المصدر: رصيف 22
أحمد ولد جدو
تُعتبر من أهم نماذج الدول المستقرة في إفريقيا. نظامها السياسي تعددي، وفيها تداول سلمي على السلطة ولم تؤرقها الانقلابات العسكرية في تاريخها الحديث، بعكس الكثير من الدول الإفريقية. هذه هي الصورة الشائعة عن السنغال.
والسنغال كانت مستعمرة فرنسية، استقلت في الرابع من أبريل 1960، وتسيطر عليها اللغة والثقافة الفرنسيتين. هذا جانب من صورة هذه البلاد.
لكن للسنغال أوجه أخرى، من ضمنها الوجه المستعرب، أي حضور الثقافة العربية والإسلامية في هذا البلد الإفريقي الذي يجاور العرب، من خلال جيرته لموريتانيا، إذ تحتضن الكثير من الناطقين بالعربية وتنتشر فيها معاهد ومؤسسات تنشر الثقافية العربية وتحيي فعاليات كثيرة ذات صلة.
تحتضن السنغال مجموعة من اللغات التي يعتبرها الدستور السنغالي، لغات وطنية، وهي: بالانتا غانجا والعربية الحسانية وجولا فوني والمندنكا والمانجاك والمانكانيا والنون والبولارية والسيرير والسوننكية والولوفية، وهذه الأخيرة هي الأكثر انتشاراً وهي لغة الشارع.
لكن الفرنسية هي لغة الإدارة في السنغال. أما العربية فقد سبق أن صرّح وزير التربية السنغالي السابق أبادير تام بأن 35% على الأقل من السنغاليين يتكلمونها.
وبخصوص الديانات المنتشرة بين المجموعات العرقية التي تشكّل شعبها، هناك 94% من السنغاليين مسلمون و5% مسحيون، إضافة إلى 1% إما وثنيون أو يعتنقون معتقدات أخرى.
بداية التواصل مع العرب واللغة العربية
يختلف المؤرخون حول وصول اللغة العربية إلى السنغال. وتقول بعض الروايات إنها وصلت بفعل حركة التجار العرب الذي كانوا يأتون إلى المنطقة للتجارة، وتغلغلت بعمق بين أبناء المنطقة في بداية النصف الأول من القرن الـ11 ميلادي.
وعن بدايات ذاك التلاقي، قال رئيس النادي الأدبي في السنغال، الأستاذ فاضل غي لرصيف22: "لا شك أن التجار العرب زاروا السنغال كما زاروا دولاً إفريقية أخرى لنشر الدعوة الإسلامية إلى جانب تجارتهم، كما بيّن المؤرخ البكري".
والبكري هو أبو عبيد عبد الله بن عبد العزيز بن محمد بن أيوب بن عمرو البكري، جغرافي وموسوعي وأديب عربي أندلسي (1030- 1094م)، اشتهر في القرن الحادي عشر الميلادي، ويُعتبر أول مَن كتب وصفاً مفصلاً لإمبراطورية غانا الإسلامية في غرب إفريقيا، وذلك في كتابه "المسالك والممالك".
ويضيف غي أن "المؤرخين لا يفرّقون بين تاريخ دخول الإسلام إلى السنغال وبين دخول العربية إليها، وواضح أن أجدادنا سرعان ما تفاعلوا مع الإسلام وأقبلوا على اللغة العربية تعلماً وتعليماً، بل حوّلوا منازلهم إلى كتاتيب قرآنية، ومجالس فقهية لتحفيظ القرآن الكريم لأبنائهم وأتباعهم وتعليمهم العربية".
وفي دراسة لمهدي ساتي صالح بعنوان "مؤسسات التعليم الإسلامي والعربي في السنغال"، يقول: "تعرّفَت السنغال على الإسلام منذ القرون الأولى لانتشاره في شمال القارة الإفريقية وقيام دويلات المغرب الإسلامي، بل يرجح البعض أن تكون قبائل السنغال قد اتصلت بالإسلام منذ الفترات الأولى لدخوله إلى مصر، بينما يربط البعض بين تحركات عقبة بن نافع وإسلام بعض شعوب نهر السنغال خاصة، وبعض مؤرخي قبائل الفلان يُرجعون أصولهم إلى ابن نافع ويؤكدون انتسابهم إليه ومن شواهد ذلك ما جاء في الشطر الأول من قصيدة للشيخ عبد الله بن فوديو يقول فيها: وعقبة جد الفلان من عرب".
وابن فوديو عالم دين وُلد في شمال نيجيريا عام 1766 وتوفي سنة 1829. أما الفلان، فهم شعب ينتشر في غرب إفريقيا ووسطها وساحلها، ويتكلم اللغة الفولانية.
ويتحدث الدكتور محمد المختار جيي، رئيس مركز البحوث والدراسات الإفريقية في السنغال، عن دور حركة المرابطين في نشر الثقاقة العربية والإسلامية في السنغال، ويقول: "مهما تناقضت الروايات فمن المؤكد أن المرابطين رسخوا الإسلام وثقافته في السنغال، وذلك منذ أن اتخذ عبد الله بن ياسين رباطه في شبه جزيرة بضفاف نهر السنغال، وقضى فيها هو وأصحابه عدة سنوات كاملة (1013- 1053)، يعلّم الأفارقة الدين والثقافة الإسلامية".
والمرابطون دولة إسلامية ظهرت خلال القرنين الخامس والسادس الهجريين في الجزء الشمالي الغربي من القارة الإفريقية، ووضع أسسها الأولى ابن ياسين، الداعية المالكي الذي توفي عام 1059، وسيطرت على رقعة جغرافية شاسعة، من المحيط الأطلسي غرباً حتى حوض نهر السنغال جنوباً.
الحركات الصوفية كناشر للعربية والإسلام
يعتبر الكثيرون من الباحثين أن للحركات الصوفية أكبر الأدوار في نشر اللغة العربية والثقافية الإسلامية في السنغال وغيرها من الدول الإفريقية، والحفاظ عليها من الاندثار عبر الزمن وتقلباته والتصدي لتأثيرات تهميشها من طرف المستعمر الفرنسي والحكومات التي أعقبته.
فقبل مجيء المستعمر، كانت المرسلات تتم باللغة العربية، لكن مع مجيئه انتهجت الإدارة الاستعمارية سياسات لنشر الفرنسية.
وقال الأستاذ غي لرصيف22: "في الحقيقة مشايخ الطرق الصوفية كان لهم الدور الرائد في نشر الثقافة الإسلامية واللغة العربية في البلاد، وليس أدل على ذلك من كون العربية لغة للإدارة السنغالية قبل مجيء المستعمر الفرنسي بسنوات طويلة، كما أن كل المؤلفات والكتب التي ألفها أجدادنا من المؤسسة الطرقية كانت بالعربية، وتزخر مكتباتنا الوطنية بتلك المؤلفات المنوّعة من فقه وتصوف ونحو، والرواية وعلم النجوم، والسيرة النبوية، إلى جانب الدواوين الشعرية. ولا شك في أن احتكاك صوفيي السنغال بإخوانهم من المشايخ الموريتانيين ساعدهم في الضلوع في لغة القرآن الكريم والتميّز في نظم الشعر العربي الفصيح بأوزانه وقوافيه".
وعرض إسماعيل يعقوب الشيخ سيدي، الكاتب الموريتاني المهتم بالشؤون الإفريقية والمقيم في السنغال، جوانب من تأثير الطرق الصوفية في نشر العربية والثقافة الإسلامية في السنغال والحفاظ عليهما.
وقال لرصيف22: "الدور الذي لعبته الطرق الصوفية في نشر الثقافة العربية والإسلامية في السنغال دور كبير ومهم، فهذه الطرق لا بد لها من السلام والاستقرار ولا تمارس السياسة، وكان المستعمر حذراً منها ولم يكن ودياً معها، وقد أبعد الشيخ أحمدو بمبا في نهاية القرن التاسع عشر، ونفاه لمدة ست سنوات إلى الغابون، وكان أحد كبار مشايخ الطرق الصوفية، وقبل ذلك تقاتل مع حركة الماميات التي يقودها الحاج عمر الفوتي وكان لديها مشروع دولة".
وأضاف: "ورثت الدولة السنغالية الوطنية الحديثة ذلك الحذر، لكنها تتعامل مع الصوفيين على أساس أنهم مكوّن وطني مهم ورسمي وتحتفظ لهم بجميع أعيادهم، رغم أنها دولة علمانية وأول رئيس للسنغال كان مسيحياً، وهو ليوبولد سنغور (حكم بين عامي 1960 و1980)".
وتابع: "بما أن المكون الإسلامي طاغٍ، كان تعامل الدولة السنغالية مع الحركات الصوفية جيداً، وهذه الحركات هي التي خلّدت الحرف العربي والثقافة العربية والإسلامية، فالسنغال ليست دولة عربية لكن الطرق الصوفية كانت تعتمد الحرف العربي في المرسلات التي كانت تتم باللغة المحلية البولارية والولفية".
وواصل الشيخ سيدي حديثه قائلاً: "لم يعمل على تقوية العربية ولا الثقافة الإسلامية لا المستعمر ولا الدولة الوطنية التي تلته، بل الحركات الصوفية، ولولاها لما ترسخ الإسلام في السنغال ولا العربية، لأن التنصير كان جارياً على قدم وساق خاصة في مدينة سينلوي، وذلك في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر".
ويضيف أن "ذلك لم يمنع
سينلوي من أن تكون حاضرة إسلامية قديماً وحديثاً، لأن المرابطين استقروا فيها سابقاً، ومشايخ الصوفية قدموا إليها في عهد الدولة الفرنسية وكانت مركزاً تجارياً، وهو نفس ما حدث مع كازمانس جنوب السنغال التي نشط فيها التبشير بقوة، هي والشاطئ الأصغر، لكن الإسلام والثقافة الإسلامية والعربية ظلا موجودين".
لكن أكثر المناطق التي ترسخ فيها الإسلام والثقافة الإسلامية والعربية هي منطقة جولوف، حيث تقع مدينة طوبى التي أسسها سنة 1887 العالم السنغالي ومؤسس الطريقة المريدية الشيخ أحمدُ بامبا (1853-1927).
ويؤكد الشيخ سيدي أن "الحركات الصوفية حالياً هي مكون اجتماعي محترم والحكومة تعتبرها شريكاً مهماً وتساهم في السلم الأهلي بين مكونات المجتمع، وهي منظمة ولها تأثير في الانتخابات".
ويضيف أنه "رغم أنها تعلن ولاءها للسلطة ولا تتدخل في السياسة، إلا أن النخب تتبارى لكسب ودها، وتذهب إلى المراكز الصوفية مثل مدينة تيواون ومدينة كوناص وكولخ وطوبا"، مشيراً إلى أن الطريقة التيجانية والنسخة المطوّرة من الطريقة القادرية، أي الطريقة الموريدية والطريقة القادرية الفاضلية، هي أبرز الطرق الصوفية في السنغال.
مؤسسات وتجارب لنشر الثقافة العربية
في القرن التاسع عشر، ظهرت في السنغال تجارب ساهمت في نشر العربية والثقافية الإسلامية، وهي الجامعات الشعبية، ومنها جامعة بير التي أسسها القاضي عمر فال، بعد عودته من شنقيط، وكانت تدرّس مبادئ اللغة وعلوم الرسم، وأحرقها الفرنسيون سنة 1864، ومدرسة "بوكي دياو" التي أسسها العالم الديني محمد علي أمبا سنة 1801، وجامعة كوكي وهي مبادرة تأسست على يد مختار أندومب جوب، إضافة إلى تجارب أخرى مثل مدرسة بوغي وغجلين وغيرهما.
وفي الخمسينيات من القرن الماضي، ظهرت موجة أخرى من التجارب الهادفة إلى نشر الثقافة العربية والإسلامية، أطلقها سنغاليون درسوا في دول عربية وتخرجوا من مؤسسات كالأزهر والزيتونة والقرويين، إذ طوّروا نظام التعليم العربي في السنغال، فظهرت مدارس الفلاح التي تأسست في الستينيات، ومعهد الشيخ الحاج عبد الله نياس بكولخ، ومؤسسة الأزهر الإسلامية التي تأسست سنة 1978، ولها معاهد ومدارس تعلّم علوم العربية والدين الإسلامي، ومعهد دكار الإسلامي الذي تأسس سنة 1973.
وقال فاضل غي: "من الجلي والواضح أن الجمعيات الإسلامية لعبت وتلعب أدواراً مهمة في بناء المدارس العربية والمعاهد والمراكز الإسلامية، بل شرع بعضها في تأسيس كليات للغة العربية في دكار العاصمة ومدن أخرى مثل الكلية الإفريقية للدراسات الإسلامية (2001)".
ويتحدث غي أيضاً عن أنشطة نادي السنغال الأدبي الذي تأسس قبل عامين وهو مَن يرأسه، من إقامة أمسيات شعرية وندوات أدبية وتنظيم مسابقات ثقافية وشعرية، وعن أنشطة أندية أدبية أخرى، مثل نادي الشاذلي بن جديد ونادي الأدب العربي السنغالي، وهي أندية توقفت لافتقارها إلى الدعم والمساندة.
كما يتحدث عن مشروع جامعة يزمع "الخليفة العام للطريقة المريدية الشيخ المنتقى بشير امباكي" على بنائها في طوبى، "لتكون المدينة الدينية منارة للعلم والثقافة الإسلامية".
وتابع غي: "ليست هناك معطيات أو إحصاءات بالنسبة لعدد السنغاليين الذين يتقنون العربية كتابة وتحدثاً، لكن الواضح أن الذين يتعاطون مع الشأن العربي يتزايدون يوماً بعد يوم، وأن قسم اللغة العربية في جامعة دكار يستقبل سنوياً عدداً هائلاً من الطلبة الذين يختارونه حباً بالعربية وحرصاً على التعمق في آدابها".
كما يشير غي إلى أن "المسؤولين الرسميين مثل رئيس الجمهورية والوزراء يتباهون بإدخال كلمات عربية في خطبهم مثل آية قرآنية، أو بيت شعري لأحد المشايخ السنغاليين".
للسنغال أدباؤها المستعربون
ويتجسد حضور العربية في السنغال كذلك من خلال الأدب والشعر. فبحسب فاضل غي، شعراء السنغال بالعربية أكثر من الفرنكوفونيين.
ومن كبار الشعراء السنغاليين قديماً القاضي مجختي كالا، الشيخ أحمد بامبا أمباكي، الشيخ الحاج مالك سي، الشيخ محمد نياس الخليفة والشيخ إبراهيم نياس، والشيخ الهادي توري والشيخ أحمد عيان سي.
ومن المعاصرين يمكن ذكر الشاعر شيخ تيجان غاي، ومحمد الأمين عاج والشاعر أحمد محمد جيي.
أما الجيل الصاعد، فيبرز فيه على سبيل المثال لا الحصر عبد الأحد الكجوري، حماه الله صو، علي با، مالك سيك، نجوغو امينغ السيوطي، بابا أمادو فال، ومحمد نيانغ، نفيسة بوسو، وأمينة سيسي الخنساء.