محمد بن تتا
قسم اللغة العربية بكلية الآداب
جامعة نواكشوط
حين دعاني أستاذنا الجليل عبد الله بن سيديا إلى تسطير هذه الفقرة تقديما للطبعة الأولى من ديوان ابن عمه ووالده( ) الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيديَ لم أتردد في القبول لاعتبارات عديدة لا متسع لاستيفائها. ولعل التردد ، في هذا المقام، كان أولى. فقد جرى عرف المقدمين لمثل هذه المطبوعات على سنن معهود من التعريف بالمحقق وبالعمل وتقريظهما ، وهو ما ارتأيت أنه من لغو القول، لأن النكرات لا تعرف المعارف، ولأن المحقق له في غنى عن مثل هذا التعريف، وهو- لا ريب - أغنى عن ثناء الظنين. أما تعريف المختصين بجهد المحقق في خدمة هذا الديوان فاستبضاع تمر إلى هجر. ثم إن لي – وقد اعروريت هذا التقديم – شغلا في أمرين:
أول هو أن "صلتي" ببعض نصوص الديوان تعود إلى سني الحداثة الأولى، بحكم المنشأ الذي كان يتعاطاها تبركا وتذوقا وتدريسا، وكان من حظي أن اطلعت، من بعد، على النسخة التي تجشم الأستاذ المحقق، مشكورا، عناء جمعها ضمن متطلبات الحصول على شهادة المدرسة العليا للتعليم صيفَ ثلاث وثمانين وتسعمائة وألف. وقد وددت أن أكتب عنه بعض ما يكتب الطلاب، ولكن تداعي أهل البلد( ) يومئذ على "كتابة" التاريخ السياسي والثقافي من منظورات ضيقة صرفني – والحق يقال – عن كل حماس لدرس الأدب الموريتاني، ووقر في نفسي أن الورع المنهجي يقتضي أن يتأثم الطالب الغر مثلي من تناول أعمال ذوي القربى سدا لذريعة الشطط في الحكم والانسياق وراء الهوى، فنحوت منحى آخر، ليس على، وجه الخصوص، وثيق الصلة بالشعر، وأنسيت أكثر القليل الذي ألممت به من أمر الشعر وأدوات نقده.
وثان هو أنني وجدت رِبّيين كثيرا من متأدبة( ) هذا البلد وغيره من بلاد العرب قد اطلعوا–مباشرة أو عبر وسائط الترجمة( )-على نتف من ثقافة الغربيين وآدابهم ونقدها ثم طفقوا يخرجون آداب العرب في قوالب مستوحاة من تلك المناهج، على نحو ليس يخلو في غالب الأحيان من فتنة مفهومية لا ينادى وليدها ومن فجاجة لا توصف. ورغم ما يقتضيه العمل الأكاديمي اليومي من احتكاك بهذه المناهج فإنني كنت دوما ضنينا بالشعر القديم، على وجه الخصوص، عن مثل هذا التناول، وربما سولت لي النفس الاستئناس خلال القراءة ببعض إشارات القدامى من أهل العربية في هذا المجال، في ما توهموه من أمر الشعر ونسجه( ). وفي ظني أنه من هذا المنطلق، تحديدا، يمكن أن نتلمس بعض مكونات اللحمة( ) في هذا الديوان الذي هو– في رأي المختصين–من أهم نصوص القرن الثالث عشر(العصر الذهبي للشعر الشنقيطي) على حد قولهم، بل العصر الذهبي للثقافة العربية الإسلامية ببلاد شنقيط( ).
لا ينفي ذلك أن الشعر بهذه الربوع بلغ مستوى عاليا من النضج مع شعراء القرن الثاني عشر من أمثال ابن رازكه واليدالي وبفمين والذيب الكبير، ولكن الشعر في القرن الثالث كان أغزر كما وأعلى مكانة داخل منظومة المعارف. ولعل مرد ذلك إلى ما يمكن أن يلحظ في هذا العهد من نضج شامل، كان من تجلياته النزوع إلى تجاوز تجاذبات الماضي بتأصيل كيان جديد أساسه تقبل الآخر في الثقافة والمجتمع: باستيعاب النزعات الدينية المتناحرة التي ظهرت في القرنين السابقين، وبتعقل الوجود الاجتماعي وتقبل بعض مكوناته بعضا، كيان ينتمي إلى كل ثقافي إسلامي عربي ولكنه، في الوقت ذاته، يحمل خصوصيته المميزة التي تشهد لها لهجته العربية (الحسانية) بشعرها وموسيقاها العالمة. وليس هذا بالغريب فالنزوع نحو الوحدة والاستقرار خصيصة بارزة من خصائص التاريخ العربي الإسلامي.
غير أن هذا القرن كان يقف على مشارف أزمة جديدة: ثقافية تتمثل في ضرورة الاجتياز من تمثل الثقافة العربية نحو الإضافة إليها (في مجالي الفقه والأدب على الأقل)، وحضارية تتمثل في ترسخ الوجود الأجنبي على تخوم البلاد، بما يعني ذلك من تهديد لوجود هذا الكيان في هذا الركن القصي من دار الإسلام.
يجسد الشيخ سيدي بن المختار بن الهيبه الأبييري، في رأينا مثالا عاليا لروح هذا العصر لا في مجرد الإحاطة بمجمل المعارف الشرعية والصوفية واللغوية المتداولة فحسب، بل بالفقه العميق بواقع الفضاء الشنقيطي الشامل، وبالوعي بضرورة تجاوز "التناقضات الداخلية" لمواجهة التهديد الخارجي( ). وذلك ما يفسر – من بين أمور أخرى - كيف "أذعنت له الزوايا وحسان وصار مثل الملك بينهم فلا يعقب أمره ... وكانت العرب في أرض شنقيط تجعله حرما آمنا فيجتمع عنده أحدهم بمن قتل أباه أو أخاه فيجلسهما على مائدة واحدة، وإذا بلغ الجاني نواحي البلد الذي يقيم به أمن على نفسه ولم يمض عليه يوم إلا وعنده آلاف من الناس يطعمهم ويكسوهم ويقضي جميع مآربهم حتى لقي الله"( )
لم يكن غريبا، إذن، في مركز روحي علمي سياسي مثل حضرة الشيخ سيدي تنشد فيها أشعار العرب وتتدارس أيامهم كل يوم وتنفض الأقتاب كل حين بأخبار الآفاق، أن تنال قضايا الشعر و"مشكلات العصر" حظها من التداول والمناقشة، وأن تجد لها صدى شعوريا مدويا في نفوس المريدين، الذين كان جيل الشاعر، بحكم حداثة السن، من أجدرهم بالاندفاع في الأخذ بها والدفاع عنها.
تغطي قصائد هذا الديوان مجالا شاسعا من الأشكال والأغراض والاتجاهات على امتداد مسار الشعر العربي القديم: من الأراجيز إلى القصائد والمقطعات، ومن الغزل والمدح والرثاء والوصف إلى الزهد والتصوف، ومن نهج الجاهليين إلى زخارف المتأخرين. ولعل جماع ما بين هذه الأشكال المختلفة ولحمة ما بين الأغراض المتنافرة أن "يعلم الواقف عليه" أو "من نظر فيه" أن قائل هذا الشعر قد جارى الشعراء في مختلف عصورهم وموضوعاتهم واستطاع أن يأتي بمثل ما أتت به العرب( ). وهذه – تقليديا – أولى الخطوات نحو خرق الأعراف والقواعد، أي بعبارة أخرى نحو الإبداع. كأنما يتمثل المبدع بقول الأول:
أهين لهم نفسي لأكرمها بهم ولن تكرم النفس التي لا تهينها
وإذا كانت النظرة الخاطفة إلى الديوان توحي بما انتهينا إليه، فإن قصيدة من قصائده ذائعة الصيت مطلعها:
يامعشر البلغاء هل من لوذعي يهدي حجاه لمقصد لم يبدع
تطرح مسألة الإبداع دون لف ولا مواربة.
غير أن مظاهر الأزمة الثقافية ببلاد شنقيط في الديوان لا تقف عند هذا الحد، فثمة إشارات إلى تغلغل التأثير الخارجي في طلاب الرزق ومعايش الناس( )أما الرائية المشهورة بما تضمنت من إلماح إلى تجارة الرقيق إذ ذاك فقد كانت تمثل مرحلة متقدمة من حدة الوعي بالخطر الداهم ومن الدعوة إلى البدار لدفعه استنقاذا للدين والعرض.
ختاما لهذه الكلمة الوجيزة أود أن أشكر للأستاذ المحقق ما بذل من جهد دؤوب في تحقيق هذا الديوان وتصحيحه وتمحيصه وشرح غوامضه. فلولا ما تحلى به من صبر وأناة لم يكن الديوان ليخرج على هذا النحو، ولعل الله أن ييسر له من الوقت والجهد ما يتناول فيه بالدرس والتحليل جوانب أخرى من العمل ، والله الموفق للصواب والهادي إلى سواء السبيل.
د. محمد بن تتا