الأستاذ محمد سالم عبد المجيد
لا يمكن أن يمر يوم 19من فبراير/شباط، دون أن تنتفض تلك الذكرى الجميلة من مرقدها، ودون أن يثور ذلك العنفوان الحالم فينتصب شامخاً ليقول: «لا»، في وجه كل طاغية مستبد. من قال إن الشعراء والمفكرين والمبدعين الحقيقيين يموتون؟ قد يرحلون عن دنيا الناس هذه لكنهم لا يموتون كباقي البشر؛ لأن مرورهم لم يكن عابراً، فهم باقون في حنايا الروح وبين المآقي والأحداق؛ إنما غابوا فقط ليكتمل حضورهم دائماً وأبداً، ولا شك في أن الشاعر والمناضل الراحل فاضل أمين (1954 ـ 1983) أحد أولئك.
الحديث عن أمين (واسمه الحقيقي محمد الأمين محمد فاضل) في ذكراه الخامسة والستين، ليس حديثاً عن شاعر ثائر ناضل من أجل وطن يحلم به فملأ دنياه وشغل ناسه، ولا عن عبقري عمره الإبداعي أطول بكثير من حياته التي عاشها؛ بقدر ما هو حديث عن حقبة تاريخية موريتانية بأكملها.
ولد فاضل أمين عام 1954 في محلّة لا تبعد كثيراً عن المذرذرة؛ إحدى مقاطعات ولاية اترارزة، وتلقى تعلميه الأول في الكتاتيب، وعلى يد والده، فنهل من معين الثقافة التقليدية لغة وأدباً، وهو ما يزال غض الإهاب، ثم تاقت نفسه إلى التعليم النظامي فانخرط فيه وحصل على الثانوية العامة عام 1975، وعمل لفترة وجيزة في الإعلام متنقلاً بين إذاعة موريتانيا والوكالة الموريتانية للصحافة والنشر. وقبل التحاقه بالإذاعة كان قد سافر إلى السينغال للعمل في مجال التجارة، وهناك اتصل بالثقافة العربية الحديثة عن طريق الجرائد والمجلات والكتب التي كان يطالعها في دكاكين التجار الشاميين (السوريين واللبنانيين)، وهي التي عرّفته إلى التيار القومي العربي وجعلته لاحقاً ينخرط في صفوفه عندما عاد إلى موريتانيا في بداية تشكّل الحركات السياسية، كما لعبت إذاعة «صوت العرب» من القاهرة أيضاً دوراً كبيراً في تشكيل انتمائه العروبي، وتعزيز وعيه الأيديولوجي. وقد ورثت موريتانيا عن الاستعمار الفرنسي تركة ثقيلة تمثلت في هيمنة اللغة الفرنسية وثقافتها على أوجه الحياة العامة، خاصة في الجانب الإداري والتعليمي، مما أحدث انفصاماً كبيراً بين النظام السياسي القائم بلغته وتعليمه، وبين المجتمع بانتمائه وثقافته، وسدّ الباب أمام معظم أبنائه ذوي الثقافة العربية من حيث الولوج إلى العمل والتعليم، ومكّن الأجانب من الهيمنة على مجالات الإدارة.
وفي جوٍّ كهذا، كان لابد من انبعاث حركة نضالية قومية تعود بالمجتمع إلى جادة الانتماء وتدعو إلى ترسيم اللغة العربية وثقافتها في الإدارة والتعليم، وإلى تمكين أبنائه من إدارة شؤون دولتهم بأنفسهم، غير أن تلك الحركة واجهت معارضة شديدة وقمعاً عنيفاً من أصحاب الثقافة الفرنسية الذين لا يزالون يتحكمون في مختلف مفاصل الدولة، فزُج بأبنائها في السجون وعُذّبوا وطوردوا، وفُصلوا من العمل، ودفعوا ثمناً باهظاً إزاء مواقفهم سجناً وتعذيباً وقتلاً، وكان فاضل أمين من أصلبهم عوداً وأقواهم عزماً.
أما من ناحية انتمائه الشعري فيصنف أمين نقدياً ضمن التيار الرومانسي الثوري، بلغته السهلة الرقراقة المنسابة، وصُوره الشعرية المُجنِّحة المستمدة من الطبيعة المحيطة، وعاطفته الصادقة المتوثِّبة، وأسلوبه السهل الممتنع، على الرغم من بقايا رواسب لغوية تأوي إلى ركن مكين في اللغة القاموسية قد تصادفها ـــ عرَضاً ـــ في بعض نصوصه؛ نتيجة خلفيته الثقافية؛ أو ما يسميه بعض النقاد بـ«فضاء التشكّل».
وقد اشتغل نقاد وباحثون كُثر على أدبه وتعرضوا لنواحٍ عديدة فيه، ومن بينهم الدكتور الباحث محمد عبدي في كتابه «ما بعد المليون شاعر»، كما كتب آخرون مقالات نقدية تتناول شعره مثل محمد المختار محمد فال الذي قال عنه: «وليست ثمة قضية سياسية تصدى لها الوطنيون الشرفاء إلا وتناولها في شعره (..) إنه واحد من أبرز رواد الحركة الشعرية المعاصرة في موريتانيا».
أما الناقد الدكتور محمد عبد الحي عميد كلية الدراسات العربية والإسلامية في دبي فقد قال عنه: «ولئن لم يُمهل المنون الشاعر فاضل أمين حتى يبلغ مداه، فإن نصوصه ستبقى من جهة صورة لموهبة شعرية لا غبار عليها، ومن جهة أخرى صورة لفترة تاريخية من حياة البلد نمت فيها آمال وانتكست، وظهر فيها حكام عُلّقت عليهم آمال وخيّبوها (..) وعرف فيها المجتمع آمال مخاض مريرة، وكل تجربة تُكسِب تجربة، ولا يصنع المجتمعات العظيمة إلا الآلام العظيمة».
ارتبط اسم فاضل أمين سياسياً وأيديولوجياً بالحركة الوطنية القومية في سبعينيات وأوائل ثمانينيات القرن الماضي فكان جزءاً منها، ومما عرفته من صراعات مختلفة على الهوية الثقافية والحضارية للدولة، فضلاً عن نضاله ضد ما يراه استبداداً قائماً تمارسه السلطة الحاكمة بخنقها للحريات السياسية والإبداعية عموماً.
أمين إذن، اسم أدبي وحرَكي اتخذه للتخفي وراءه أثناء فترة ما من النضال، كان فيها العمل السياسي السري على أشده، وكانت فيها أيضاً المطاردات والمتابعات الأمنية لأولئك السياسيين السرّيين في أوجها، كما أنه يُحيل كذلك إلى محطات ترتبط بنضالات القوميين لترسيم العربية لغة رسمية للإدارة، موازاة مع رفض تيار يساري يوصف بـ«المغترب»، يُفضّل الفرنسية امتداداً لثقافته أولاً، ولذاته وذائقته ثانياً.
زيادة على ذلك، ينغرس اسم أمين بعيداً في موريتانيا ثقافياً وتاريخياً، ويتعالق مع أسماء أخرى كثيرة متأصلة في البيئة المحلية، حفرت لنفسها عميقاً في تلك الأرض، مثل أيقونة الغناء الموريتاني الراحلة ديمي بنت آبه، خاصة بعد أن غنّت له قصيدته الخالدة «نشيد الأرض» (1976) التي كتبها بروحه وقلبه قبل أن يخطها بمداده في سِفر الشعر الخالد، حتى لكأنها هبطت من السماء إلهاماً ربانياً لتغنّيه «كوكب الغرب»، كما يحلو لبعض مُحبِّيها أن يُسميها، فتصبح مع الأيام لحناً يتردد في الأسماع، وذكرى جميلة عن شاعر لم يكن عابراً في التاريخ الثقافي المحلي، قبل أن يطالب بعض الموريتانيين مؤخراً بجعْلها نشيداً رسمياً للبلاد، ومنها المقطع التالي:
يا أمّنا يا أمّنا ** لك الحنان والجنا
في الأرض يُستجلى المنى ** في الأرض يُستمرا الهنا
نحن بنُوها الأمنا ** طِبنا فطابت موطنا
يا أمنا يا أمنا
يا أرضُ يا أم البشر ** ومهبَط النور الأغر
يا سفر أحلام البشر ** ومنبع الماء الغَمِر
يا أمّنا يا أمّنا
يا أرضنا يا أرضنا ** خُذي إليكِ عهدنا
أن نَفتديك بالقنا ** شبابنا وشيبنا
يا أمّنا يا أّمّنا.
ولئن كان أمين يمثل المثقف المهموم والملتزم بقضايا وطنه، المستميت في الدفاع عن شعبه ـــ ودفع في سبيل ذلك كرامته وصحته، ولاحقاً حياته ـــ فإنه لم يكن لينسى هموم ومشاغل وطنه الكبير، فقد مثلت القضية العربية الأم (فلسطين) هماً إنسانياً مؤرقاً بالنسبة إليه حتى أيامه الأخيرة، وكتب فيها نصوصاً إبداعية طافحة بالثورة والغضب، يتطاير شررها لهيباً فيلتهِمَ كل المطبّعين المتهاونين؛ داعية إلى العمل المسلح المنظم بوصفه السبيل الأوحد للخلاص من رجس الاحتلال، فكان يرى أن ما أخذ بالقوة لا يُسترد إلا بها. ومن نصوصه في هذا المنحى:
القدس تولد منها من شمسنا ** ومن الروابي يحتسين ضرامها
ومن العقول وقد تبلَّج نورُها ** ومن الحضارة رَكَّزَتْ أعلامها
من ضِحْكة الأطفال والأمل الذي ** يصحو فيمنح للشعوب قِيامَها
من قبضة الفلاح يغسلها الندى ** من وردة قد فَتَّحَتْ أكمامَها
ومن المحيط، من الخليج، من الذُّرَى ** في طيبة طلع الصباح فَشامَها
قُولا لمن باع الدخيل ترابَها ** وأهانَ حُرمتَها وعقَّ ذِمامها
صبراً لَكَاع فكم عميل خائن ** وضعتْ بمفرقِهِ الشعوبُ حسامَها.
وقد ظل موقفه نموذجاً للعلاقة المتوترة التي يُفترض أن تظل قائمة بين السلطة والمثقف الملتزم؛ فهي تريد تدجينه وتطويعه للقبول بتعاليم الحظيرة والانصياع لها، وهو عنيد عصي لاينقاد، يشاكسها بنصوصه المتوثّبة التي تُلهب حماس الجماهير، وتطالب برغيف الخبز، إلى أن وصلت العلاقة بينهما إلى مرحلة يصعب احتواؤها، لتأتي أحداث المحاولة الانقلابية الفاشلة في 16 مارس/آذار عام 1982 فتعمّق الشرخ المتفاقم، وتصب زيت الرفض على نار الخلاف المشتعلة، فتكون المحصلة اعتقالات واسعة في صفوف جناح القوميين الذي ينتمي إليه، مما حدا به إلى التسلل خلسة إلى السينغال، ليس هرباً من المواجهة كما قال؛ وإنما لمواصلة النضال ضد نظام الرئيس الأسبق محمد خونا هيدالة، خاصة بعد أن غيّب معظم رموز التيار الذي ينتمي إليه وراء القضبان الصدئة.
وخلال هذه الأحداث كتب أمين نص «الاعتقال» المشهور، الذي يصور فيه ببراعته المعهودة تفاصيل تلك الملحمة الحزينة، وفي أحد مقاطعها يقول:
اسمع أخي سأقص عما قد جرى ** طرق اللصوص بيوتنا غِبّ الكرى
كان المؤذن يا أخي يدعو الورى ** الله أكبر فالصباح قد أسفرا
لكنّهم كانوا هناك بجيشهم ** وكلابهم تعوي وتنبش في الثرى
جاءوا كعاصفة الجراد من المدى ** تجتاح في الظلمات نبتاً أحضرا
هتكوا البيوت بخيلهم وبرَجلهم ** واستجوبوا حتى الشقيق الأصغرا
حتى دمى الأطفال، حتى مصحفي ** ظن الكلاب به سلاحاً مُشْهرا
والحر لا يرضى الهوان لشعبه ** والأرض عِلق لا يباع ويشترى.
وفي خضم اشتداد الأزمة السياسية بين التيار القومي وبين والنظام القائم حينها، انقدحت في ذهن والد أمين فكرة مؤداها أن يطلب عفواً عن ابنه من طرف رئيس الجمهورية، حتى يتمكن من العودة إلى وطنه آمناً لمتابعة العلاج من مرض كان قد بدأ يستبيح صحته وجسده في صمت، وتفاقم أكثر مع انشغال أمين بالوضع السياسي القائم، وإهماله لنفسه وصحته، حتى أخذ منه مأخذاً كبيراً من دون أن يشعر.
كان والد أمين وجيهاً معروفاً في محيطه، فقدم التماساً لوالي اترارزة يطلب فيه لقاء رئيس الجمهورية، وبعد قرابة شهر أو يزيد جاءه الرد بقبول طلبه، غير أن وساطته أغضبت ابنه المتمرد فكتب إليه رسالة يتمسك فيها بموقفه ويرفض فكرة الوساطة أصلاً. يقول في جزء منها: «وأحسبني الآن مصيباً حين أُقر أنك حكّمت عاطفتك فيما يخص غربتي التي هي من غربة الوطن؛ ذلك أنك بعثت لي تذكر وساطة لدى رئيس النظام لكي أعود مفرِّطاً بمبادئي متخلياً عن عزة الشعب التي هي عزتي وعزتك (..) ويعز عليّ أن تبذل وجهك الكريم للطغاة والظلمة».
ولأن حياة أمين كانت قلقة ومضطربة وملحمية في مجملها، فقد شكّل رحيله أيضاً قصة أكثر درامية وسواداً، تزداد قتامة كلّما أحس الإنسان أنه لم يُحقق حلمه الذي دفع روحه من أجله؛ ولم يرَ ذلك الوطن الذي حلم به. ففي الـ19 فبراير/شباط عام 1983؛ أي بعد زهاء أربعة أشهر على تلك الرسالة الرافضة التي بعثها لوالده، عاد الشاعر الثائر من السينغال إلى وطنه مسجى في كفنه، بعد عمر قصير زمنياً، ممتد إبداعياً ونضالياً، شأنه في ذلك شأن كل المثقفين والمناضلين غير العابرين، الذين تظل ذكراهم تتلألأ في صفحات تاريخ أوطانهم، وتزداد توهجاً وألقاً كلما حاولنا نسيانهم..!