كيف تجعلهم يزوجونك ؟

أحد, 09/01/2024 - 00:13

 

 

11 يناير، 2015‏

 

كيف تجعلهم يزوجونك ؟

قبل أشهر زرْتُ أخي وصديقي سيدي ولد الداهي فوجدت معه الفنان الكبير سيد أحمد ولد أحمد زيدان.. بعد أخذ ورد في الحديث، قال سيدي أحمد مخاطبا ولد الداهي "أنا لم أتعرف على ضيفك".

مضت عشرة أعوام لم ألتق فيها بسيد أحمد.

أراد سيدي ولد الداهي أن يعرفه علي، فأخذت المبادرة قائلا:

– سيدي.. هل تعلم أن سيد أحمد نسيني.. فأول مرة أتزوج فيها كان سيد أحمد هذا هو من عقد قراني.

ضحك الرجلان من هذه المفاجأة..

ولكن ما رأيكم لو حدثتكم عن القصة..؟

عام 1988، وصلني إنذار من البعثيين باحتمال اعتقالي من طرف نظام الرئيس معاوية ولد سيد أحمد الطايع، وكان الإنذار الذي حمله إلي من أثق فيه، مصحوبا بنصيحة تقتضي أن يتولى بعثيون حمايتي عبر خطة تمويه سيقومون بها للأجهزة الأمنية، والحقيقة أنني فوجئت بأن المكلفين بتوفير مخبئ ل"الشاعر" هم من الوجوه المعروفة، فكيف سيتمكنون من تنفيذ هذه المهمة شبه المستحيلة أيام سنوات الجمر والرصاص.. لكنني كنت مخطئا، فلا حدود لدهاء البعثيين وذكائهم مع المطاردات الأمنية.

سأعود قليلا إلى الوراء، لأذكر أنني وصلت عام 1987 إلى العاصمة نواكشوط قادما من "روصو"، ولم تكن لي معرفة بنواكشوط ولا سكانها، وخلال أيام تمكنت من الاتصال ببعض رفاق مقاعد الدراسة.. كانوا طلابا جامعيين يسكنون في غرف مؤجرة في مدينة "ر". ودعوني للغداء معهم في تلك الغرفة التي تعج بالدفاتر والمراجع والحقائب الفارغة في انتظار مستقبل التخرج من الجامعة..

الحقيقة أن الحظ حالف أعضاء تلك المجموعة التي أصبح جلها من خيرة ضباط الجيش والأمن فيما بعد.

بعد الغداء، جد المتواضع، مع ثلة متخصصة في "شين الشرك"، واحتساء عشرات كؤوس الشاي، وجو عاصف من التنكيت، إذا أحدهم يقول لي إن المركز الثقافي العراقي سيحتضن الساعة الخامسة من نفس المساء أمسية شعرية لكبار شعراء البلاد تضامنا مع العراق بعد المجزرة التي خلفها قصف الطيران الإيراني لمدرسة "بلاط الشهداء".

كانت الحرب العراقية – الإيرانية في أوجها تلك الأيام.

نظرت إلى ساعتي "لكورتز" المتواضعة فإذا هي تشير إلى الساعة الرابعة، وزملائي يلحون علي بالإلقاء في الأمسية التي ستجري وقائعها على بضعة أمتار من حيث نجلس.

أعطوني ورقة وقلما وكتبت قصيدة ميمية عاصفة، ترسم لوحة صارخة لموقف نزاري إلى جانب أحفاد القعقاع ضد صفويي قم وطهران.

بعد صلاة العصر، كنا ندلف القاعة الواسعة داخل المركز الثقافي العراقي (مقر حانوت أنجرليك حاليا). أخذنا مواقعنا بين الجمهور، وكانت الصفوف الأولى محجوزة لكبار شعراء البلاد وأعضاء السلك الدبلوماسي.

استرقت النظر للشاعر أحمد ولد عبد القادر، الذي أراه مباشرة لأول مرة في حياتي، وإلى جانبه: الشعراء الخليل النحوي، وجمال ولد الحسن، وأبو شجة وببهاء ولد بديوه، ومباركة بنت البراء، وبعض وجوه الإبداع.

همس في أذني أحد زملائي قائلا في ذلك السجل على الطاولة تسجل أسماء الشعراء الجدد الراغبين في المشاركة في الأمسية.

كانت الطاولة تقع قرب منصة الإلقاء مباشرة أمام الجمهور الذي تغص به القاعة، فيما تجمع المئات أمام المركز منتظرين الاستماع للشعر عبر مكبرات الصوت الخارجية.

قلت لزميلي الطالب "حسين" سجل أنت اسمي في القائمة". وهو ما قام به.

نودي على الشعراء المشهورين، الذين تعاقبوا على منصة الإلقاء.. ثم فجأة نودي (الشاعر المختار السالم أحمد سالم)).

الشيء الذي لم أنتبه له، وربما أصدقائي الطلاب، إلا في هذه اللحظة، هو أنني كنت في حالة رثة، أرتدي دراعة بالية من "الشكة" وقميصا من أردئ نوع، وأضع لثاما أبيض تحول إلى اللون البرتقالي بفعل ما تراكم عليه من غبار وأوساخ منذ باعه تاجر "قواربي" إلى اللحظة التي استقر فيها على رأسي منذ زمن لا أذكره.

تقدمت بشجاعة أحسد نفسي عليها الآن، وأنا أسمع الهمسات والضحكات المكتومة من كل صفوف المقاعد في القاعة، ورأيت نظرات السخرية في عيون أعضاء السلك الدبلوماسي، الذي يشاهد هذه الأحفورية الكهفية تتجه إلى المنبر.. كانت لحظات مسلية لجمهور أنيق مثقف.

وقفت أمام الميكروفون.. كانت نظرات الشفقة تلاحقني، والازدراء والسخرية تكاد تفقد القوم وقارهم. كانت الأصابع المشيرة إلي تنبئ بما هو أكثر من ذلك.

شعرت بأن المسؤول العراقي الذي يتولى الربط يريد الاعتذار إلي وإلى الحضور، فقد تحرك باتجاهي وهو يتكتم ابتسامته.

في تلك اللحظة بالذات.. صدحت بمطلع القصيدة.. وبشكل غير متوقع – للحضور على الأٌقل – كانت المفاجأة كبيرة، فهم يسمعون بيتا من الشعر خارج على السياقات النمطية، وبلغة إلقاء قوية.

تركت عاصفة التصفيق تأخذ مجراها..

مددت يدي ونزعت اللثام عن رأسي ووضعته جانبا.

لخص البيت، مطلع القصيدة، جريمة إيران ورفض الشعوبية والذل والهوان، والتمسك بمجد العراق اليعربي.

بعد دقائق من التصفيق الحار من جمهور غير للتو نظرته، وغاص مع الشعر، قرأت البيت الثاني ثم الثالث.. لأجد أنه يستحيل مواصلة القصيدة مع كل تلك الهستيريا التي أصيب بها الجمهور وهو يسمع قصيدة "بلاط الشهداء"..

طلبت من الجمهور مرات التخلي عن التصفيق، وأكملت القصيدة بعد نصف ساعة رغم أنها لا تتجاوز العشرين بيتا، لكن عواصف الاستحسان التي عبرت عنها الأكف ووقوف الجمهور مرات احتراما لي.. جعل إلقاء القصيدة يأخذ كل ذلك الوقت.

فور نزولي من منصبة الإلقاء تسابق السفراء لعناقي، وكان الشاعران أحمد ولد عبد القادر والخليل النحوي يشدان على يدي.

في الأسبوع الموالي أصبحت أنا المشرف على الأماسي الشعرية بالمركز الثقافي العراقي..

وهكذا، مع 1988، كان الخوف من اعتقالي ضمن موجة استهداف البعثيين وقتها، رغم أن دوري لم يتجاوز دور مشرف على أماس شعرية بالمركز.

قررت المجموعة "الاختباء" في منزل السيدة خدي بنت همام في مبنى سينما "المنى"، وكان التنقل يتم في أوقات معينة وإلى أماكن بعينها، وعن طريق سيارة للسيدة المذكورة.

بعد أيام من السكن في الطابق العلوي من عمارة "المنى"، كنت أختلس مشاهدة الأفلام في قاعة العروض عبر مقاعد خاصة لكبار رواد السينما من شخصيات بارزة، كانت المقاعد تقع في مكان لا يصله أي ضوء، ولا يمكن لجمهور الصالة تمييز المتفرجين من على تلك المقاعد.

مع جو الريبة والقلق من انتظار المجهول، كانت هناك فرصة فعلية للتعرف على نخبة من الرجال النبلاء، وكانت الجلسات حلقات شعر وثقافة ونكات وأحاديث مطولة في شتى هموم الحياة.. ومن خلالها تعرفت – ولأول مرة- على المشترك الحضاري من "ثقافات" "البيظان" ومرجعياتها.. وتعرفت أكثر على الحب العميق الذي يكنه البعثيون لشعبهم بكل شرائحه وأعراقه.

في اليوم السابع لهذا السجن الاختياري والمنفى المثير، كانت رائحة الخطر تداهم أنوف المجموعة، ويبدو لي أنه تقرر تسريع جولات الانتقال بين أحياء نواكشوط، وكانت "دار السلام" هي أفضل مقر لجلسات الاختباء.

في أحد المساءات، انتهزت الفرصة، وأخذت المبادرة بنفسي وغادرت المجموعة سرا، وفي حي "البصرة" بالمقاطعة الخامسة، شربت الشاي عند أسرة من معارفي.

وعند عودتي إلى "الوكر" الرئيسي للمجموعة وجدت العيون تشخص باتجاهي مستفسرة عن هذا التصرف الغبي الذي أقدمت عليه.

طلبت منهم الجلوس في حلقة والاستماع إلي جيدا.. وأخبرتهم بعزمي على الزواج من الفتاة "فلانة بنت فلان".

مرت ساعة من الضحك والسخرية واستغراب هذه الخطوة، إذ كيف أتزوج وأنا في هذه السن الصغيرة، ثم هل الوقت ملائم للأعراس في وضع أمني خطير علي وعلى المجموعة.. وكان هنالك تساؤل مهم وهو من أين لي بتكاليف هذا الزواج؟

أخبرتهم عن "أموالي" عند قسم المحاسبة بجريدة "الشعب" حيث كنت أعمل متعاونا وقتها، ومنذ خمسة أشهر لم أسحب رواتبي.

وجدوا أن رواتب خمسة أشهر كافية كتكاليف زفاف "شاعر مناضل"، وتقرر أن يتوجه الزميل الشيخ ولد أبوبكر والمختار ولد محمد إلى محاسبة الشعب عند منزلها لاستلام رواتبي، وذلك بناء على روابط المعرفة مع المحاسبة وهي سيدة فاضلة لن تشي بأحد.

ولكني، طلبت من المجموعة التوجه نفس الليلة إلى حي "البصرة" حيث خطبوا لي تلك الفتاة عند ذويها واتفقوا معهم على موعد عقد القران والزفاف بعد أربع وعشرين ساعة فقط.

في التاسعة من صباح الغد، أيقظوني من النوم العميق في "الوكر"، وهم يقهقهون ساخرين "قم، المحاسبة قالت إنه ليس لديك أي مخصصات، وإن رئيس التحرير الجديد قرر طردك".

كنت أحاول التغلب على النعاس الشديد، وأنا أقول لهم "طبعا، ليست لدي مخصصات عند محاسبة الشعب، لكنكم رجال من كبار القوم ولكم سمعتكم، وذهبتم إلى عائلة لها مكانتها في المجتمع ورتبتم معها عقد قران وزفاف ابنتهم دون أن تخبروهم أني مفلس وعاطل عن العمل، وعليكم احترام الناس والوفاء بالتزامكم، فلن يعذروا أشخاصا من وزنكم الاجتماعي، وسيعتبرون أنهم تعرضوا للإهانة من طرفكم أنتم بالذات فأنا لم ألتزم لهم بشيء.. عليكم تدبر الأمر فقد ورطتم أنفسكم".

في الحقيقة أني وأنا أعيد رأسي إلى الوسادة لأواصل النوم، كنت أفكر كيف سيتصرف هؤلاء الرجال النبلاء وقد وضعتهم في عين الورطة.

استيقظت الساعة السادسة مساء، وقبل أن أفتح عيني شممت رائحة تلك العطور التي توضع في لثام العريس وكانت رائحة الشواء من حولي.. كان ذلك كافيا لبث الفرحة في نفسي، فمن تلك الرائحة واضح أن الأمور سارت على يرام.. وتذكرت قولي "لها" تلك الليلة "أنا عاطل عن العمل ومفلس ولكني سأمكر مكرا جميلا يجعل البعض يتحمل التكاليف".

كان الرفاق يغالبون موجات الضحك وهم يتحلقون من حولي استعدادا للغداء المتأخر، فبعد أن غادروني في الصباح عقدوا اجتماعيا استثنائيا لبحث سبل تحصيل الأموال اللازمة للصداق وحفل الزفاف، وزجوا بكل مدخراتهم في هذه المهمة، واستعانوا بشخص خارج "الشلة".. ولكن في النهاية كل شيء تم ترتيبه.. الصداق، وأجرة السيارات التي ستقوم باستعراض أمام أهل العروس، وقاعة الأفراح، وطعام الوليمة و"حوصة العروس"… وكل تكاليف الليبرالية البيضانية.

وكان هناك خبر هام وهو أنه وصلتهم معلومات عن توقف الاعتقالات.

حقا كنت سعيدا وأنا أستحم بالماء الساخن، وأنظر إلى فضفاضتي الجديدة واللثام الجميل المعطر، قبل أن أجلس إلى المائدة العامرة بينهم وهم لا يصدقون كيف مكرت بهم عبر تلك الحيلة البسيطة.. وكانت المجموعة غارقة في بحر من النكات، وهم أسعد الناس لأنهم تمكنوا من تجاوز الاختبار الاجتماعي الذي وضعتهم في مواجهته..

عندما وصلنا مكان عقد القران كانت تنتظرنا مجموعة من الوجهاء، وأخبرني الشيخ ولد بوبكر أنهم قرروا أن يتولى الفنان ولد دندني نظرا لمكانته عقد القران وهو ما كان.

في جلسة عقد القران أخذ الكثيرون يثنون على مسامع الناس في مدحي والإشادة بخصال الشاعر الكبير والمناضل الشجاع، والكريم الأصيل الماجد.. و"لا حول ولا قوة إلا بالله"…

كان الحضور مفاجئا، وتقدمه رفيق الدرب والحرف بدي أبنو، الذي نشر بعد ذلك بيومين تهنئة لي في الصفحة الأخيرة من "الشعب".

وفي "مسيرة الزفاف"، التي تسابق فيها الزغاريد أبواق السيارات، كان الرفيق الشيخ ولد أبو بكر يغالب الزحام ليصل بسيارتنا إلى "قاعة الأفراح"، حيث دخلنا على أنغام الموسيقى والزغاريد وعواصف التصفيق ذات الوقع الخاص… كان جوا أسطوريا.. وعلى المقاعد المخصصة للعروسين جلسنا، وبدأت الجموع تتحلق حول صينيات الطعام العامرة وسط جو من البهجة والسرور.

فجأة رفعت سيدة صوتها مخاطبة صويحبات العروس "أدركنها… فقد جاءتها.. قلت لكم إنه يتوقع أن تجيئها اليوم للأسف".. ساد الصمت المطبق وأنا أرى عروسي تسقط من جانبي جثة هامدة".. إنه داء الصرع.. وبدأت النساء في هرج ومرج الصراخ على بعضهن البعض يطلبن مروحة، وكانت إحداهن تستنجد بأحد المتطوعين لتأتي بالحجاب "فلان".

صدمت حقا، وقلت في نفسي "الآن فهمت لماذا توافق تلك الأسرة على تزويج ابنتها الوحيدة والباهرة الجمال لمعتوه مثلي".. كان الوضع يحبس الأنفاس.. وقلت في نفسي "يجب أن أتحلى بالمروءة".

وأخيرا… انطلقت القهقهات تصم الآذان، وجلست العروس وهي أصح وأمضى من سيف خالد… لم يكن الأمر إلا مقلبا رتبه "الرفاق".. ومن خلاله ردوا على مكري بهم عبر مقلب لا أنساه.

في عام تال… كان الشيخ ولد أبو بكر مع أحد معارفه، الذي قال له "أريد الزواج ولا أملك فلسا واحدا".. فرد عليه الشيخ قائلا "لا أجد لك في هذه مستشارا أفضل من المختار السالم".