أحمد ولد إسَلْمُ: قراء اليوم هم شركائي في الكتابة

ثلاثاء, 10/19/2021 - 05:06

 

 

 

يؤكّد الروائيّ الموريتاني أحمد ولد إسَلْمُ أنّ الرواية هي أقرب فنون الكتابة الإبداعية إلى ثقافة الصورة، وستبقى الحاجة إليها قائمة.. ولا يتوقّع أن يأتي اليوم الذي تشكل فيه هيمنة ثقافة الصورة تهديدا حقيقيا لفن الرواية.

في حواره مع الرواية نت يشدّد مبدع "البرّاني" على أنّه يولي القرّاء اهتماماً كبيراً لدرجة أنّه يعتبرهم شركاء له في عملية الكتابة، وهو يثق بذكائهم وتفاعلهم وخبرتهم وذائقتهم.

يستضيف موقع الرواية نت في سلسلة حواراته الروائية صاحب "حياة مثقوبة" الذي يشاركنا بعضاً من آرائه في عالم الكتابة والنقد والجوائز والترجمة وغيرها من التفاصيل التي تعبّر عن خبرة في ميدان الفنّ الروائيّ.

‏- كيف تقيّم تجربتك مع القراء؟

- بدأت مسار الكتابة مع بداية انتشار المدونات الإلكترونية مطلع الألفية، وقد أتاح لي ذلك التفاعل المباشر مع القراء، والحصول على رد فعل فوري، وكان لذلك التفاعل تأثير فعال في تصحيح الأخطاء، أو تجويد النصوص، فخلال عام 2005 حين نشرت أولى قصصي القصيرة، وكانت بعنوان" صفر اليدين" علق لي شخص باسم مجهول قائلاً "ما كتبته لا يتجاوز إنشاء تلميذ في الخامسة ابتدائية، إذا أردت أن تكتب سردا ممتعا عليك قراءة كتب نجيب محفوظ ودان براون وباولو كويلهو". ما زلت أحفظ ذلك التعليق وأنتهز أي فرصة للإشادة بذلك المعلق المجهول، لأني خرجت من مقهى الإنترنت ذلك اليوم، وصرفت كل ما كان معي من المال وأنا طالب جامعي مغترب حينها على روايات للكتاب الذين ذكر المعلق، ثم تفرغت لقراءة الروايات والقصص القصيرة خلال السنوات اللاحقة، وحين كتبت قصتي الثانية بعنوان "ورقة عائمة" نشرت في مجلة العربي الكويتي وفازت بجائزة المجلة وإذاعة بي بي بي لمسابقة قصص على الهواء لشهر أغسطس عام 2009.

ومنذ ذلك التاريخ وأنا حريص على جعل القراء شركاء في تجربتي الإبداعية، أحيانا أستشيرهم في أسماء الشخصيات، بل أشاركهم بعض مشاريع النصوص قبل اكتمالها وأستنير بآرائهم، وإن كنت وقت الكتابة النهائية أحاول مخالفة توقعاتهم، وأعتقد أن عالمنا اليوم يتيح فرصا مثالية لعلاقة تشاركية بين الكاتب والقارئ، لم تكن متاحة للأجيال السابقة.

‏- ما أهم الأعمال الروائية التي أثرت في تجربتك الإبداعية؟

- من الصعب تحديد عناوين كان لها الأثر الأكبر، فعملية التأثر تراكمية، وأي عمل إبداعي يقرأ أو يشاهد سيكون له أثر ما – ولو كان خفياً- في نفوسنا.

- ما الرواية التي تتمنى لو كنت مؤلفها؟

- رواية "الحصن الرقمي" لدان براون، كانت من أول ما قرأت له قبل أن يحظى بشهرة "شيفرة دافنتشي"، وقبل أن يكرر نفسه في الأعمال اللاحقة، وأعتبرها أفضل ما كتب براون وإن لم تنل شهرة أخواتها، وهي من الروايات القليلة التي تمنيت لو كان اسمي على غلافها.

وكذلك رواية فهرنهايت 451 لراي برادبري تمنيت وقت قراءتها أني كاتبها.

‏- هل من رواية تندم على كتابتها أو تشعر أنك تسرعت في نشرها؟ ولماذا؟

- لا أشعر بالندم إلا على عدم الكتابة، ندم عميق جداً على كل الأوقات التي أضيعها في أشياء أخرى أقل إمتاعاً وفائدة، لكن بخصوص جزئية التسرع في النشر، فنعم، مرات كثيرة شعرت أني تسرعت في نشر بعض القصص قبل نضجها، وكما ذكرت سابقا فإن علاقتي المباشرة مع القراء مفيدة جداً في اكتشاف عواقب ذلك التسرع.

خلال السنوات الست عشرة الماضية كتبت عشرات القصص القصيرة، وكثير منها نشر فور الانتهاء منه في شبكات التواصل الاجتماعي أو منتديات الإنترنت حتى من دون مراجعته.

وعلى كل حال أعتقد أن هناك شعوراً مشتركاً لدى كل ممتهني الكتابة، حين يقرؤون كتبهم المنشورة تنتابهم رغبة في التحسين، وشعور خفي بأنهم ربما تسرعوا في نشر العمل، والحقيقة أن ذلك الشعور قد يضيع فرص كثير من الأعمال الجيدة، فمن النادر أن يحظى نص بالرضا الكامل من مؤلفه.

 

‏- كيف ترى مستقبل الرواية في عالم متسارع يمضي نحو ثقافة الصورة؟

- الرواية هي أقرب فنون الكتابة الإبداعية إلى ثقافة الصورة، وستبقى الحاجة إليها قائمة، لأن الإنتاج المصور لن يستغني عن خيال بصري، وهنا تأتي الحاجة إلى الرواية المغذية لذلك الإنتاج، ربما التطور المتسارع في تكنولوجيا الصورة يتطلب أفقا أوسع في الخيال، وتسارعا أكبر للأحداث في الروايات المعاصرة، لكن لا أتوقع أن يأتي اليوم الذي تشكل فيه هيمنة ثقافة الصورة تهديدا حقيقيا لفن الرواية.

قد تزدهر بعض أنماط الروايات القصيرة تماشيا مع السرعة، لكن ذلك لن يفقد الروايات الطويلة وحتى الروايات المتسلسلة مكانتها.

- كيف تنظر إلى واقع النقد في العالم العربي؟

- واقع النقد لا يختلف كثيراً عن واقع أي شيء ثقافي في ما يسمى العالم العربي، - لست متأكدا حتى إن كانت هذه التسمية ما زالت صالحة للاستخدام- فمع تعزز ثقافة الانكفاء على الحدود القطرية، وتنامي النزعة الفردية، واستقلال كل جزء من هذا العالم العربي بالحديث عن شؤونه الخاصة، وتراجع دور المؤسسات الثقافية الجامعة والمنابر الإعلامية وحتى صفحات الجرائد الوسطى المخصصة للقضايا الثقافية، لا يمكن الحديث عن نقد عربي حقيقي.

لا شك أن هناك نقادا وأكاديميين مهتمون بالإضاءة على الإنتاج العربي الراهن، لكنها إضاءة باهتة، ونادرا ما تتجاوز المعارف أو المناسبات أو العلاقات العامة أو الأسماء المشهورة أو الراحلين الذين لا تخشى ردة فعلهم.

من النادر أن يخرج عمل نقدي حقيقي – خلال السنوات الأخيرة- عن هذه الأطر، وهذا أحد أسباب ازدهار أنماط من الكتابة الأقل جودة، بل حتى الكتابة مدفوعة الثمن ترويجاً وإعلاناً، في غياب واضح لدور النقد في التوجيه والتقييم.

‏- إلى أيّ حدّ تعتبر أنّ تجربتك أخذت حقها من النقد؟

- تجربتي كتجربة أي كاتب عربي شاب، لم تأخذ حقها من النقد، وتتضافر عوامل كثيرة لحرمانها من ذلك الحق، ليس أقلها أن الاسم جديد –إلى حدما - على الساحة الأدبية، وقادم من أحد بلدان الأطراف المنسية، وحتى المراجعات القليلة التي نشرت لأعمالي من طرف كتاب صحفيين بالدرجة الأولى وليسوا نقادا بالمفهوم الأدبي، كان دافعها الفضول لاكتشاف هذا الاسم الوافد من منطقة مجهولة.

وإن كنت آمل في المستقبل أن تحظى كتاباتي بمراجعات نقدية تفيدني وتفيد القراء، وتفيد الأدب العربي عامة.

‏- كيف تجد فكرة تسويق الأعمال الروائية، وهل تبلورت سوق عربية للرواية؟

- ليست لدي معطيات حقيقة عن السوق الأدبية في العالم العربي، نظرا لغياب الشفافية، فدور النشر لا تعلن بيانات حقيقية عن مبيعاتها، ولا يمكن استخلاص نتائج ذات مصداقية اعتمادا على العدد الهائل للعناوين الروائية التي تظهر سنويا، أما السوق العربية فليست مختلفة عن أي شيء عربي آخر.

فلا توجد – على حد علمي- دار نشر عربية واحدة توزع منشوراتها في جميع الدول العربية، وأفضلها حالاً الدور الحريصة على المشاركة في معارض الكتب الدورية، وذلك منتهى التسويق والتوزيع بالنسبة لها.

وإذا استثنينا المعارض فشبكة التوزيع لأفضل دور النشر لا تتجاوز دولة المقر إلا بالاعتماد على مواقع بيع الكتب، وتلك تفرض رسوم توصيل تجعل ثمن الكتاب خمسة أضعاف ثمنه الفعلي.

خلال السنة الماضية كانت هناك تجارب نشر مشتركة ومتزامنة لكنها لا تتجاوز اثنتين أو ثلاثا ولم تظهر بعد معطيات كافية للحكم عليها.

‏- هلا تحدّثنا عن خيط البداية الذي شكّل شرارة لأحد أعمالك الروائية؟

- روايتي الأخيرة، رواية "البراني"، جاءت فكرتها حين كنت في زيارة إلى قرية معزولة قرب مدينة النعمة في أقصى الشرق الموريتاني، كانت قرية وادعة جدا، لم تصلها شبكة الكهرباء بعد، ولا تصلها تغطية شبكة الهاتف، أمضيت هناك قرابة شهر لم أستخدم فيه الهاتف ولا الإنترنت، وشعرت فجأة أن الحياة من دون هذه الأشياء ما زالت ممكنة.

كان الناس - معظم الوقت - سعداء، تحدثت مع أشخاص لا يعرفون أن في العالم شيئا يدعى الولايات المتحدة، ولم يسمعوا في حياتهم عن الحرب العالمية الثانية ولا البنك الدولي، ولا التغير المناخي، فضلا عن إنترنت الأشياء!

كان مذهلا بالنسبة لي وأنا الغارق في التعامل اليومي مع أحداث العالم المختلفة بحكم عملي صحفياً، أن أحظى بفرصة الاستماع إلى أناس أكثر ما يشغل بالهم إن كان موسم الأمطار هذا العام سيكون بالكمية الكافية لري مزارعهم ومراعيهم..، أن أرى شيخا ثمانينياً يتهادى بين اثنين من أحفاده ليزور شابا مريضا في الجانب الآخر من القرية، ويشعر أنه مقصر إذا لم يفعل ذلك.

من هنا انقدحت في ذهني شرارة رواية "البراني"، محاولا عقد مقارنة غير مباشرة بين عالمين؛ عالم لا يستطيع الاستغناء عن الإنترنت، وعالم لم يسمع بهذه الكلمة من قبل.

وأظن أن الرواية استطاعت إلى حد كبير إثارة النقاش حول ما نعيشه اليوم، وطرح أسئلة ملحة عن مستقبل البشرية.

 

‏- إلى أيّ حد تلعب الجوائز دوراً في تصدير الأعمال الروائية أو التعتيم على روايات أخرى؟

- جوائز الرواية العربية على أهمية بعضها، لم ترق بعد إلى الدور المنوط بها، صحيح أنها باتت أداة جذب للقراء الباحثين عن الأعمال المشهورة، ولكن وصول الروايات الفائزة إلى النهائيات ما زالت تعتريه كثير من النواقص، وخلال مواسم الجوائز الأدبية كل عام نسمع حديثا خجولا من بعض الكتاب – غالبيتهم شعروا بالغبن- عن معايير الجوائز غير المنصفة، ولكن سيطرة "المال الثقافي" وتوظيف هذه الجوائز في الدعاية السياسية للجهات المنظمة وخوف كثير من الكتاب من تبعات انتقاد هذه الجوائز لما يترتب على ذلك من حرمان محتمل منها أو خلق مشاكل في المستقبل، جعل الانتقادات الموجهة إلى هذه الجوائز لا تتجاوز همسا خفيفا على منصات التواصل الاجتماعي، يختفي بمجرد انتهاء الموسم.

وأعتقد أن حالة الاستقطاب الخليجي سياسياً انعكست على الجوائز الأدبية الأكبر مادياً، ومعايير فرز الأعمال المرشحة لتلك الجوائز لم تصل بعد إلى مستوى يضمن الرضا عن إنصافها.

‏- كيف تجد واقع ترجمة الأدب العربي إلى اللغات الأخرى؟

- ليست لدي معطيات رقمية عن حجم ترجمة الأدب العربي إلى اللغات الأخرى، لكن من المتابعة العامة للساحة الأدبية، أجد أن الإنتاج العربي من أقل الإنتاجات ترجمة، وجزء كبير من ذلك يعود إلى تعامل دور النشر العربية مع المؤلف.

وإلى حد الآن إذا استثنينا الأعمال الفائزة بجوائز والتي تترجم إلى الإنجليزية أساسا، وأعمال الأدباء المقيمين في الغرب، والعلاقات الشخصية لبعض الأدباء بالمترجمين، والأعمال التي تترجمها مؤسسات أكاديمية في الغرب، فإن الأعمال الأدبية المترجمة لذاتها، شبه معدومة، والسبب في ذلك أن دور النشر العربية لا تسعى إلى تسويق منتجاتها إلى غيرها، وفي أحيان كثيرة تعطل الترجمة عمليا حين تصر على احتفاظها بحقوق الترجمة للكتب بعقود مجحفة في حق المؤلف والمترجم.

‏- يعاني المبدع من سلطة الرقابة خاصة (الاجتماعية والسياسية والدينية) إلى أي درجة تشعر بهيمنتها على أعمالك؟ وهل تحدّ من إيصال رسالتك الإبداعية وهل أنت مع نسف جميع السلطات الرقابية؟

- للأسف في العالم العربي إن لم تكن الرقابة سياسية واجتماعية فإنها في الغالب رقابة ذاتية، ربما هناك مستويات من التعبير يقرر الكاتب العربي عدم بلوغها تجبنا للوقوع تحت رحمة هيئات الرقابة العربية، وطبعا هيئات الرقابة هذه لا تبذل جهدا وليست في الغالب مؤهلة للحكم على العمل الإبداعي.

وهناك حيلة ألجأ إليها لتجنب سلطات الرقابة في الدول العربية وهي تجهيل مكان الأحداث في العمل الأدبي، كتاباتي أحرص فيها على ترك مكان أحداث القصة أو الرواية مكانا مجهولا، وهذا يجنبها حرج الرقابة.

اعتمدت هذه الحيلة في رواية "حياة مثقوبة" وفي رواية "البراني"، حيث تركت المكان مجهولا في الأولى، وخلقت للثانية جزيرة في المحيط الأطلسي لا سلطة لأحد عليها.

وفي النهاية سلطة الرقابة في عالم اليوم نمط متجاوز فلا أحد يستطيع منع أي كتاب من الوصول إلى القراء في عالم السماوات المفتوحة.

‏- ما هي رسالتك لقرّائك؟

- لا أحب توجيه الرسائل إلى القراء، فذلك يوحي بفوقية لا حقيقة لها، قراء اليوم هم شركائي في الكتابة؛ منهم ألتقط الأفكار، وبهم يصل ما أكتب إلى أفق أوسع، أتمنى أن تستمر تلك العلاقة.