محمدن ولد سيدي الملقب بدن
أُعجبتُ بالشيخ ابراهيمْ بن يوسف بن الشيخ سيديا " المفتي علَماً " قبل أن ألتقي به و ذلك لكثرة ما حدثني عنه بإعجاب شديد ، صديقُنا المشترك أخي أحمدُّ الملقب جمال بن الحسن تغمده الله برحمته الواسعة . و لقيتُ الشيخ لأول مرة فازددتُ به إعجاباً .. كان ذلك في نهاية سنة 1990 و في ولاية لعصابهْ بالذات و لمَّا يمضِ الشهران على تقلدي بها أول منصب في الإدارة الإقليمية هو منصب الوالي المساعد المكلف بالشؤون الإدارية.ففي مستهل مسيرتي المهنية تلك كلفني الوالي محمد بن رافع حفظه الله بمرافقة وفديْن : أحدهما فرنسي لأخرجه بقوة مرِنَةٍ حدودَ الولاية (التي وصل إليها للتو ) في اتجاه انواكشوط حفاظاً على سلامته من ردة فعل شعبية محتملة بعد تهديد آمريكا بضربة وشيكة للعراق ( حصلت بعيد ذلك منتصف ليل الخميس 17 يناير 1991 ) .. و يتكون ذلك الوفد من حاكميْن سابقين في عهد الاستعمار هما : گابْريَلْ فيرالْ الذي كان خبره يحتل حيِّزا من أحاديثي المعتادة في الضحى في المكتب مع زعيميْن عظيميْن هما : محمد الراظي الحاجي و أحمدو بن الحاج الحبيب الجكني و كلاهما كنت أمتُّ إليه بصلة رحمٍ من مستوى معيَّن. و قد ظفر منَّا هذا القائد - نزولًا عند رغبته الجامحة - بشرف إلقاء نظرة أخيرة على أطلال منزله في كيفه أيام العهد الاستعماري و گصتونْ الذي سليتهُ بحكاية ما قاله فيه الشاعر الحساني" يشيد " بكرمه إبَّان حكمه في مقاطعة المذرذرة ( قال لي إنه حكم كذلك في كيهيدي ):
خَيْرِكْ يالصنگَ بدْ
من يومْ انْ جَ گسطونْ
انهارْ إگَسَّمْ شَدْ
و انهارْ إگَسَّمْ طُونْ!
أما الوفد الثاني و كنت مكلفا باستقباله عند مدخل الولاية و مرافقته داخلها فهو وفد من الإمارات العربية المتحدة يضم الفتى أحمد الخزرجي نجل صديق الشناقطة و مولى النعمة بالنسبة لهم بعد الشيخ زايد : وزير العدل و الشؤون الإسلامية و الأوقاف محمد الخزرجي . و قد جاء الخزرجي الإبن في مهمة علمية في نطاق دراساته العليا ، تتعلق بتحقيقه لشرح ابن زكري لكتابْ النصيحة تأليف الشيخ أحمدْ زروقْ . و قد صحب الضيف الإماراتي من بلاده مساعده المصري و معاونان هما : المفتي الشيخ الشيباني ولد محمد ولد أحمد رحمهُ الله و القاضي محمد ولد يوسف حفظه الله ، و انضمَّ إلى هؤلاء من الرسميين في انواكشوط : الشيخ ابراهيمْ ولد يوسف حفظه الله و كان يشغل آنذاك منصب مستشار الوزير المكلف بالشؤون الإسلامية و محمد عالِ بن زين مدير الأوقاف رحمه الله .
أقمت مع الوفد أربعة أيام كاملة قضاها في ضيافة القاضي محمد ولد يوسف في موقع يسمى الميمون حوالي 20 كلم من كنكوصة (كان الخزرجي لا ينطقها إلاَّ بالگاف المعجمة و لم أفتأ أؤكد له مداعبًا أن كنكوصة تُنطقُ بكاف ابن زكري )! خلال تلك الأيام الجميلة حقًا كنا في محظرة دائما لا نتخلف عنها إلا للضرورات الملحة .و بتلك المناسبة تعرفت عن قرب على هؤلاء الأجلاء ..بهرني الشيخ الشيباني بطرافته و أريحيته و سرعة بديهته و انفتاحه الحازم و علمه المنساب ، و بهرني ابن يوسف بسعة حفظه و قوة ذاكرته و ازددتُ إعجابا بالشيخ ابراهيمْ لحصافة رأيه و أدبه المطبوع ودقته في التعبير و ظل ابن زين هو زين المجلس و سيِّد القوم، ذو عقل راجح ، و فهم ثاقب ، مشارك في جميع الفنون ، منها يُفيد و يستفيد ..
و يغادر الوفد و يمضي كل لشأنه و يدور الزمن السيَّار و تمر الأيام ويبقى لذلك اللقاء أثره العميق في النفس .. و كان أول ما حزَّ فيها هو وفاة ابن زين بعد ذلك بفترة وجيزة مخلفا في القلب ألماً شبيهًا بذلك الذي عبر عنه الشيخ محمد الحسن ولد الددوْ في المرثية البديعة التي رثاه بها آنذاك ..
و تشاء الأقدار أن أمر بالشيخ الشيباني بمنزله في مگطع لحجار قبيْلَ وفاته ، فأفاجأ به و قد ضعف جسمه و انحسر تعبيره - و هو الخطيب المفوه - في نظرات رتيبة فاترة بعد أن عجز لسانه عن النطق .. و ما رأيت أصدق تعبير عما أحسسته من ألم في نفسي يومذاك من قطعة شعرية أنشأها القاضي عبد الرحمان بن بلال عندما فاجأه ذات المشهد الذي لم يكن يتوقعه من صديقه و رفيقه على الدرب في سائر مراحل الحياة ..و أما أحمد بن محمد الخزرجي فقد بذلتُ جهودًا مضاعفةً للقائه في أبو ظبي خلال مقامي بها في نهاية السنة المنصرمة فتعذر عليَّ ذلك و لكن أحد المغتربين الشناقطة هناك طمأنني على صحته إذ قال إنه لقيه آنذاك يوم جمعة في صفوف المصلين في أحد المساجد في أبوظبي .
أما القاضي محمد بن يوسف و المفتي ابراهيمْ بن يوسف حفظهما الله فما زالت الصدفة ترتب لنا من حين لآخر لقاءات طيبة بلا ميعاد .. و لا زلت - و الحمد لله - أسمع عن القاضي من الأخبار ما يسرُّ و أقرأ للمفتي من الشوارد ما يفيد .. و من أبدع ما قرأت له مؤخرًا تلك المقدمة العجيبة التي وضعها لديوان جده الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيديا " سيدنَ علَماً " و التي تجلت فيها عبقريته في شتى الفنون .و الديوان جمعه و حققه حفيد الشاعر الأستاذ عبد الله بن محمد بن سيديا فأجاد و أفاد جزاه الله كل خير ووقاه كل ضير.
و راجعه الأستاذان: الشيخ ابراهيمْ " المفتي " و محمد ولد تتَّا و نشرته مكتبة الرضوان لصاحبها أحمد سالك بن محمد الأمين بن ابُّوه .
و من المقدمة العجيبة للديوان أنتقي هذا المقتطف البديع الآسر التي يتعلق بروح التجديد عند الشيخ سيدي محمد و المتمثل في قصيدته التي مطلعها:
يا معشر البلغاء هل من لوذعي
يهدى حجاه لمقصد لم يبدعِ
يقول الشيخ ابراهيمْ في مقدمته للديوان :
[وفى أثناء مَسيرته الشعرية الكبرى ( يعني الشيخ سيدي محمد الملقب سيدنَ ولد الشيخ سيديا ) ، التفت الشاعر إلى الأغراض الأدبية، فألفَى مَعينها قد نُزِف، وجسمَها قد نُهك، مما تعاورها الشعراء، وردّدها البلغاء، إذ لم يبدُ لناظرَيه، منذ الجاهلية إلى عصره، إلا الغزلُ والتشبيب والنسيب والبكاء على الدمَن العافية والطلول الداثرة، والمدحُ والرثاء والفخر والهجاء، والشَّرْبُ والكأس والخيلُ والليل والبيداء والسيف والرمح والقرطاس والقلم...فرفع عقيرته يبحث عن مطلع يستهل به القصيدَ غيرَ ما مرّ من مطروق الأغراض، ومكرور المطالع، واستنجد بالبلغاء والفصحاء، أن يُسعفوه "بمقصِد لم يُبدع"، محذرا إياهم من الاستهلال بشىء مما استنزفته الدلاء. فقد ضاق ذرعا بالرتابة المَقيتة التى درَج عليها الشعراء فى بناء النص الشعرىّ عبر العصور.وأحسّ إحساسا عميقا بأزمة الإبداع فى الشعر العربىّ عامة، إحساسا نبع من معرفة شاملة، ونظر ثاقب، وتطلّع جرىء إلى التجديد، لا من مطالعة آداب أجنبية، أو تأثر بحضارة غربية، أو نهضة مشرقية لم يتنفس صبحُها بعدُ.وإنما ارتفع هذا الصوت منذ زهاء مائة وسبعين عاما، من قلب صحراءَ شَحاحٍ، ذات كثبان متهيلة، وغيطان فضّية، وظباء نافرة، ورئال شاردة، نابعا من عبقرية نادرة، وشخصية فذة، قبل أن يُسمَع له نظير، بهذا المستوى، وعَبْرَ القوافي من صُقعٍ آخرَ فى مشرق أو مغرب.
أجل، لقد ارتفع هذا الصوت من رمال ناعمة تحُف بميمونة السعدى، بعيدا من مراسي السفن، وأزيز الطائرات، وضجيج الأسواق، وهدير المطابع. من بلاد لم يَعرف الانحطاط إلى شعر أهلها سبيلا .
من بلاد تُعْلِى مقام الشعر، وتحيط القوافيَ بهالة من التجِلَّة والتقديس.من بلاد ترى حفظ لغات العرب واجبا مفروضا، وأمانة يحرُم التفريط فيها، حتى كأنهم مُضَّغُ الشِّيح والقيصوم أيام الجاهلية وصدر الإسلام:
يا معشر البلغاء هل من لوذعي
يُهدَى حِجاه لمقصِد لم يُبـــــدع؟
إنى همَمت بأن أقول قصيــــدة
بكرا، فأعياني وجود المطلِــــع
لكم اليد الطولى علىَّ إنَ اَنتـــمُ
ألفيتموه ببقعة أو موضِـــــــــــــع
فاستعملوا النظر السديد ومن يجدْ
لي ما أحاول منكمُ فليصــــــدعِ
وحذارِ من خلْع العِذار على الديَا
رِ ووقفة الزوّار بين الأربُــــــع
وإفاضة العبرات فى عرَصاتها
وتردُّدِ الزفرات بين الأضلُــــــــع
ودعوا السوانحَ والبوارحَ واتركوا
ذكر الحمامة والغراب الأبقـــــــع...
إلى آخر الأغراض والمقاصد الشعرية المعروفة عبر عصور الشعر المحفوظ والمدون فى أدب العربية إلى عهده، وقد استغرق تَعدادها سبعة عشر بيتا من رائع الشعر، منها الثلاثة التى مثلنا بها هنا.
ثم قال بعد سردها واستيفاء جملتها:
"فجميعُ هذا قد تداولَه الورى
حتى غدا ما فيه موضعُ إِصْبَع !
ثم أشار إلى السرقات الشعرية، وإغارة الشعراء بعضِهم على شعر بعض لصَصا وغصْبا، وادعاءِ كلٍّ السبقَ، وإلى صعوبة الشعر، ودِقّة مَهْيَعه، وعدم تأتِّيه حتى لأئمة اللسان وأساطين اللغة وحفّاظها كعبد الملك بن قرَيْب الأصمعىّ، فضلا عن غيرهم، وإلى شعور عنترة بضيق مناديح القول منذ فجر الشعر الجاهلىّ، ولبْث زهير بن أبى سُلمى حولا كَرِيتا فى صَنعة مطوّلاته و تنقيحها، مؤكدا بكل ما أسلف اعتياصَ الشعر، وأنه دَحْضٌ مزَلّة.
ولكن الشاعر الناقد وضعَنا على مفترَق طرق عندما قال:
إن يتبعِ القدَما أعاد حديثَهم
بعد الفشُوّ، وضل إن لم يتبع
إذ تأخذ الحَيرة بمجامع أنظار النقَدة ورُوَّام القريض عند قراءة هذا البيت،
فأين المفرُّ إذن؟
ثم يذكر الشاعر تفاوتَ الشعراء فى حوك الشعر وتدبيجه، وأنهم طبقاتٌ بعضُها فوق بعض، يستوي فى إدراك ذلك الفدْمُ والألمعىّ، مُبرِزا فضل الشاعر المطبوع على المتكلف الذى يعاني صَنعة القريض.
كما فضّل مهذِّبَ الشعر الذى يراجع العمل الشعريَّ ويجيل فيه النظر حتى ينضَج ويستويَّ على سُوقه، على من يقذف بالقول دون رَوِيّة وإمعان.
ثم يقدّم تعريفا للشعر مزاوجا فيه بين مدرستيْ اللفظ والمعنى، وناظرا إلى الأسلوب، وعنصريْ التطريب والتأثير، بحيث يكون اللفظ رقيقا، والمعنى رائقا، فتجتمع الرقة والجزالة، مع مجيء النص متناسبَ الحسن، جاريا على سَنن الإبداع فى أساليبه وتراكيبه، ومُراعًى فيه عنصرُ الموسيقى الشعرية بنوعيْها، إلى جانب قدرة النص على إحداث التأثير النفسيّ والعاطفيِّ على المتلقّي والانفعال التلقائي المباشر لديه:
ما الشعر إلا ما تناسب حسنُه
فجرى على منوال نسج مبدَع
لفظ رقيق ضم معنى رائقــــا
للفهم يدنو وهْو نائي المنـــزَع
مُزِجت برِقَّته الجزالةُ يا لَه
من راح دَنّ بالفُرات مشعشـَــع!
فيكاد يُدرِكه الذكيُّ حــلاوة
وطلاوة بالقلب قبل المِسمــــــعِ
تعرو القلوبَ له ارتياحًا هِزةٌ
يسخو الشحيحُ بها لحسن الموقع
والشعر للتطريب أول وضعه
فلغير ذلك قبلنا لم يوضــــــع
واليوم صار منكِّدا ووسيلة
قد كان مقصِدها انتفَى لم تُشرع
وإليه ترتاح النفوسُ غُلُبَّــةً
فيُميلها طبعا بغير تطبُّــــــــــــــع ]!
ذلك مقتطف من مقدمة الديوان و هذا هو نص القصيدة :
يـا مـعـشـر البـلغـاء هـل مـن لوذعي
يــهــدى حــجــاه لمــقــصــد لم يـبـدع
إنــي هــمــمــت بــأن أقــول قــصـيـدة
بــكــراً فــأعــيــانـي وجـود المـطـلع
لكــم اليــد الطـولى عـلي إن انـتـمُ
ألفــيــتــمــوه بــبــقــعــةٍ أو مـوضـع
فـاسـتعملوا النظر السديد ومن يجد
لي مــا أحــاول مــنــكــم فــليــصــدع
وحـذار مـن خـلع العـذار على الديا
ر ووقـــفـــة الزوّار بــيــن الأربــع
وإفــاضــة العــبـرات فـي عـرصـاتـهـا
وتـــردّد الزفـــرات بـــيـــن الأضــلع
ودعـوا السـوانح والبوارح واتركوا
ذكــر الحــمــامـة والغـراب الأبـقـع
وبــكـاء أصـحـاب الهـوى يـوم النـوى
والقـــوم بـــيـــن مـــودع ومـــشـــيّــع
وتــجــنّـبـوا حـبـل الوصـال وغـادروا
نــعـت الغـزال أخـي الدلال الأنـلع
وسرى الخيال على الكلال لراكب ال
شــمــلال بــيــن النــازليــن الهـجّـع
ودعـوا الصـحـاري والمـهـارى تـغتلي
فــيــهــا فـتـفـتـلهـا بـفـتـل الأذرع
وتــواعــد الأحــبــاب أحـقـاف اللوى
ليــلا وتــشــقــيــق الردا والبـرقـع
وتــهــاديَ النــسـوان بـالأصـلان فـي
الكـثـبـان مـن بـيـن النقا والأجرع
والخــيــل تــمــوع فـي الأعـنّـة شـزّب
كــيــمــا تــفــزّع ربــربـاً فـي بـلقـع
والزهــر والروض النــضــيــر وعـرفـهُ
والبــرق فــي غــرّ الغــمــام الهـمّـع
والقـيـنـة الشـنـبـا تـجـاذب مـزهـرا
والقــهــوة الصــهــبــا بـكـأس مـتـرع
وتــحــادث الســمــار بـالأخـبـار مـن
أعـــصـــار دولة قـــيـــصــر أو تــبّــع
وتـنـاشـد الأشـعار بالأسحار في ال
أقـــمـــار ليـــلة عـــشـــر والأربـــع
وتـداعـيَ الأبـطـال فـي رهـج القتال
إلى النــــزال بـــكـــل لدن مـــشـــرع
وتـطـارد الفـرسـان بـالقـضـبـان وال
خـــرصـــان بـــيـــن مــجــرد ومــقــنّــع
وتــذاكــر الخــطـبـاء والشـعـراء لل
أنــســاب والأحــســاب يـوم المـجـمـع
ومــنـاقـب العـلمـاء والكـرمـاء وال
صـــلحـــاء أربــاب القــلوب الخــشّــع
فــجــمــيــع هــذا قـد تـداوله الورى
حــتــى غــدا مــا فـيـه مـوضـع إصـبـع
مـــن مـــدّعـــى مـــا قـــاله أو مـــدّع
والمـــدّعـــي مــا قــال أيــضــا مــدّع
واليـــوم غـــمــا ســارق مــســتــوجــب
قــطـع اليـمـيـن وحـسـمـهـا فـليـقـطـع
أو غــاصــب مــتــجــاســر لم يــثــنــه
عــــن هـــمّه حـــد العـــوالي الشـــرّع
مــهــمــا رأى يــومــا سـوامـا رتّـعـا
شــنّ المــغــار عــلى السـوام الرتّـع
فـــــكـــــأنّه فــــي عــــدوه وعــــدائه
فــعــل السـليـك وسـلمـة بـن الأكـوع
والشــعـر ليـس كـمـا يـقـول المـدّعـي
صــعــب المــقــادة مـسـتـدقّ المـهـيـع
كــم عــزّ مــن قــحّ بــليــغ قــبــلنــا
أو مــن أديــب حــافــظ كــالأصــمـعـي
هــل غـادرت هـل غـادر الشـعـراء فـي
بــحــر القــريــض لوارد مــن مــشــرع
والحـــول يـــمــكــثــه زهــيــر حــجّــة
أن القـــوافـــي لســـن طـــوع الإمّــع
إن القـــريـــض مـــنـــزّلة مــن رامــة
فــهــو المـكـلّف جـمـع مـا لم يـجـمـع
إن يـتـبـع القـدمـا أعـاد حـديـثـهـم
بــعــد الفــشــوّ وضــلّ إن لم يــتـبـع
وتـــفـــاوت الشـــعـــراء أمــر بــيّــن
يــدري الغــبــيّ وضــوحــه والألمـعـي
مـا الشـاعـر المـطـبـوع فـيـه سليقة
وجـــبـــلّة مـــثـــل الذي لم يــطــبــع
ومـــهـــذّب الأشـــعـــار بــاد فــضــله
عـنـد السـمـاع عـلى المـغـذّ المـسرع
مـا الشـعـر إلا مـا تـنـاسـب حـسـنـهُ
فــجــرى عــلى مــنــوال نــســج مـبـدع
لفـــظ رقـــيــق ضــم مــعــنــى رائقــا
للفــهــم يـدنـو وهـو نـائي المـنـزع
مــزجــت بــرقّــتــه الجــزالة يــا له
مـــن راح دن بـــالفــرات مــشــعــشــع
فـــيـــكــاد يــدركــه الذكــيّ حــلاوة
وطــلاوة بــالقــلب قــبــل المــسـمـع
تــعــرو القــلوب له ارتـيـاحـا هـزّة
يـسـخـو الشـحـيـح بـهـا لحسن الموقع
والشـــعـــر للتــطــريــب أول وضــعــه
فــلغــيــر ذلك قــبــلنــا لم يــوضــع
واليـــوم صـــار مــنــكّــدا ووســيــلةٌ
قـد كـان مـقـصـدهـا انـتـفى لم تشرع
وإليـــه تـــرتــاح النــفــوس غــلُبّــة
فــيــمــيــلهـا طـبـعـا بـغـيـر تـطـبّـع
يــــنــــســــاغ للأذهــــان أول مــــرّة
ويـزيـد حـسـنـا ثـانـيـا فـي المـرجع
فـيـخـال سـبـق السـمـع مـن لم يستمع
ويــعــود ســامــعــه كــأن لم يــسـمـع
كـالروض يـغـدو السـرح فـيـه وينثني
عــــنـــد الرواح كـــأنّه لم يـــرتـــع
وإذا عــرفــت له بــنــفــسـك مـوقـعـا
تـــخـــتــاره يــهــدى لذاك المــوقــع
مــن كــان مــســطــاعــا له فــليـأتـه
وليــقــن راحــتــه امــرؤٌ لم يــسـطـع
والجــلّ مــن شــعــراء أهـل زمـانـنـا
مــا إن أرى فــي ذا له مــن مــطـمـع
رحم الله السلف و بارك في الخلف.