ذكرى الرسول العربي / ميشل عفلق

ثلاثاء, 11/20/2018 - 00:50

الشخصية العربية بين الماضي والحاضر(1 )-

 

في مثل هذه الحفلات يخطر لي دوماً سؤال: ما هي قيمة الكلام؟ لم نعرف في تاريخنا زمناً كثر فيه الكلام وطغى على كل شيء مثل هذا الزمن الذي نعيش فيه، ومع ذلك فهو أقل العهود حيوية وإنتاجاً، فهل يكون الكلام إذا مساعداً على الشلل والعقم، بدلا من أن يكون دافعاً إلى العمل وخصب النفس؟ هناك فرق جوهري بين الكلام المرتبط بقائله الذي يعبر عن حاصل شخصية حية وعن موقفها الكلي من الحياة، وبين الكلام المنفصل عن الشخصية الذي لا يعني غير ذهن يلهو ولسان  يهذر. كان العرب شديدي التأثر باللفظ، لأن الألفاظ كانت عندهم حقائق نابضة مترعة بالحياة، فكان يسمعها القلب لا الأذن، و تجيب عليها الشخصية كلها لا اللسان وحده، لذلك كان للفظة قدسية وكانت بمثابة تعهد، تربط الحياة وتتصرف بها، سواء حياة الفرد أم حياة الجماعة.

 

فاللفظة التي كانت كالورقة النقدية تمثل قيمة معينة من الذهب، غدت اليوم مجرد قصاصة من الورق ليس وراءها ما يضمنها، فنحن نرى نفسا فقيرة إلى حد العدم تستطيع أن تغرق ما حولها ببحر من الكلام، وليس من يطالب بأن يكون وراء الكلام عمل يضمنه، فلا غرابة في أن تفقد الثقة وتلتبس الأمور ويكثر الغش والتلاعب وبالنتيجة الإفلاس والفضيحة.

 

نحن أمام حقيقة راهنة هي الانقطاع بل التناقض بين ماضينا المجيد وحاضرنا المعيب. كانت الشخصية العربية كلاً موحداً، لا فرق بين روحها وفكرها، بين عملها وقولها، أخلاقها الخاصة وأخلاقها العامة، وكانت الحياةالعربية تامة ريانة مترعة يتضافر  فيها الفكر والروح والعمل وكل الغرائز القوية. أما نحن فلا نعرف غير الشخصية المنقسمة المجزأة، ولا نعرف إلا حياة فقيرة جزئية، إذا أهلها العقل فإن الروح تجفوها، وان داخلتها العاطفة فالفكر ينبو عنها : إنها فكرية جديبة، أو عملية هوجاء، فهي أبداً محرومة من بعض القوى  الجوهرية، وقد آن لنا أن نزيل هذا التناقض فنعيد للشخصية العربية وحدتها، وللحياة العربية تمامها. يجب أن تتحد الصلاة مع العقل النير مع الساعد المفتول، لتؤدي كلها إلى العمل العفوي الطلق الغني القوي المحكم الصائب..

 

كان انتسابنا لأجدادنا الأبطال انتسابا رسمياً لا أكثر، واتصال تاريخنا الحديث بتاريخنا  المجيد اتصالاً طفيلياً  لا عضوياً. اليوم يجب أن نبعث فينا الخصال ونقوم بالأعمال التي تبرر نسبنا الرسمي وتجعله حقيقياً مشروعا. يجب أن نزيل ما استطعنا من حواجز الجمود والانحطاط حتى يعود الدم الأصيل المجيد فيتسرب إلينا. يجب أن ننقي أرضنا وسماءنا حتى تستأنس أرواح الجدود الأبطال فتهبط إلينا وتستطيب الهيمنة  فوقنا.

 

ظللنا زمناً طويلاً نعيش في جو ثقيل خانق لانه كاذب : طلاق بين الفكر والعمل، بين اللسان والقلب، كل لفظة نقولها تحدث جلبة الوعاء الفارغ، ووقرا في الاذن والنفس، لأنها مفرغة من معناها. كل كلمة نقرؤها  تحدث ارتعاشاً في بصرنا والماً، لأنها تتراءى لنا كالشبح والظل تذكرنا بشيء انقطع عهدنا به، وهي تحزننا كمرأى طلل هجره ساكنوه. فيجب ان نعيد الى الالفاظ معناها وقوتها، مقامها وحرمتها ان نجعل لكل لفظة موقفاًفي الحياة مقابلها. ان تجعل اللفظة مخبرة عن عمل قمنا به بعد ان كانت مذكرة بعمل عجزنا عنه، علينا الا نقول الا ما نقدر على تحقيقه، حتى يأتي يوم نقدر فيه ان نحقق كل ما نقوله.

 

الاسلام تجربة واستعداد دائم - ايها السادة : ان حركة الاسلام المتمثلة فى حياة الرسول الكريم ليست بالنسبة الى العرب حادثاً تاريخياً فحسب، تفسر بالزمان والمكان، وبالاسباب والنتائج، بل انها لعمقها وعنفها واتساعها ترتبط ارتباطاً مباشراً بحياة العرب المطلقة، اي انها صورة صادقة ورمز كامل خالد لطبيعة النفس العربية وممكناتها الغنية واتجاهها الأصيل فيصح لذلك اعتبارها ممكنة التجدد دوماً في روحها. لا في شكلها وحروفها. فالاسلام هو الهزة الحيوية التي تحرك كامن القوى في الامة العربية فتجيش بالحياة الحارة، جارفة سدود التقليد وقيود الإصطلاح. مرجعة اتصالها مرة جديدة بمعاني الكون العميقة، ويأخذها العجب والحماسة  فتنشئ تعبر عن  اعجابها وحماستها بالفاظ جديدة واعمال مجيدة، ولا تعود من نشوتها قادرة على التزام حدودها الذاتية، فتفيض على الأمم الأخرى فكراً وعملاً، وتبلغ هكذا الشمول. فالعرب عرفوا بواسطة هذه التجربة الأخلاقيةالعصيبة كيف يتمردون على واقعهم وينقسمون على انفسهم، في سبيل تجاوزها الى مرحلة يحققون بها وحدة عليا، وبلوا فيها نفوسهم ليستكشفوا ا ممكناتها ويعززوا فضائلها. وكل ما اثمر الاسلام فيما بعد من فتوح وحضارات انما كان فى حالة البذور فى السنوات العشرين  الاولى من البعثة، فقبل ان يفتح العرب الأرض فتحوا انفسهم وسبروا اغوارها وخبروا دخائلها، وقبل ان يحكموا الامم حكموا ذواتهم وسيطروا على شهواتهم وملكوا ارادتهم. ولم تكن العلوم التى انشأوها والفنون التي ابدعوها والعمران الذي رفعوه، الا تحقيقا ماديا جزئيا قاصرا لحلم قوي كلي عاشوه فى تلك السنوات بكل جوارحهم والا رجعا خافتا لصدى ذلك الصوت السماوي الذى سمعوه  وظلا باهتا لتلك الرؤى الساحرة التي  لمحوها يوم كانت الملائكة تحارب في صفوفهم، والجنة تلمع من بين سيوفهم.

 

هذه التجربة ليست حادثا تاريخيا يذكر للعبرة والفخر، بل هي استعداد دائم في الامة العربية - اذا فهم الاسلام على حقيقته- لكي تهب في كل وقت تسيطر فيه المادة على الروح، والمظهر على الجوهر، فتنقسم  على نفسها لتصل الى الوحدة العليا والانسجام السليم، وهى تجربة لتقوية اخلاقها كلما لانت وتعميق  نفوسها كلما طفت  على السطح، تتكرر فها ملحمة الاسلام البطولية بكل فصولها من تبشير واضطهاد وهجرة وحرب، ونصر وفشل، الى ان تختم  بالظفر النهائي للحق والإيمان.

 

حياة الرسول خلاصه لحياة العرب -ان حياة الرسول وهي ممثلة للنفس العربية في حقيقتها  المطلقة لا يمكن ان تعرف بالذهن، بل بالتجربة الحية لذلك لا يمكن ان تكون هذه المعرفة بدءا بل هي نتيجة. فالعرب منذ ضمور الحيوية فيهم، اي منذ مئات السنين يقرأون السيرة ويترنمون بها ولكنهم لا يفهمونها لان فهمها يتطلب درجة من غليان النفس قصوى، وحدا من عمق الشعور وصدقه لم يتوفر لهم بعد، وموقفا وجوديا  يضع الانسان امام قدره وجهاً لوجه، وهم أبعد ما يكونون عن ذلك.

 

إن أرواح أبطالنا لتجفونا وتهجرنا منذ زمن طويل، لأن البطولة لم تعد من مزايا العرب المألوفة، ويخشى أن يكون هذا التعظيم العامي للرسول الكريم معبراً عن القصور والعجز اكثر منه تقديراً للعظمة، فقد بعد عهدنا بالبطولةحتى أمسينا ننظر اليها نظرة خوف ورهبة واستغراب كأنها من عالم غير عالمنا، في حين  ان التعظيم الحقيقي للبطولة انما يصدر عن المشاركة فيها وتقديرها بعد المعاناة والتجربة، فلا يقدر البطل الا الذي يحقق ولو جزءا يسيرا من البطولة في حياته.

 

حتى الآن كان ينظر الى حياة الرسول من الخارج  كصورة رائعة وجدت لنعجب بها ونقدسها، فعلينا ان نبدأ بالنظر اليها من الداخل، لنحياها. كل عربي في الوقت الحاضر يستطيع ان يحيا حياة الرسول العربي، ولو بنسبة الحصاة الى الجبل والقطرة الى البحر. طبيعي ان يعجز اي رجل مهما بلغت عظمته ان يعمل ما عمل محمد. ولكن من الطبيعي ايضاً ان يستطيع اي رجل مهما ضاقت قدرته ان يكون مصغراً ضئيلا لمحمد، ما دام ينتمي الى الأمة التي حشدت كل قواها فأنجبت محمدا، او بالاحرى ما دام هذا الرجل فردا من افراد الامة التي حشد محمد كل قواه فأنجبها. في وقت مضى تلخصت في رجل واحد حياة امته كلها، واليوم يجب ان تصبح كل حياة هذه الامة في نهضتها الجديدة تفصيلاً لحياة رجلها العظيم. كان محمد كل العرب، فليكن كل العرب اليوم محمدا.

 

الاسلام تجدد العروبة وتكاملها- رجل من العرب بلغ رسالة سماوية فراح يدعو اليها البشر، ولم يكن البشرحوله الا عربا فاستجاب للدعوة نفر قليل  وقاومها اكثرهم، فهاجر مع المؤمنين وحاربه المشركون الى أن انتصر الحق فآمن به الجميع. فملحمة الاسلام لا تنفصل عن مسرحها الطبيعي الذي هو ارض العرب، وعن ابطالها والعاملين فيها وهم كل العرب. مشركو قريش ضروريون لتحقق الاسلام ضرورة المؤمنين له، والذين حاربوا الرسرل ساهموا في ظفر الاسلام كالذين ايدوه ونصروه. ان الله  قادر ان ينزل القرآن على نبيه في يوم واحد، ولكن ذلك اقتضى اكثر من عشرين عاما، وهو قادر ان ينصر دينه ويهدي اليه كل الناس في يوم واحد، ولكن ذلك لم يتم في اقل من عشرين عام، وهو قادر ان يظهر الاسلام قبل ظهوره بعشرات القرون وفي أية أمة من خلقه، ولكنه اظهره في وقت معين وفي حينه، واختار لذلك الأمة العربية وبطلها الرسول العربي. وفي كل ذلك حكمة، فالحقيقة الباهرة التي لاينكرها الا مكابر، هي اذن، ان اختيار العرب لتبليغ رسالة الاسلام كان بسبب مزايا وفضائل اساسية فيهم، وان اختيار العصر الذي ظهر فيه الاسلام كان لان العرب قد نضجوا وتكاملوا لقبول مثل هذه الرسالة وحملها الى البشر، وأن تأجيل ظفرالإسلام طوال تلك السنين، كان بقصد ان يصل العرب الى الحقيقة بجهدهم الخاص وبنتيجة اختبارهم لأنفسهم وللعالم  وبعد مشاق وآلام، ويأس وأمل، وفشل وظفر. اي ان يخرج الايمان وينبعث من اعماق نفوسهم، فيكون الايمان الحقيقي الممتزج مع التجربة، المتصل بصميم الحياة.

 

 فالاسلام اذن كان حركة عربية، وكان معناه : تجدد العروبة وتكاملها. فاللغة التي نزل بها كانت اللغة العربية، وفهمه للاشياء كان بمنظار العقل العربي، والفضائل التي عززها كانت فضائل عربية ظاهرة أو كامنة، والعيوب التي حاربها كانت عيوبا عربية سائرة  في طريق الزوال. والمسلم في ذلك الحين لم يكن سوى العربي، ولكن العربي الجديد، المتطور، المتكامل. وكما نطلق اليوم على عدد من افراد الامة اسم "وطني" أو "قومي" مع ان المفروض ان يكون مجموع الأمة قومياً، ولكننا نخص بهذا الاسم الفئة  التي آمنت بقضية بلادها لانها استجمعت الشروط والفضائل اللازمة كيما تعي انتسابها العميق الى أمتها وتتحمل مسؤولية هذا الانتساب، كان المسلم هو العربي الذي آمن بالدين الجديد لانه استحضر الشروط والفضائل اللازمة ليفهم ان هذا الدين يمثل وثبة العروبة الى الوحدة والقوة والرقي.

 

انسانية الاسلام- ولكن هل يعني هذا ان الاسلام وجد ليكون مقصوراً على العرب؟. اذا قلنا ذلك أبتعدنا عن الحق وخالفنا الواقع. فكل أمة عظيمة، عميقة الاتصال بمعاني الكون الأزلية، تنزع في أصل تكوينها الى القيم الخالدة الشاملة. والاسلام خير مفصح عن نزوع الامة العربية الى الخلود والشمول فهو اذن في واقعه عربي وفي مراميه المثالية انساني. فرسالة الاسلام انما هي خلق انسانية عربية. ان العرب ينفردون دون سائر الأمم بهذه الخاصة : ان يقظتهم القومية إقترنت برسالة دينية، او بالاحرى كانت هذه الرسالة مفصحة عن تلك اليقظة القومية. فلم يتوسعوا بغية التوسع ولا فتحوا البلاد وحكموا استناداً الى حاجة اقتصادية مجردة، أو ذريعة عنصرية، او شهوة للسيطرة والاستعباد.. بل ليؤدوا واجباً دينياً كله حق وهداية ورحمة وعدل وبذل. أراقوا من اجله دماءهم، واقبلوا عليه خفافاً متهللين لوجه الله. وما دام الارتباط وثيقاً بين العروبة والاسلام، وما دمنا نرى في العروبة جسماً روحه الاسلام، فلا مجال اذن للخوف من ان يشتط العرب في قوميتهم. انها لن تبلغ عصبية البغي والاستعمار... وطبيعي  ان العرب لا يستطيعون اداء هذا الواجب الا اذا كانوا أمة قوية ناهضة، لان الإسلام لايمكن ان يتمثل الا في الامة العربية، وفي فضائلها واخلاقها ومواهبها. فأول واجب تفرضه انسانية الاسلام اذن هوان يكون العرب اقوياء  سادة في بلادهم. الاسلام كائن حي متميز بملامح وحدود ظاهرة بارزة، والكائن الحي المتميز الراقي في مراتب الحياة يكون هذا الشيء ولا يكون ذاك الشيء، هو يعنى هذا المعنى ويناقض ذلك المعنى ويعاديه: الاسلام عام وخالد ولكن عموميته لا تعني انه يتسع في وقت واحد لشتى المعاني والاتجاهات بل انه في كل حقبة خطيرة من حقب التاريخ وكل مرحلة حاسمة من مراحل التطور يفصح عن واحد من المعاني اللامتناهية الكامنة فيه منذ البدء، وخلوده لا يعني انه جامد لا يطرأ عليه تغير او تبدل، وتمر من فوقه الحياة دون ان تلامسه، بل انه بالرغم من تغيره المستمر، ومن استهلاكه لكثير من الاثواب، وافنائه لعديد من القشور واللباب، تبقى جذوره واحدة، وقدرتها على النماء والتوليد والابداع واحدة لا تنقص ولا تفنى، هو نسبي لزمان ومكان معينين، مطلق  المعنى والفعل  في حدود هذا الزمان وهذا المكان.

 

فهل يدري اولئك الغيورون الذين يريدون ان يجعلوا من الاسلام جرابا يسع كل شيء، ومعملا ينتج شتى المركبات والادوية، انهم بدلاً من ان يبرهنوا على قوته ويحفظوا فكرته من كل تغير طارئ، يقضون بذلك على روحه وشخصيته ويفقدونه مميزاته الحية واستقلاله وتعيينه، وانهم من جهة اخرى يفسحون المجال لدعاة الظلم وأرباب الحكم الجائر، كي يستمدوا من الاسلام اسلحة يطعنون بها مادة الاسلام نفسه، اي الامة العربية ؟.

 

 اذن فالمعنى الذي يفصح عنه الاسلام في هذه الحقبة التاريخية الخطيرة، وفي هذه المرحلة الحاسمة بين مراحل التطور، هو ان توجه كل الجهود الى تقوية العرب وانهاضهم وان تحصر هذه الجهود في نطاق القومية العربية.

 

العرب والغرب - منذ قرن ونصف قرن عاد اتصال الغرب بالعرب بواسطة حملة بونابرت على مصر، وقد رمز هذا الداهية الى ذلك الاتصال بأن علق لوحات كتبت فيها آيات القرآن الى جانب حقوق الانسان. ومنذ ذلك الحين ما برح العرب (أو الرؤساء الدخلاء على العروبة) يدفعون نهضتهم الحديثة في هذا الاتجاه الأشوه، فهم يجهدون انفسهم ويرهقون نصوص تاريخهم وقرآنهم ليظهروا ان مبادىء حضارتهم وعقيدتهم لا تختلف عن مبادئ الحضارة الغربية، وانهم كانوا اسبق من الغربيين الى اعلانها وتطبيقها. وهذا لا يعني الا شيئاً واحداً: وهو انهم يقفون امام الغرب وقفة المتهم مقرين له بصحة قيمه وأفضليتها. ان الواقع الذي لا محيد عن الاعتراف به هوان غزو الحضارة الغربية للعقل العربي في وقت جف فيه هذا العقل حتى أمسى قوالب فارغة، يسر لتلك الحضارة ان تملأ بمفاهيمها ومعانيها فراغ هذه القوالب. ولم تمض فترة من الزمن حتى انتبه العرب الى ان ما يخاصمون الاوروبيين عليه هو نفس ما يقول به هؤلاء، وانهم لايفرقون عن الاوروبيين الا بالكم، كما يفرق القليل عن الكثير، والمقصر عن السابق، ولن يتأخر الوقت الذي يعترفون فيه بالغاية المنطقية لهذا الاتجاه، اي ان في الحضارة الاوروبية ما يغني عن حضارتهم. فحيلة الاستعمار الاوروبي لم تكن في انه قاد العقلية العربية الى الاعتراف بالمبادئ والمفاهيم الخالدة، اذ ان هذه العقلية معترفة بها وقائمة عليها منذ نشأتها. ولكن هي في اغتنامه فرصة جمود العقلية العربية وعجزها عن الابداع ليضطرها الى تبني المضمون الاوروبي الخاص لهذه المفاهيم. فنحن لسنا نخالف الاوروبيين في مبدأ الحرية، بل في ان الحرية تعني الذي يفهمونه منها. ان أوروبا اليوم، كما كانت في الماضي، تخاف على نفسها من الاسلام. ولكنها تعلم الآن ان قوة الاسلام (التي كانت في الماضي معبرة عن قوة العرب) قد بعثت وظهرت بمظهر جديد هو القومية العربية. لذلك فهي توجه على هذه القوة الجديدة كل اسلحتها، بينما نراها تصادق الشكل العتيق للاسلام وتعاضده. فالاسلام الاممي الذي يقتصر على العبادة السطحية والمعاني العامة الباهتة آخذ في التفرنج، ولسوف يجيء يوم يجد فيه القوميون أنفسهم المدافعين الوحيدين عن الاسلام ويضطرون لأن يبعثوا فيه معنى خاصا اذا أرادوا ان يبقى للامة العربية سبب وجيه للبقاء.

 

شرف العروبة : من هذه المفاهيم الاوروبية التي غزت العقل العربي الحديث فكرتان عن القومية والانسانية فيهما خطأ وخطر كبير.

 

فالفكرة القومية المجردة في الغرب منطقية اذ تقرر انفصال القومية عن الدين. لان الدين دخل على اوروبا من الخارج فهو اجنبي عن طبيعتها وتاريخها، وهو خلاصة من العقيدة الاخروية والاخلاق، لم ينزل بلغاتهم القومية، ولا أفصح عن حاجات بيئتهم، ولا امتزج بتاريخهم، في حين ان الإسلام بالنسبة الى العرب  ليس عقيدة اخروية فحسب، ولا هو أخلاق مجردة، بل هو اجلى مفصح عن شعورهم الكوني  ونظرتهم الى الحياة، واقوى تعبير عن وحدة شخصيتهم التي يندمج فيها اللفظ بالشعور والفكر، والتأمل بالعمل، والنفس بالقدر. وهو فوق ذلك كله اروع صورة للغتهم  وآدابهم، أضخم قطعة من تاريخهم القومي، فلا نستطيع  ان نتغنى ببطل من ابطالنا الخالدين بصفته عربيا ونهمله او ننفر منه بصفته مسلما. قوميتنا كائن حي متشابك الاعضاء، وكل تشريح لجسمها وفصل بين اعضائها يهددها بالقتل  فعلاقة الاسلام بالعروبة ليست اذا كعلاقة اي دين بأية قومية.وسوف يعرف المسيحيون العرب، عندما تستيقظ فيهم قوميتهم يقظتها التامة ويسترجعون طبعهم الاصيل، ان الاسلام هو لهم ثقافة قومية يجب ان يتشبعوا بها حتى يفهموها ويحبوها فيحرصوا على الاسلام حرصهم  على اثمن  شيء في عروبتهم. واذا كان الواقع لا يزال بعيدا عن هذه الامنية، فان على الجيل  الجديد من المسيحيين العرب مهمة تحقيقها بجرأة وتجرد، مضحين في سبيل ذلك  بالكبرياء والمنافع، اذ لا شيء يعدل العروبة وشرف الانتساب اليها.

 

الإنسانية المجردة : أما الخطر الثاني وهو خطر الفكرة الانسانية المجردة على النمط الاوروبي، فيؤدي في نتيجته  العميقة الى اعتبار الشعوب كتلا من البشر جامدة متجانسة  ليس  لها جذور في الارض، ولا يؤثر فيها الزمن، فيمكن ان تطبق على واحد منها الإصلاحات والانقلابات التي تنشأ من حاجات واستعدادات شعب غيره. وبعد، فهل يحسب اصحاب النظريات الثورية في الإقتصاد والإجتماع انهم بالصاقهم ثماراً من الشمع على عود جاف ينفخ الروح في هذا العود، ويجعل منه شجرة حية؟ لا يكفي ان تكون النظريات والاصلاحات معقولة في حد ذاتها، بل يجب ان تتفرع تفرعا حيا عن روح اعم هي لها منبع واصل. يظن بعضهم اليوم ان ادخال الاصلاحات المختلفة على وضع العرب يكفي ليبعث الامة. ونحن نرى في هذا مظهرا من مظاهر الانحطاط لانه نظرة معكوسة، ووضع للفرع مكان الاصل، وللنتيجة مكان السبب. فالواقع ان هذه الاصلاحات فروع لابد لها من اصل منتج عنه كما تخرج الازهار من الشجرة، وهذا الاصل نفسي قبل كل شيء  هو ايمان الامة برسالتها، وايمان ابنائها بها. في الاسلام، كان الايمان باله واحد هو الاصل، وعنه تفرعت كل الاصلاحات التي طرأت على المجتمع العربي وقلبته. ولم يكن المسلمون الأولون في مكة يدرون ان موافقتهم على توحيد الله والايمان باليوم الآخر ستقودهم الى الموافقة عن كل التشريع الذي فصله الاسلام فيما بعد ونراهم مع ذلك يطبقون هذا التشريع تطبيقا عفويا، طوعيا منطقيا، لان موافقتهم الثابتة كانت ضمنية في الموافقة الاولى على الإيمان  باله واحد، فكل ما يأمر به هذا الإله هو حق وعدل ومهما قيل في تدخل العوامل السياسية والاقتصادية في مناهضة قريش للإسلام  يبقى العامل الرئيسي عاملا دينيا، أي فكريا. وان الآخذين اليوم بالطريقة المشوهة في تعديل الدين تعديلا ماديا ليخالفون واقع التاريخ والنفس الانسانية من جهة، ويطعنون العرب من جهة اخرى في اثمن مميزاتهم: في مثاليتهم. فلقد رأينا قريشا عندما اضطرتها مصالحها المادية ان تهادن الرسول فى صلح الحديبية، تصر على ان تنكر عليه وحيه ودينه الجديد.

 

فمما تقدم يتضح سبب  تعليقنا كل الاهتمام على الشعور القومي العميق الواعي، باعتباره اصلا، لانه وحده الضامن للاصلاحات الإجتماعية ان تكون حية فاعلة جريئة، منسجمة مع روح الشعب وحاجاته، يحققها لانه يريدها.

 

الجيل  العربي الجديد- ايها السادة : اننا نحتفل بذكرى بطل العروبة والاسلام. وما الإسلام الا وليد الآلام، آلام العروبة، وان هذه الآلام قد عادت الى ارض العرب بدرجة من القسوة والعمق لم يعرفها عرب الجاهلية فما احراها بان تبعث فينا اليوم ثورة مطهرة مقومة كالتي حمل الإسلام لواءها. وليس غير الجيل العربي الجديد يستطيع أن يضطلع بها ويقدر ضرورتها، لأن آلام الحاضر قد هيأته  لحمل لواء هذه  الثورة، وحبه لأرضه وتاريخه قد هداه لمعرفة روحها واتجاهها.

 

نحن الجيل العربي الجديد نحمل رسالة لا سياسة، ايمانا وعقيدة لا نظريات واقوالا. ولا تخيفنا تلك الفئة الشعوبية المدعومة بسلاح الأجنبي، المدفوعة  بالحقد العنصري على العروبة، لأن الله والطبيعة والتاريخ معنا. انها لاتفهمنا  فهي غريبة عنا.  غريبة عن الصدق والعمق والبطولة، زائفة مصطنعة ذليلة. لا يفهمنا الا المجربون والذين يفهمون حياة محمد من الداخل، كتجربة اخلاقية وقدر تاريخي. لا يفهمنا الا الصادقون الذين يصطدمون في كل خطوة بالكذب والنفاق والوشاية والنميمة، ولكنهم مع ذلك يتابعون السير ويضاعفون الهمة. لا يفهمنا الا المتألمون، الذين صاغوا من علقم اتعابهم ودماء جروحهم  صورة الحياة العربية المقبلة التي نريدها سعيدة هانئة، قوية صاعدة، ناصعة تتألق بالصفاء. لا يفهمنا الا المؤمنون، المؤمنون بالله. قد لا نُرى نصلي مع المصلين، او نصوم مع الصائمين، ولكننا نؤمن بالله لاننا في حاجة ملحة وفقر اليه عصيب، فعبئنا ثقيل وطريقنا وعر، وغايتنا بعيدة. ونحن وصلنا الى هذا الإيمان  ولم نبدأ به، وكسبناه بالمشقة والألم، ولم نرثه ارثاً ولا استلمناه تقليداً، فهو لذلك ثمين عندنا لانه ملكنا وثمرة اتعابنا. ولا أحسب ان شابا عربيا يعي المفاسد المتغلغلة في قلب امته، ويقدر الاخطار المحيطة بمستقبل العروبة تهددها من الخارج وخاصة في الداخل، ويؤمن في الوقت نفسه ان الامة العربية يجب ان تستمر في الحياة، وان لها رسالة لم تكمل أداءها بعد، وفيها ممكنات لم تتحقق كلها، وان العرب لم يقولوا بعد كل ما عليهم ان يقولوه، ولم يعملوا كل الذي في قدرتهم ان يعملوه، لا احسب ان شابا كهذا يستطيع الاستغناء عن الايمان بالله، اي الايمان بالحق، وبضرورة ظفر الحق، وبضرورة السعي كيما يظفر الحق.

 

ميشيل عفلق

5 نيسان 1943

 

(1 ) خطاب القي على مدرج الجامعة السورية في 5 نيسان عام 1943