التدخل العسكري للدولة المرابطية في الأندلس – الذي أدى إلى تأخير سقوطها بأربعة قرون- نشأ تواصل وتبادل ثقافي بين الأندلسيين و صحراء الملثمين ، وقد حدثت هجرات بشرية كبيرة بعد سقوط غرناطة إلى الصحراء خوفا من اضطهاد المسيحيين ولا شك أن تلك المجتمعات المهاجرة جلبت معها ثقافتها ونمط عيشها وفلكلورها الشعبي إلى وطنها الجديد. يعقوب بن اليدالي