بتدشين متحف اللوفر في أبوظبي، تكون هذه المدينة الناهضة قد استحقت بالفعل لقب عاصمة الفن العربي وإحدى أهم مدن الفنون في العالم. ومن يعرفون أبوظبي يدركون أنها في نهضتها العمرانية المتسارعة حافظت على طابعها الفني الذي ميزها منذ بداية تطورها الحديث، وقد احتضنت في السابق العديد من المبادرات الفنية المتنوعة، وهي اليوم بمتحفها الجديد تؤكد هذا التوجه الذي يندرج في سياق الوعي بأهمية المتاحف الفنية في الصناعة الثقافية وفي تنوير المجتمع وتحديثه.
كان الفيلسوف الألماني الأشهر هيغل قد كتب، في الفترة التي ظهر فيها متحف اللوفر الفرنسي في نهاية القرن الثامن عشر، أن المتاحف الجديدة هي ذاكرة العقل في تحوله المتدرج نحو الوعي المطلق بذاته، معتبراً أنها تحتوي الأشكال المتعاقبة التي جسدت الروح، وتسمح للفكر بتأويل ومراجعة هذا المسار العقلي، فهي بذا تعادل دور الفلسفة من حيث هي كشف بالمفهوم لسيرورة العقل.
هيغل نفسه يُبين أن الفن الحديث هو المظهر الأساسي لعصور التنوير بتحويله التحف والذخائر التاريخية من منزلة القداسة والعبادة إلى منزلة الفرجة والاستعراض الاستمتاعي. فإذا كان الفن «الشريف» في الفكر اليوناني الروماني وفي العصور الوسيطة المسيحية لا علاقة له باليد (مثل التصوير والنحت) بل بالروح والعقل (مثل الموسيقى والشعر والرواية)، فإن الفن المصور أصبح في الأزمنة الحديثة هو نموذج الفن الحقيقي المعروض في المتاحف.
المتحف من هذا المنظور هو في آن واحد ذاكرة الإنسانية وعلاقة جديدة بالمكان من حيث هو البديل عن «المعابد المقدسة» على رغم احتوائه على تماثيلها «المقدسة»، كما هو أحد أهم مكونات المجال العمومي المفتوح حيث تتوطد فيه العلاقات الجماعية وتنمو وشائج المواطنة.
وفضلاً عن هذا الارتباط القوي بين المتحف والحداثة الفنية، فإنه في الوقت ذاته إطار عملي لتجسيد قيم التنوع والتسامح والانفتاح على الثقافات والحضارات الإنسانية المغايرة والمختلفة. ولاشك أن هذا المعنى كان حاضراً لدى القيادة الإماراتية التي جعلت من مفهوم التسامح أحد مقومات سياساتها الوطنية والخارجية، فأنشأت وزارة للتسامح لا يوجد لها نظير في العالم، كما قننت تجريم التمييز والإقصاء والإساءة على أساس قومي أو ديني أو ثقافي.
وكانت الإمارات قد استقطبت في السنوات الماضية جمهور الشعر العربي من خلال الزخم الواسع الذي خلفته مسابقتاها في الشعر العربي الفصيح والنبطي، والشعر كما هو معروف فن العرب الأساسي، ولذا فإن متحف اللوفر في أبوظبي من شأنه أن يمنح هذا الرصيد الفني أبعاداً دولية وإنسانية رحبة.
خلال إحدى الزيارات السابقة لأبوظبي زرت مع إحدى الشخصيات الفكرية الأوروبية جامع الشيخ زايد، الذي كان قد افتتح منذ عهد قريب آنذاك، وقد انبهرنا من جمال وتناسق أشكاله الهندسية البديعة. وقال لي الصديق الأوروبي، إن أكثر ما أثار انتباهه في الجامع بالمقارنة مع الكنائس الغربية العريقة هو خلوه من التماثيل البشرية التي تشكل في الكنائس إحدى السمات الفنية الأساسية، متسائلاً حول علاقة الموضوع بالتصورات العقدية في الإسلام وأحكامه الشرعية. وشرحت للصديق الأوروبي عدم دقة الأطروحة الاستشراقية التقليدية التي تزعم أن الفن الحسي لم يتطور في الإسلام نتيجة لتصوره العقدي للوحدانية المطلقة غير قابلة التجسد فظل في أساسه شعراً منظوماً لا شكلاً منظوراً، وبينت أن الإسلام وإن كان يرفض فكرة التجسد الإلهي إلا أنه يتبنى مفهوم التجلي الذي هو أبعد شأناً وأغنى دلالة، ولذا اتسم الفن الإسلامي بخاصيتين ملازمتين، هما جدلية القول والنظر وجدلية المنظور والمطلق. والجدلية الأولى تفسر كيف أن الشعر العربي (والفارسي الإسلامي أيضاً) يقوم على التصوير الفني بحيث تتحول الصور فيه إلى أشكال حسية جلية بقدر ما أن الأشكال المنظورة لا تخلو هي أيضاً من قول بما يفسر منزلة الحرف والخط في الفن الإسلامي، أما الجدلية الثانية فتبرز في السمة الرمزية للإبداع الفني الذي يظل موجهاً بمنطق الإيحاء والتمثيل والإشارة.
وهكذا يلتقي في أبوظبي الفن العربي الإسلامي في تعبيراته الأدبية والهندسية المتنوعة مع الفن العالمي في صيغه الثقافية والحضارية المتنوعة بأحدث الأساليب التقنية والعلمية.