كنت مرة أستمع لحلقة من البرنامج الإذاعي للشاعر محمد الحافظ بن أحمدو تناول فيها شعر أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي: أبي العلاء المعري ... وقد طربت كثيرا لسماع قصيدة لامية جميلة قالها المعري و هو ببغداد مُتشوقا أوطانه بالشام ... و قد زاد من حسن القصيدة عندي أداء ذلك الذواقة الخبير بمحاسن الشعر العربي في أدق تفاصيلها. يقول المعري مُرجعًا الضمير إلى مطاياه:
طرِبنَ لضوء البارق المُتعـالِي
ببـغـدادَ وهنًا ما لهـنَّ ومَـالِي
لقد زارني طَيْفُ الخَيالِ فَهاجَني
فهل زارَ هذي الإبلَ طَيْفُ خَيالِ
لعلَّ كَراها قد أراها جِذابَها
ذوائبَ طلْحٍ بالعقيقِ وضالِ
تَلَوْنَ زَبُورًا في الحَنينِ مُنَزّلًا
عليهِنّ فيه الصّبرُ غيرُ حَلالِ
وأنشَدْنَ مِن شِعْرِ المَطايا قصِيدةً
وَأَوْدَعْنَها في الشوْقِ كلَّ مّقالِ
أمِنْ قِيلِ عَوْدٍ رَازِمٍ أمْ رِوايَةٍ
أتَتْهُنّ عن عَمٍّ لهُنّ وَخالِ ؟
إلى أن يقول
فيا برقُ ليسَ الكرخُ داري و إنما
رمانِي إليهِ الدَّهرُ مُنذُ ليالِ
فهل فيكَ من ماء المعرَّةِ قطرةٌ
تُغيثُ بِها ظمآنَ ليسَ بِسَالِ
دَعا رجَبٌ جيشَ الغرامِ فأقبلتْ
رعالٌ ترودُ الهمَّ بعدَ رعاَلِ
و لاحَ هِلالٌ مِثلُ نُونٍ أجادَها
بِجارِي النِّضارِ الكاتبُ ابنُ هِلالِ
و بعد ذلك بأيام كنت في مجلس أستاذنا : امحمد بن شَمَّادْ ... فأنشدني من مختارات الشعر العربي– وذاك بحمد الله عنصر ثابت في مجلسه - شعرًا جزلاً لطُليحةَ بنِ خُويلدٍ الأسدي قاله في قتال المسلمين في حروب الردة أيام تَنَـبـُّـئِه ... و لم أكن أعرف من أبيات طليحةَ هذه إلا واحدا يُستشهَدُ به في الألفية على جواز تقدم الحال على صاحبه المجرور بالحرف، و هو البيت الذي يذكر فيه طُليحةَ مقتل أخيه "حِبالٍ":
فما ظنُّكم بالقومِ إذ تقتلونهمْ
أليسُوا - و إن لم يُسلمُوا- برِجالِ
فإن تكُ أذوادٌ أُصِبنَ و نِسوةٌ
فلن يذهبُـوا فرغًا بقتلِ "حِبالِ"
عشِيَّةَ غادرتُ ابنَ أقْرمَ ثاويًا
و عُكَّاشةَ الغنمَيَّ عندَ مَجالِي
نصبتُ لهمْ صدرَ "الحَمالةِ" إنَّها
مُعاوِدةٌ قِيلَ الكُماةِ : نزالِ
فيومًا تراها فِي الجِلالِ مَصُونةً
وَيومًا تراها غيرَ ذاتِ جِلالِ
فزادتني هذه الأبيات استحسانا لهذه القافية اللامية الطويلية ... وتملكتني جزالة النصين و أسرتني موسيقى القافية بحيث إني لم أجد عن النسج على منوالها بُدًّا يوم سنح بفكري رثاء سيدة فاضلة من نساء الحي ... فكأنما أملتْ على القافية إملاءً:
أجلْتُ رِكابَ الفِكرِ كُـلَّ مَجالِ
لِنيلِ مَقالٍ دُون نيــــلِ مقالِ
لِنيلِ مَقالٍ في شمائلَ سُطِّرتْ
بِخطِّ بَنانِ الكاتبِ ابنِ هِلالِ
شمائلُ بالعِقيانِ قد حُقَّ كَـتبُها
و ترصِيعُها مِن جوهرٍ و لآلِ
شمائلُ مِنها الحِلمُ و البذلُ والنَّقا
وعلمٌ و خوفُ الخالقِ المُتعالِي
و أخلاقُ شَهدٍ ما سمعتُ بِمِثلها
و لا خَـطَرتْ يومًا عَليَّ بِبــالِ
و أيَّـامُ عُمْرٍ كالليالِي كريمةٌ
فأكــرِ مْ بايَّـامٍ لَها و لَيـَـالِ
و جادَ على الميمُونِ حيثُ ثواؤُها
مِن الرَّحمةِ الغراءِ صَوبُ سِجالِ
و دامتْ على لأبناء والأهلِ نعمةٌ
تحُــفّـُـهُـمُ فِي رِفعةٍ و جَلالِ
و دُونَ نِبالِ الدَّهرِ دامُوا مِجَـنَّـنَا
إذا الدَّهرُ يومًا رامَـنا بِنِـبَــالِ
بِـجَـاهِ النَّــبِيِّ الهاشميِّ مُحمَّدٍ
وجاهِ أبي بكرٍ و جاهِ بِلالِ
وأذكرك عزيزي أن طليحة بن خويلد الأسديَّ رجع عن ردته و حسُن إسلامه و الأمور بخواتمها ... فقد أبلى بلاءً حسناً في قتال الروم و الفرس و مات شهيدًا بمعركة "نهاوندْ" الخالدة ... و تروي الأخبار أنه أتى أميرَ المؤمنين عمر بن الخطاب فلما سلم عليه قال له عمر: "اغرب عن وجهي فإنك قاتل الرجلين الصالحين : عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم، فأجاب طليحة : "يا أمير المؤمنين هما رجلان أكرمهما الله على يدي ولم يُهني بأيديهما" فأعجب عمر بكلامه رضي الله عنهما.
عزالدين بن كَرّاي بن أحمد يُورَ