يودور ميخايلوفيتش دوستويفسكي ؛ هو روائي وكاتب قصص قصيرة و صحفي و فيلسوف روسي و هو واحدٌ من أشهر الكُتاب و المؤلفين حول العالم
يقول:
" إن لابسي الأقنعة قد كثروا في زماننا هذا، حتى أصبح من العسير اليوم أن نتعرّف إلى الشخص خلف القناع. "
القِناع في اللغة هو الغطاء الساتر للرأس ، أو الحامي له ، و الذي يُعطِي صورةً مختلفة عن الصورة الأصلية،
و قد عرفت الثقافة العربية الأقنعة من قديم الزمان، فنجِد عند الفارس الشاعر عنترة بن شداد العبسي القناع ، الذي يتماهَى مع الغيب فيضعه الزمنُ على الأحْداثِ المُستقبلِيّة كي يُغطيها فتكون مُفاجِئةً لأصحابها حين يقول:
إذا كشف الزمان لك القناعا
و مَدَّ إليكَ صرف الدهر باعا
و نجد القناع في صورته المُتداولة عند المُقنَّعِ الكِنديِّ و الذي اتّخذهُ لقَبا و صفة و اسم شهرةٍ بلغَ الآفاقَ، لكن القناع حسب الرواية ليس للخداع و الغِشِّ عند الكِنديِّ بل بسبب الجَمالِ و الخوف من تأثير العيون، و رماح الحسد و العُجْبِ و غيرها.
و هذه الأقنعة و إن اشتَركت في الاسم و الهدف ليست هي المقصودة في مقولة الفيلسوف الروسي "فيودور ميخايلوفيتش"
فما هي الأقنعة المقصودة ؟
و لماذا تُستخدم ؟
و ما دورها في تغيُّرِ المواقف؟
و ما مدى انتشارها ؟
اجتاحت العالم في بداية القرن الماضي الحفلات التنكُّرية، و هذه الحفلات و إن كانت ساخرة و تم اختيارها للتسلية فإنها لمست نبضا حيًّا و قاربت أن تُصوِّرَ جزءًا من الحقيقة ، و التي يُحاول النَّاسُ إخفاءَها بكلِّ ما يملكون من قوةٍ و أدوات و أساليب .
و تعدد الأقنعة في زماننا بتعدد المواهب و المجالات و تغَيُّر الظروف ؛ الدينية و السياسية و الاجتماعية و الفكرية و الإعلامية...
ففي المجال السياسي، ميدان الخِطابة الأول في الديمقراطيات المُتحكمة، يلبَس السياسيون أقنعةَ الإصلاح و الدفاع عن القِيّمِ و المُثُلِ ، و الدفاع عن حقوق الإنسان ، ذلك الإنسان المُكرَّم و المُمَجَّد، الذي يستحقُّ ذلك لبشريته فقط بعيدا عن اللون و العِرق و الدين و الانتماءِ الطائفي، لكن الهُوَّةَ بين المَنطوقِ -المُتمثِّل في الخِطاب و المَضمونِ المُتمثل في المَفهومِ من الكلماتِ و التطبيق الذي يُحدِّدُ بصفةٍ أدق صدق الكلام - كبيرة و كبيرة جدا ، حتى أن الإنسان العاميَّ البسيط الذي أشكل عليه فهمُ الخِطاب و صَعُبَ عليه تَمييزُهُ يستطيع بسهولة فهمَ تَهافُتِه ساعةَ التطبيق دون كبير عناءٍ.
و إذا كان السياسيون مُمتَحَنونَ بالتطبيقِ المَفروضِ عليهم بحُكْمِ الوَظيفةِ و الدَّورِ المَنوطِ بهم اجتماعيا، فليس الأمر كذلك عند بقيَّةِ الجماعات و الأفراد،
و ليس رجال الإعلام منهم ببعيد ، فهم يُشعلون الشاشات بالآراء و المواقف ، و زهور الحُرِّيَةِ ، و الدفاع عنها و التضامن التام مع الضعفاء و المُهمشين، لكن القناع يسقط حين يصعد الإعلاميون مِنصةَ التّتويجِ و التكريم، و من طرفِ الفصيلِ الأول السياسي المذكور سابقا ، و الذي قرر تكريمهم على هذا العطاء الرائع، لكن أحدا لم يسأل عن أولئك الضعفاء أصحاب الصوَّر و المَقاطع،
ما الذي حدث لهم؟
و أين انتهى بهم الحال؟
أم أنهم كانوا ممثلين في برامج الغابات و الأدغال ؟
و هناك ينتهي دورهم بافتراس القوي
للضعيف، و تنتهي اللقطة ، المؤثرة ، التي حصلت على ملايين مناديل الدموع، و التي صنعتها شركة أحد أباطرة رجال الفصيل الثالث؛ الاقتصاد.
هذا الفصيل الثالث المُشاركُ في توزيع الأدوار و الأقنعة، و الرابح من أعمال الفصيلين السابقين، يستخدم أقنعة المساعدات الإنسانية التي تتم تغطيتها إعلاميا و بشكل لافت و على محطات رائدة، و يتِم تقديمُ الجانب الإنساني الوَضاء لزمرة رجال المال و الأعمال بوصفهم الدافعين المُفترضين لهذه المساعدات السخية، وبسقوط القناع تَظهَرُ تلك المساعدات جزءا من حملة دعائية جديدة لمنتوجاتهم و بضائعهم، و يظهر أن طبقة الكادحين البسيطة هي من قدمت ذلك، عبر ضرائب و زيادات طفيفة لا تظهر في التوزيع ، لكنها تتحول إلى أرقام هائلة في المُحصِّلة النِّهائة.
ثم يأتي دور الفصيل الرابع، و الذي يتكون من بعض رجال الدين و الفِكر الذين يرتبطون بالفصيل الثاني بالشراكة و مع الفصيل الأول و الثالث بالتوظيف و الفوائد و الامتيازات الخاصة، و دور هؤلاء إضفاءُ صِبغة مَقبولة على الفصيل الأول ، الذي يُعتَبَرُ الواجِهةَ التي باستمرارها يستمر القطار في طريقه المحدد و على سِكَّةٍ أكثر ثباتا.
و في المحصلة فإن الأقنعة الاجتماعية و الثقافية و الوظيفية الأخرى هي مجرد تقليد و تشبُّهٍ بالمجموعات السابقة مع فوارق السلطة و الإعلام و المال و الرمزية و القَلمِ،و حين يملكُ لابِسو الأقنعة الصِّغار الجُدُد جزءًا منها يدورون في فَلَك ذلك التيار و يتخذون طريقه، و يستخدمون أساليبه و سلطته حسب النِّسَبِ المُتوفِّرةِ لديهم ، و من هنا يسود التّشابُهُ فيُخَيَّلُ إلى الرَّائي أن الأقنعةَ جزءٌ من اللباسِ الطبيعيِّ للبشريةِ في تَطوُّرِ الموضةِ الجديد، و اختلاف الأزمنة و الظروف، عندها يلبسُ الرائي قناعَهُ المُناسبَ، أو يخسَرُ السِّباقَ بسبب عَدَمِ التَّأقْلُمِ مع الأحداثِ و المُعطياتِ الراهنة، لأننا في حفلة تنكُّرية دائمة تختلِفُ عن الحفلات المؤقتة السابقة، فتلك الحفلاتُ السابقةُ لا تملِكُ تأثيرا فِعليا على الحاضر و المُستَقبَل، و لا تستخدِمُ الإنسانَ كحقلِ تَجارب، و لا المُحيطَ كغنيمة، و لا التصادمَ كتطوُّرٍ محمودٍ و مَطلوب !.