
في الرشيد، حيث تتدلّى الجبال البنية كأهداب الزمن على وجه الوادي، وتنسدل الكثبان البيضاء كوشاح على كتف الصحراء، يولد المكان لغةً قبل أن يلد الإنسان.
من قمة "مري" ينكسر الأفق على لوحة من نخيل وبطحاء بَهيّ، وعلى بطحاء "تلمدين" التي كتب الشعراء عنها سطورًا لا تُمحى. هناك، وسط مزج حسي من رائحة الطلح، وهمس الحجر، ونسيم أنغام أهل آبه، وُلد الشيخ بكاي. لم يحمل في مولده اسماً عادياً، بل ذاكرة وطن وحبًّا لما لا يُرى إلا حين تشرق الشمس على الماء النقي. كان طفلاً أكبر من سنه: عيناه تقرآن الخرائط قبل الخرائط، وسمعه يستعير أصوات الأرض الطويلة — صهيل الخيول، قرع الطبول، أنغام أهل آبه المنسابة من الذكرى كعرق في الحجر.
تعلّم في الرشيد أن الشرف درس يُورث بلا مال، وأن الكرامة شجرة تُثمر بالصبر لا بالجاه. حين نبتت في صدور الجيل فكرة الناصرية، ذلك الحلم العروبي الذي يسري همسًا في أزقة الزمن، وجد الشيخ بكاي فيها قناعة أكثر من منظومة. لم تكن حركة يُلوحون بها علانية، بل أمانة تُتداوَل في الظلال: عدل، كرامة، وطن لا يُباع. لم تطوِ الدولة ذلك الحلم صمتًا. في الثمانينيات، حين صار كل سؤال تهمة وكل فكر تهديدًا، سُحِب الشيخ بكاي إلى مصاف المنبوذين.
الزنزانة كانت كتابًا من حكايا العذاب: جدران تبتلع الصوت، ورطوبة تبلّل الذاكرة، وظلام يُعلّم المرء حفظ نفسه جزءًا من حلمه. التعذيب ليس مجرد ألم جسدي، بل امتحان لمقدار الحبر الذي يبقى في القلب. ذاق كل صنوفه: الجلد، الإهانة، سخريات الحراس من نضاله، لكنه كان يسمع في رأسه أنغام أهل آبه، فتنهض في داخله قصيدة من جلد مُنعقَش بالثبات. لم يُكسر؛ كسرُه مماثل لأن تقتلع شجرة من وسط جذورها: الجذور باقية، والنخلة ستثمر إن أعيدت الأرض. خرج من المعتقل بعينين صافيتين وبصوت أقوى من كل لجام. لم يكن يحمل رغبة ثأر، بل رغبة كتابة تطهّر الضمير.
استعاد قلمه كما يعيد الإنسان ما تبقّى له من جسد بعد حريق: بعناية، بصبر، وبإيمان أن الحرف لا يُهان. من نواكشوط إلى لندن، ومن الصحافة الورقية إلى أروقة الـBBC، صار صوته مرجعًا لمن يطلب الحق، ومِرشادًا لمن ضل الطريق إلى معنى المهنة. ثم جاء الزمان الذي حول الصحافة إلى سوق. صارت المعلومة تُدار من خلف الشاشات كما تُدار بضائع في متاجر مُقلَّدة؛ صار اللقب يُوزَّع كإعجاب على صفحات لا تقرأ غير صدى الذات. في هذا الزمن، وقف الشيخ بكاي شامخًا — لا كاستعراض، بل كشاهد — ليقول: إن الشرف ليس شعارًا يُعلَّق، بل قسم يُكتب بعرق التجربة ودم الحقيقة. وجاءت اللجنة. جاءت كثقب صغير في ثوب عتيق، ثم تحوّلت إلى جرح ينزف خبثًا. لجنة تمنح بطاقات تُدّعى بها الشرعية، ولجنة تُشبه حفلة تُوزع فيها أوسمة النفاق. لم يجلس الشيخ بكاي بينها، ولم يُدع مطلقًا إلى موائد تُلهى عن الأصل.
استُبعد عمداً، لا لأن له عيبًا في كتابته، بل لأن وجوده يكشف عورة العملية؛ وجوده — بحضوره الأخلاقي — يجعل كل ممرمَّط يرتدي ثوبًا رقيقًا من الادعاء أنيقًا ومحرجًا. ظلموه بإقصاء بارد، ظنّوا أنّهم يُقطعون صلة الأمة بضميرها، وأنهم إن محوا توقيعَه فقد محوا التاريخ. لكنه لم يُقصَ لأنه يفتقد شيئًا، بل لأنه يُمتلك شيئًا لا يطيقه الصغار: ثِقَل الحقيقة. الإقصاء لم يكن هزيمة له، بل مكشوفة لهم — مراياهم المكسورة عادت تعكس وجهها القبيح. الظلم مزدوج: تعذيب السجون، ثم تزييف الشرعية. أُعذِب لأنه آمن؛ وأُهين لأنه ظلّ آمنًا بعد أن صار الباطل يلوذ بقشور مؤسسات. هنا تبدأ الحقيقة في إصدار حكم لا يرحم: من يُنفي رجلاً بظل اللجان لا ينفي التاريخ، بل يكشف عن فقره.
ومن يحاول إلغاء اسم بحجة الإجراءات يثبت أن القيم قد سقطت في قبضته. أما العميد فقد صار أوسع من بطاقة، وأنبل من منصب، وأقوى من قرار أصله الخوف. أشد ما في القضية أنّ الذين أخرجوه من القوائم لم يدركوا أن فعلهم ذاته كان شهادة عليه. المجاملة حين تُنزع من السياق تصبح فضيحة، والعدل حين يُحجب يصبح سلاحًا يعكس وجوه من حملوه. ظل الشيخ بكاي واقفًا، بلا منبه للبريكار العلني، بلا حاجة لتصفيق التائبين؛ كل ما احتاجه أن تظل ذاكرة الصحافة حيّة لتسمع اسمه حين يهمس التاريخ. الخاتمة — الجملة التي تُفجّر الصمت — ليست شتيمة في وجه اللجان، بل حكم الزمن: من حرم من حملت الصحافة، حملته الذاكرة؛ ومن نزع عنه البطاقة، منحه التاريخ بطاقة لا تُمسح. الشرعية التي تمنحوها بأختامكم ليست شرعية المهنة، بل شرعية الذوات الزائفة. أما الشرعية الحقيقية فهي توقيع الحياء الذي نوقعه في أعماقنا حين نرى من ضحّى. التاريخ سيكتب: رجلاً كُتب بالوجع، لم تُشترَ قناعاته، ولم تنقضه السجون، ولم تُلغِه لجان الخداع.
سيذكره الناس كما يذكرون غذاءً بارزًا في زمن الجوع: أمر نادر ينبغي أن يُحفظ. وإن ظل بعضهم يعظّمون بطاقاتهم، فليعلَموا أنّ هناك بطاقة تُوقّعها الأزمنة، وتُعطى بغير إذنهم: هذه بطاقة الزمن للشيخ بكاي: "قد جُرد من الأوسمة، لكن لم يُجَرَّد من الحقيقة. قد حُرم من الاعتراف الإداري، لكن لم يُحرم من قلب الناس." سلام على من خطّ بعرق التجربة ودم الحقيقة معنى الصحافة، وسلام على كل نفس رفضت أن تُباع. ومن ظلمه اليوم قد كتب بحبره شهادة لا تبلى — شهادة لا تصدرها لجان، بل تُوقّعها الأيام.










