غـــــــــــــادة البراكنة​​​​​​​ / ناجي محمد الإمام

خميس, 01/31/2019 - 12:29

 

في ليلة متوسطية حالمة من ليالي ربيع 1997 في فندق "قصر ليبيا " بحي الظهرة في طرابلس العرب، على بعد خطوات من مينائها الجميل؛ كالعادة؛ تحتفي الطبيعة بنفسها والناس .
شردتُ مع وصلة تراقص فيها الأمواج الأضواء على وجنة البِركة الخالدة التي شهدت كتابة تاريخ البشرية على صفحتها أزلية الزرقة والهدوء. 
على هذه البقعة المحملة بالوقائع و المواقع تجثم قلعة السرايا الحمراء المهيبة مقر إيالة الباشا القرمنلي والي الدولة العثمانية شبه المستقل الذي قاتل أسطول الدولة الوليدة آنئذ :الولايات المتحدة الأمريكية و انتصر عليها . 
هنا.. على شرفة جناح مطل على أسفار موسوعة حوادث الدهور ،جلستُ، أنا، إلى موسوعة أفصح وذاكرة أنصح : إنه أستاذي و صديقي،مع حفظ الفارق ،سنا ومعنى ،العالم الفرد المرحوم الأستاذ الدكتور علي فهمي خشيم الشاعر الفيلسوف المؤرخ إمام اللغات فَلْتَةِ الزمان ومُلْحة المكان، يحدثني تارة في التفسير وأخرى في اللغات وأحيانا في فرائد الأدب ، وقد نثرتُ أمامه ما جلبتُ من رحلتي الأخيرة ،التي سعى لتمويلها ،إلى مركز "أرشيف فرنسا لما وراء البحار" بـ(أيكس آن بروفينس) المشهور بجنوب فرنسا ..
من بين الوثائق صور أعداد من " سلسلة دراسات حول الإسلام" التي كانت تصدرها الدولة الاستعمارية في (مجلة العالَم المُسلم) من مختلف مراكز ومعاهد الدراسات الفرنسية عن هذا العالم الواقع حينها تحت الاحتلال الثأري المسيحي الغربي، وكان يقول : رغم فداحة الثمن فقد تركت لنا هذه الدراسات والبحوث ثروات لا تقدر بثمن عن كافة جوانب تاريخنا ولغاتنا وعاداتنا وتقاليدنا ــ وفوق ذلك ـ عن الثروات والتضاريس والنباتات والحيوانات أليفها و بريها، والهوام زاحفها والطائر.
ومن المآخذ الكثيرة عليه، وربما تكون مقصودة ــ إهمال الشأن الثقافي العالِم ، مالم يكن تحليلا أمنيا لموقف فرد أو قبيلة تجاه الاستعمار و استقصاء عن ارتباطه بخلفية فكرية ،ولاءً أو معارضة.
من هنا جاء موضوع بحثنا: "الثقافة العربية البيضانية والاستعمار الفرنسي من خلال كتابات بول مارتي" ، وقد خضع العنوان والموضوع لمراجعات كثيرة بفضل الدكتور خشيم طيب الله ثراه..
في كراس من كراريسه الهامة، تناول المستعرب الباحث بول مارتي، كل وحدة جغرافية أو سياسية موريتانية ،بكتابات تبدو، رغم غزارة مادتها، أقرب إلى التقرير الاستخباري منها إلى البحث العلمي الموثق ، ولكنها ،في حالة بلادنا ، تعتبر كنزا ثمينا من المعلومات يؤخذ منه ويرد ، وبه من الحساسية ما يجعل نشره بأمانة، مغامرة لا تستحق المغامرة، وقد اهتممتُ بالموسوم منه"قبائل بيضان إمارة البراكنة" .

وأخذ مني في أطوار التنقيب و الترتيب والبحث و التركيب، فترةً من أخصب سني عمري اقتدارا واجتهادا وصحة، رغم أنها كانت الأصعب سياسيا و ماديا، ففيها تبخرت الآمال وتوقف النضال وتكسرت النصال، إنها إبان هجمة السلام الامريكي والتطبيع مع الصهيوني وتَفَرُّقِ سامرِ قِوى الرفض المحلي وانتشار التشكيك في الثوابت ونهاية التاريخ ببداية "أوسلو" وعنوانه المثير: غزة و أريحا أوَّلا"، التي تمثلتْ في وجود سفير للكيان المسخ على بُعد 500 متر من منزلي ،في عقر عاصمة البرزخ .
إنها مُحبطات "سامويل هنتنغتون".
هربتُ من هذه "القيامة" لأسعدَ بعالم البحث فغرقتُ فيه، بمساعدة أخلاء لا أنساهم ولا أستطيع أن أكافئهم إلا بإشهار حسن صنيعهم، ومنهم ، قبل الناس أجمعين مولاي العلامة المرحوم محمد سالم عدود ، والدكتور الذي ظللتُ في ضيافته العلمية و العملية إشرافا وإيواءً وإكراما وتلطفاً، حتى استوى العمل ، وخليلي و صفيي الأستاذ الإعلامي الأديب البارز خطري ولد جدو وكان حينها وزيرا للثقافة ، الذي حفزني على إنجازه وكان ،لا زال، الناصح الأمين والرفيق المعين ، وكنتُ أشغل معه،حينها موقع مستشار..
قال لي "الدكتور على": ما هو أطرف ما لقيت في الوثائق خلال رحلتك هذه؟
قلتُ : إن آفة الطرفة والنكتة الشرحُ ..ولكنني مضطر، لكي تصلك بأغلب توابل نكهتها، أن أفسر ألفاظها المبهمة لشدة مَحَلِّيَّتها، وشرحتُ له ما يوصل القصة ، وهي أن "مارتي" في تناوله لقبائل البراكنة ، وفقاً للتسلسل، جاء على ذكر قبيلة"سُباكْ" وهي من قبائل (الزوايا) المحترمة، فأخضعها لمنهجيته المعروفة، مضيفا، بجرأة الأجنبي و حيادية الباحث ، شهرة "مسكوتا عنها" رغم شيوعها في أغنية حسانية عريقة(شور) متوارثة من عهود غابرة غريبة.
و وجه غرابتها وفرادتها أنها
تشيد بخاصية بيولوجية (رائعة) كانوا ينفردون بها هي :جمال الصبايا.ولتأكيد هذا المتواتر عليه أورد أبياتا شعرية فصيحة غاية في جودة السبك وطرافة بل "حداثة" المعاني، وترجمها إلى اللغة الفرنسية بشعرية لافتة، يتغزل قائلها بجمال إحدى غواني هذه القبيلة الكريمة،كما كان العرب يفعلون ، ولولا هذا المستعرب الباحث لما وصلتنا هذه الفرائد التي سقطت من الذاكرة الجمعية ، التي تؤكد صدق خاصية الملاحة التي حفظتها الأغنية الشعبية ، والتي خص بها الله هذه العشيرة الكريمة...
يقول الشاعر المبدع المجهول :

لله غانية من حي سُ(و)بَــــاكي * 
تمشي الهُوَّيْنا على أحقاف ألواكِ*
خمصانة كمهاة الرمل خِرْيِعَة * 
مُستاكة أبَدًا من غير مِسواكِ*
يا درةً فوق نحر الدهر حَيَّاكِ * 
مــني نسيمٌ لهُ رَيٌ كَــــرَيَّاكِ*
ماءُ الحياة وماءُ الموت قد جمعا *
للنَّاظرينَ ـ لَعمْري ـ في مُحَيَّاكِ*

قال الأستاذ : حتى في هذه ما زلتم أرشيف العادات و الخصائص العربية ،أكثر ،حتى من أعرق سكان الجزيرة والشام و ما بين النهرين.
قلت : كيف؟
قال: أليس الوأواء الدمشقي أو عنترة العبسي (إن صحت الرواية) من حدد وأفرد كل عشيرة عربية بخاصية جمالية:

**حجازية العينين نجدية الحشى**

عراقيّة الأطراف رومّية الكَفلْ**

**تِهاميّة الأبدانِ عبسيَّة اللَّمى

**خزاعيةُ الأَسنانِ دُرية القُبَلْ**
________________________
للمتابعة نرجو ممن لديه فكرة عن موضع "ألواك"
أن يفيدنا به،فرغم الجهد لم أعثر له على موقع.