ستينيّ بملامح سمراء مميّزة، يحمل نسخة كبيرة للمصحف الشريف. هذه الصورة التي يصادفها الباحث على غوغل حين يكتب: محرّم سربوفسكي.
تعرفه الشاشات في جمهوريات يوغسلافيا السابقة مغنيا شعبيا، لفت الأنظار بطابعه الغجري الأصيل، حيث ولد في شاتو أوزاريي بالقرب من سكوبيا عاصمة مقدونيا الحالية التي كانت واحدة من جمهوريات يوغسلافيا السابقة، في منطقة يسكنها الغجر الذين قدموا إليها من مئات السنين، وباتوا جزءا هاما من ثقافة المنطقة.
وتعد منطقة شاتو أوزاري أكبر مستوطنة للغجر في العالم، وربما المقاطعة الوحيدة التي تعد الغجرية فيها لغة رسمية.
غير أن سربوفسكي الذي بدأ الغناء فتى في الثانية عشر لكسب رزقه، وألّف أكثر من 300 قصيدة، واشتهر لحدّ كبير حتى نال المرتبة الرابعة بين الأشخاص الأكثر شعبية في يوغسلافيا السابقة، لم يتوقّف عن التعلّم رغم انشغاله بالحفلات والسفر، فحصل على درجتين في الحقوق والفلسفة، ثم نال ماجستير الفلسفة، ويعرف سربوفسكي كونه طالبا مجدّا، رغم أنه أكمل تعليمه وهو كبير في السن.
ويقول أورهان بيروقداروفيتش أستاذ الفلسفة والمشرف على أطروحة سربوفسكي "كان يحرص على التعلّم ومهتما بتحصيل المعرفة ومتواضعا، أعتبره من تلامذتي المميّزين"، وتوّج سربوفسكي إنجازاته بترجمته معاني القرآن الكريم إلى اللغة الغجرية.
وتوجد نسخة من ترجمته الغجرية للقرآن في مكتبة المدرسة المقابلة لجامع غازي خسرو بك، أحد أهم معالم العاصمة البوسنية سراييفو.
ترجمة القرآن الكريم
يقول سربوفسكي في إحدى مقابلاته "لقد بدأ والدي إمام الجامع هذا العمل حتى وصل لترجمة الآية السادسة والأربعين من سورة البقرة، ثمّ عاجله الأجل".
ويضيف "وفي عام 1983 حلمت به يطلب منّي أن أكمل عمله، واستغرق منّي الأمر 10 سنين حتى اكتمل، درست خلالها الشريعة الإسلامية في كلية الدراسات الإسلامية والإلهيات بسراييفو لأكون على دراية بفحوى ما أترجمه، ثمّ ترجمت بعده الإنجيل والعهد القديم، كان دافعي لذلك أن يبقى شيء يذكرني به النّاس بعد موتي وأن أقدّم الكتب السماوية الثلاث للمجتمع الغجري المنتشر في شتى أنحاء العالم لأربطهم بمصادر الثقافة الأولى، ولتكون بوابتهم للتفاعل الغني مع محيطهم في البلقان الذي يؤمن أغلب سكانه بالمسيحية والإسلام. وأيضا أردت جمع الغجر على اختلاف لهجاتهم لتكون لهم لغتهم الفصيحة" .
ومن الصعوبات التي واجهته أثناء ترجمته القرآن، عدم وجود لغة رسمية للغجر، حيث إن "الغجرية ذات لهجات عديدة تتأثر بمناطق سكن الغجر أنفسهم، فبذلت جهدي لأخرج بترجمة يفهمها الغجر جميعهم على اختلاف لهجاتهم، بسّطت اللغة ولم أستعمل مصطلحات صعبة"، حسب تعبيره.
اعلان
تربط سربوفسكي علاقة وطيدة بقوميته الغجرية، فهو يراهم "أبرياء العالم" والطبيعة هي أمّهم، وهم مسالمون لكن للأسف يقعون ضحايا للنزاعات التي تحدث حولهم، ويعتقد أن عدم ارتباطهم ببقعة جغرافية محددة جعلهم "لا يقاتلون لأجل الحرية، وإنما يعيشونها".
الغجر في شرقي أوروبا
في عام 1969، غادر سربوفسكي سكوبيا، كما فعل معظم فناني الغجر المحليين، إلى بلغراد التي كانت عاصمة يوغوسلافيا ومركزها الثقافي الرئيسي آنذاك.
وانتقل إلى مدينة سراييفو في عام 1975، حيث يعيش منذ ذلك الحين، وكانت عاصمة البوسنة آنذاك تعيش حياة ثقافية غنية، وانجذب المغني إلى جوها العالمي والشرقي، وعاش تجربة تقاليدها الموسيقية الفريدة والثرية.
وعلى الرغم من أن الثقافة الغجرية أقل شيوعا في البوسنة مقارنة بألبانيا ومقدونيا وكوسوفو، فإن تعرض الغجريين لاضطهاد خلال حروب البوسنة في القرن الماضي جعل العديد منهم لاجئين وجزءا من هجرة بوسنية أكثر عمومية.
وكان الغجر قد تعرضوا لموجهة تهجير قاسية واستهداف من قبل "الفاشيين الكروات" في الحرب العالمية الثانية؛ وتم قتل كثيرين لمجرد حديثهم بلغة الغجر واستهداف مستوطناتهم، مما جعل العديد من أطفال الغجر يحرصون على التخلص من جميع علامات هوية الغجر المميزة.
وبينما كانت موسيقى فنانين غجريين آخرين تستوحي وتمزج الموسيقى الغجرية التقليدية بموسيقى البوب الحديثة وتراث الغجر الهندي، أراد سربوفسكي في البوسنة تطوير موسيقى أقرب إلى الثقافتين التركية والعربية، بحسب دراسة عن الموسيقى الغجرية في البلقان للباحثيْن فيليب كنوكس وناثانيال موريس.
مارس محرّم سربوفسكي العمل والنشاط السياسي في البوسنة وكان برلمانيا ومدافعا عن الثقافة الغجرية (مواقع التواصل)
سياسي غجري في البوسنة
ودخل سربوفسكي البرلمان البوسني نائبا برلمانيا وناشطا ومدافعا عن الغجر (شعب الروما) في مطلع الألفية الجديدة، وكتب رسالة أكاديمية حول "الغجر وحقوق الإنسان"، وكان أحد النّاشطين الذين طالبوا في محكمة ستراسبورغ بأن يعطى الغجر الحق في الترشح للرئاسة في البوسنة، وقد فاز الغجر بهذا المطلب.
ووفقا لتعداد عام 2013، يبلغ عدد الغجر في البوسنة والهرسك 12 ألفا و500 نسمة، لديهم لغتهم الخاصة التي لا تُدرّس في البوسنة والهرسك، لكنهم يتكلّمون اللغة البوسنية أيضا.
وعاش الغجر سنوات صعبة في يوغسلافيا السابقة أثناء الحرب العالمية الثانية بعد سيطرة دول المحور عليها، وبلغ عدد الذين أعدموا في كرواتيا 28 ألفا، وفي صربيا 16 ألفا، كانت البوسنة والهرسك هي الدولة الأوروبية الوحيدة التي تم فيها منع الإبادة الجماعية ضد الغجر بفضل العمل الحاسم الذي قام به الوجهاء من مسلمي البوسنة، الذين شكلوا لجنة الإنقاذ وأصدروا قرارا يعلن فيه أن الغجر جزء من الشعب البوسني، وبالتالي حموا شعب الغجر من القوانين العنصرية.
ويرتبط أول وصول للغجر من معتنقي الديانة الإسلامية في البلقان بالفتح العثماني للمنطقة خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر. كان بعضهم مقاتلين في الوحدات عسكرية، والبعض الآخر يعملون حرفيين خدموا في الجيش، وبعض الغجر الذين يعيشون في البوسنة وكوسوفو ومقدونيا من المسلمين، ويعتنق بقيّتهم الأرثذوكسيّة في البلقان.
والرّوما أو الرومن أو شعب الغجر يتكلمون لغة مشتركة قد تكون ذات أصول هندية، ويعيشون حياة التنقل والترحال، وتعرضوا للاضطهاد من قبل النازيين والفاشيين في أوروبا في زمن الحرب العالمية الثانية، وتخصص الأمم المتحدة يوم 8 أبريل/نيسان من كل عام يوما عالميا للغجر للتذكير بمعاناتهم واضطهادهم والاحتفاء بثقافتهم.
المصدر : الجزيرة