تقول الكاتبة الأميركية ليز كاربنتر:
"كم خسرنا حين توقفنا عن كتابة الرسائل، لا يمكنك إعادة قراءة مكالمة هاتفية."
تختصر هذه المقولة ؛قليلة الحروف جزءا كبيرا من التراثِ الإنساني عبر العصور الماضية ، جزءًا كان له كم هائل من الموظفين و المختصين و النوابغ، و هو جزء يحتاج منظمة دولية للحماية من الانقراض.
تتحدث الكاتبة عن موضوع جديد يُشبه البكاء على الأطلال في الثقافة الأدبية العربية ، و ربما هو بكاء الصبا و ما رافق الإنسان في فترة من فترات حياته فبفقدانه يَعتقِد أنه أضاع جزءًا منه و أنه يَشعر بألم حاد كلما تذكر ذلك أو مرّ بما يُذكره به.
و يعتقد بعد المتفلسفين أن الإنسان كُتلةٌ مُتدحرجة باحتكاكها تترك جزءا منها في كل مكان تمُر به و على كل شيءٍ تَلمَسُه حتى تصل إلى نهاية الأجزاء القابلة للتساقط، هناك تَسقط بقية الكُتلة في مكانها الأخير، أو أن الإنسان مائدة من موائد الطبيعة، تُقسَّمُ كما تُقسَّمُ الأرزاق و الحظوظ
في تخطيط سابق دقيق.
و يمكن أن يُعدَّ هجوم الألكترونيات على خصوصيات الفرد و الجماعة هجوما كاسحا يَخترق كلَّ خصوصيات الأفراد و أذواقهم و حتى الماضي بكل جوانبه و الحاضر بعنفوانه و ربما المستقبل بآماله و أحلامه.
الرسائل كانت أقدم وسائل التواصل الموثقة، و الرسالة ليست حروفا و كلمات فقط،فالرسائل تحمل الواقع مُتمثلا في الورق أو الجلد ...و التطور مُتمثلا في نوعية الأقلام و المِداد... و الثقافة مُتمثلة في نوعية الخط و الأسلوب ...و علم الاجتماع مُتمثلا في أساليب الخطاب و توطئة الأخبار...و أكاد أجزم أن للرسائل رائحةً، و أنها تُصدر أصواتا، و مَن يدري فقد تحمل إحساسا، فكم تمّ تَقبيل الرسائل و ضمها و شمُّها.
و الرسائل شعور مُخزَّن لا يحتاج نَتًا و لا كهرباء و لا أجهزة، فكلما حنّ الفرد إلى فلان مَدَّ يده و أخرج قطعة من التاريخ ، قطعة من الماضي لكنها ناطقة بالحب أو الوصية و التوجيه أو الأخبار و الطُّرف و النوادر الجميلة.
و من العجيب أن كتابة الفرد نفسه تختلف كل مرةً عن سابقتها ، من حيث شكل الحرف مما يضع احتمال أن الحرف يحمل شحنةً نفسية من صاحبه لحظة الكتابة، و هي شحنة تصل تماما كما تَصل الرسالة، و من حيث الأسلوب فهو يَحمل في كل مرة درجة تَطور الحكمة و الإدراك و المستوى المعرفي لصاحبه، و من حيث السرد و التفصيل حيث يحمل ذلك معاني الراحة و السعادة، و من حيث جمالية الألفاظ و رقتها حيث يُصور ذلك درجة الحُبّ و التقدير و الاحترام.
فهل يُمكِن تصور عودة الرسائل من جديد؟
و هل تكون تلك عودة للرفاهية؟
و هل ستقتصِرُ على النخبة؟
يرى الفيلسوف ألبيرت أنشتاين أن الحرب العالمية الرابعة ستكون بالعصيِّ و الحجارة ، و بذلك نتصور أن الحرب العالمية الثالثة ربما تستَنفِدُ كل ما جُمِعَ من وسائل الدمار ، و موائد التّخدير، و قواعد الرّقيِّ و الرفاهية ، و خدائع الوسائل الأخرى.
فهل يعني ذلك العودة الإجبارية إلى الحياة الطبيعية ؟
و هل يعني العودة إلى التواصل المَخطوط ؟
إن الحنين إلى الرسائل هو حنين إلى البساطة بكل تجلِّياتِها، و ربما هو هروبٌ من عالم مُزدحِمٍ ، عالَمٍ غُصَّ فضاؤه و امتلأت أرجاؤه، و ذلك الهروب إلى الوراء يُشبه اعترافا حقيقيا بجمالية ذلك الماضي التي لم ندركها حتى ضاعت ، و ها نحن نمدُّ إليها بعد قرون أكُفّا تحمل الدمعَ و النّدم، و نَبسط بساطَ الضراعة آمِلين أن تعود و لو جُزئيا، و نَعِدُ أن نعضّ عليها بالنّواجذِ إذا عادت مرة أخرى مرةً واحدة فقط تكفي حتى لا نخسر الفرصة كخسارتنا الأولى،و التي شكَّلت سقوطًا هائلا في ردهاتِ الفَراغِ السحيق و المُخيف.
مما يوجب علينا أن نطرح سؤالا كبيرا و جديدا،
إلى أين يسيرُ بِنَا هذا العَالمُ الجديد ؟
٢٩