ميشيل دي مونتين :
أحد أكثر الكتاب الفرنسيين تأثيرا في عصر النهضة الفرنسية ، و رائد المقالة الحديثة في أوروبا ، قلَّد اليونانين والكلاسيكيين في عادتهم في رصف الحِكم والأمثال في ثوب مسجوع، تأثر بكتابات أرسطو، و لكنه ابتكر لنفسه أسلوبا خاصا
من أقواله المشهورة:
"الموضة عِلمُ المَظاهر يُلهِمُ المَرءَ كيفَ يبدو ، لا كيفَ يكون"
قبل الحديث عن الموضة، من الأحسن الحديث عن أسبابها و أهدافها ، التي جعلتها تجد طريقها إلى العالم الحديث، بل تكون موضع ترحيب و تبجيل يفوق حد الخيال و الوصف، و من يوم أن عرفها العالم و هو يمهِّد لها الطُّرقَ ، و يُنظِّمُ لها الحفلات، و ذلك في جميع أرجاء العالم؛ الغني و الفقير، القوي و الضعيف، المتطور و المتخلف، الأميِّ و المثقف.
و بهذا الاستقبال الخيالي توالدت الموضةُ و توسعت عموديا و أفقيا لتشمل التجارات المعروفة سابقا، كالعُروض و الأصناف، و جميع أنواع الصناعات الحديثة، و أصبح لكل سلعة موسم عرضها، و موضتها الجديدة، التي يجدر بالمتميزين اقتناؤها حتى و لو ظلت سابقتها تَعمل بكامل الأناقة و الجودة و الجَمال، كما أن الموضة صحبت معها صناعات جديدة ملموسة و مُتخيلة،
أرضية و فضائية.
فما هي الموضة؟
و ما هو تأثيرها؟
و كيف تُمكِن مواجهتها؟
و من أين تجد مفعولها السِّحري؟
مع تطور العالم و تزايد وسائل الصناعة، و سرعة الإنتاج، تراكم في مخازن المصنعين كمٌ هائل من البضائع فكان لابد من صرفها بأي طريقة، و لأن الإنسان الزراعي، و العامل الذي أجهده الكدُّ على عياله ، يعرف قيمة الدخل و مصدره لن يُفرِّط في ما يوفره لأجل بضاعة لا يحتاجها مؤقتا، فقد لجأ المصنعون إلى طرق سحرية جديدة، و ذلك بالتزاوج مع الإعلام ؛الصوت الناطق و الصورة المُشاهدة، و التكرار الممل، حتى يزرع أرضية داخل النفوس و القلوب، تُشبه أجهزة التحكُّمِ الداخلية، و استعان الإعلام بالمفاتيح الفعلية للمجتمع كالساسة، و الفنانين بأصواتهم و صورهم الجميلة، و رصيدهم السابق في قلوب المحبين، و كذلك بالرياضيين، الأمر الذي يجعل الشابة البدوية المزارعة الفلاحة تعتقد أنها بلبس الثوب المعروض ستكون مثل الفنانة فلانة، تلك الفنانة التي تم انتقاؤها طبيعيا، و مرت بأحسن و أحدث صالونات التجميل، و لُقِّنت أجمل الحركات و أشدها إغراءً و تَناغما مع قلوب المشاهدين، تحت إشراف خبراء و علماء نفس، و ما يُعرَفُ بشياطين الشاشات.
الموضة هي طريقة عرض لنوع جديد يُشبه السابق من حيث الدور و الغاية، و قد لا يتفقان في التفاصيل و المقاسات، و قد لا يملك جودة أكثر، لكنه بالتأكيد لا يتحمل نفس الظروف، و لا يضمن مدة استخدام أطول.
الموضة في كل البضائع المصنوعة، و هي في الأشكال و الأطعمة و الملبوسات و المقتنيات، و وصلت اليوم إلى شكل الإنسان شعره و لونه و الأخراص و النتوءات ...مما ولَّدَ نوعا من الخوف المنطقي لدى عقلاء العالم، الخوف على المستقبل، على الاستثمار، على المنتَج المُفيد،الخوف على الأرقام، على الحسابات، الخوف على الإنسان من هول الصدمة، و هوَّة الفارق الكبير بين الأغنياء و الفقراء، بين الحديث و القديم.
لقد شكل ابتكار مجموعة تزيد على الخمسين من المهندسين الأذكياء جدا لتطبيق مثل الواتساب صدمةً كبيرة حين قدرت قيمته بقرابة عشرين مليار دولار، مُتجاوزا قيمة شركات كبرى بكل واحدة مائة ألف مهندس و عمرها يفوق القرن.
مَردُّ هذه الصدمة أن تجار المواد الغذائية و تجار الأدوية و المعدات التعليمية... يُمكن أن يوجهوا استثمارهم إلى صناعة السراب و الوهم ، فهي مغريَّةٌ جدا، و التجارة السابقة أصبحت مُتخلِّفةً عن الركب،
و هذا الجانب الأخلاقي و المستقبلي مخيف حقا.
ما الذي قدمته هذه التطبيقات حتى تجعل صناعات رائدة و نافعة خارجَ الدورةِ الاقتصادية الجديدة؟
لو قورنت فؤائد تطبيق منها بقيمة و فوائد الأجهزة الصحية و الأدوات الطبية على أيِّ أسسٍ ستتم هذه المقارنة و بأيِّ منطق عقلي؟
هذا ما نعيشه اليوم فماذا عن القادم من الصناعات الوهمية التي تتلاعب بالإنسان، بالقيَّمِ، بالطبيعة؟
و لماذا يظل مؤشر هذه الشركات و التطبيقات الهلامية في تصاعُد دائم، و تزايد طردِيٍّ مُستمِر؟
"الموضة علمُ المظاهر يُلهم المَرء كيف يبدو"
المظاهر خداعة كما يقول الفيلسوف ديكارت عن الحواس فهي التي ستقدِّم المظهر بالرؤية المباشرة،
من المهم الاهتمام بالمظهر بشكل عادي و ليس إلى درجة الجنون و التباهي ، لأنها تجعل صاحبها جزءًا من المعروض ، لا مالكَ البضاعة و المستفيد منها، إن الموضة كما يقول الفيلسوف ميشل دي مونتين تُعلمنا الشكل و كيف نبدو في عيون الناظرين ، و لكنها لا تتطرق إلى الأساس ، إلى الجوهر ، إلى الكينونة الحقيقية لنا كيف نكون.
يرى العالِم الفيزيائي ألبيرت أينشتاين أن حربا عالمية رابعة ستكون بعد تحطيم كل شيء، ستكون بالعصيِّ و الحجارة، فهل هو فشل المنظومة العالمية، و يرى آخرون أن العُملة المستقبلية هي الرصاص وحده،
و هذه كلها تصورات قاتمة مُخيفة، فهل لها ما يدعمها في واقعنا اليوم؟
تتجاذب دفة قيادة عالمنا الحديث أكُفُّ المؤسسات الحاكمة، بقدراتها الاقتصادية و العسكرية و الإعلامية، لكن أكُفًا خفيةً أخرى مجهولة تُمسك هي الأخرى طرفا من دفة القيادة و بقوة ، و يتجاذب معهما الدفة تسابق غريب حول اكتشاف أدوات و أسلحة
يمكنه في أيِّ لحظة اختطاف الدفة كاملة، و دون سابق إنذار.
و السؤال المهم و المطروح بقوة:
لقد صنعنا مؤسساتنا الإعلامية، و قدراتنا الصناعية ،و أسلحتنا كبشر ،
لاستخدامها في تحسين ظروفنا، لكنها بدأت تفاعلاتها الداخلية دون علمنا،
و لم نعد قادرين على توقيفها أو لَجمِها ،فماذا يمكننا فعله اليوم، لأن الغَدَ سيكون أصعب و أكثر تعقيدا؟