
(كُلُّ يوْمٍ والعربيةُ بعيدةٌ عنْ مُتَنَاوَلِ العَابِثِينَ بها ألْسِنَةً وأقْلاماً وأفهاما)
بالنسبة لي كل أيامي للغة العربية، لأني-نتيجة خلَلٍ في تَعَلُّمِي؛ حرمني دخول المدارس والمحاظر قبل الباكلوريا- لا أعرف لغة سواها، فأنا سجينها المتمتعُ بسجني المؤبد، تعلما وتعليما، حيث كنت دارسها ومدرسها المتذوق لحلاوتها، والمتعشق لطلاوتها، وعلى الرغم من شظف الدراسة والتدريس معا، كنت الطالب المنافس- دائما- على الرقم الأول، والأستاذ الحريص على تفوق، وتعمق طلابه، وبعد عقود من السياحة في هذا السجن الجميل، وجدتني كلما أرْجَعْتُ البصَرَ كرَّتَيْنِ في بعض نصوصي، أجِدُ عراقةَ نسبنا الروحي إليها، تطلُّ بين الفينة والأخرى، حيث تأبطتُ سدانة شنقيط للغة العربية، منتهى منتبذها القصي في مغاربها، زادا، في رحلتي إلى "إمارة الشعر" بأقاصي مشارقها2008م
مِنْ مَلْجَأ الضادِ.. أرْض الشِّعْـر.. مَعْدنه
شِنْقيط.. كَعْبَة ألوانِ الثقـــافاتِ
آتي.. ومِلْءَ فمِي.. إمارَةُ الشُّعَـرا
تُضيئُ للحُلُمِ المَوْعودِ أبْيـاتي
آتي.. وخَلْفِي تُنـادِي كُـلُّ مِئْذَنَةٍ:
الله أكْبَرُ.. لا تَخْشَ الغَدَ الآتـي
آتي.. وخلفي صُفوفُ النخْل.. تَرْقبُنِي
عِزُّ الجِبالِ العوالِي مُلْهِمٌ ذاتــي
آتي.. وبِي رَمَضُ الصَّحْراءِ يُشْعِلُنِي
عَزْمًا أمَامَ التحَدِّي في الرِّهاناتِ
آتي.. ونَبْضُ دَمِي بالشِّعْـر مُتَّزِنٌ
قَدْ أوْرَثَتْنِيهِ أجْدادي وجَــدَّاتي
ملْيُونُ قَلْبٍ غَـرَامُ الشِّعْـر يَسْكنُهُ
رَغْمَ العَوائِقِ.. هُمْ لِلْفَوْزِ مِرْقاتي
ثم يطل هذا الانتماء العميق العريق إلى اللغة العربية في قصيدة "المآذن السائبة" 2010م:
رَكْبُ الشناقِطةِ الألى صنعُوا اسْمَنا
أبْـنـــــــاءُ هَــــــــذا الرَّمْـل.. أهْــــلُ اللـــهِ
***************************
قدْ عَرَّبوا أقْصَى التخوم.. فأصْبَحَتْ
لِلسّـاكِــــــنِي أرْضَ الحِـجَـازِ تُبَــاهِي
لُغَةُ السّمَا.. تزْدَانُ.. فوق شِفَاهِهِمْ
وَمُعَلّــقــــــاتُ الشِّعْرِ.. زهْـــــوُ مَـــــلاه
وهكذا انحدرت هذه اللغة –مع الإسلام- إلى دمائنا، من بين أصلاب هؤلاء الآباء، وترائب الأمهات، وراثة وتوريثا: من خلال قصيدة "أمي نشيد الكون"، 2010م
أمِّي.. رضَعْتُ أنَايَ.. ملءَ حليبها
فالضادُ والإيمانُ تَوْأمُ مُرْضع
كانتْ تُهَدْهِدُنِي بذكْرِ اللهِ.. في
أذْنٍ.. وفي الأخْرَى بشِعْرٍ مُبْدَعِ
"قل أعُوذُ".. مازالتْ يُرَتِّلُها دَمِي
ومُعَلَّقاتُ الشِّعْر.. تَسْكُنُ مَسْمَعِي
وأمام هذه المعطيات كان الشاعرُ الموريتاني المُهاجرُ فيَّ، يقدم نفسَه للآخرين2012م: في قصيدة نشيده الأسيف العنيد:
تأبَّطْتُ من أرواح "مليون شاعرٍ"
أساطيرَ؛ أبْنِيها، ولا أستعيرها
أنا ابنُ صَمِيمِ الضَّادِ ممْلَكَتِي الرُّؤَى
بِبَيْتِ القَصِيدِ البِدْعِ.. جَلَّ سَرِيرُهَا
ولمنْ تُساورُه الشكوكُ في صِدْق مُنْتَمَاهُ أنْ يلجأ إلى فحْص الحِمْض النَّوَوِي، فشعْبُ "المليون شاعر" – دون ريْبٍ- من "سُلالة المُتَنَبي"، وأسلافه، 2010م:
افحصْ دَمِي.. تُبْصِر رحيقَ الأحْرُفِ
أوْجُسَّ.. نَبْضِي.. تُصْغِ فيه لمعْزَفِي
أنا منْ سُلاَلَةِ مَنْ تَنَبَّأَ شَــــــــــــــــاعِرًا
المُرْتَقِينَ إلى المَقامِ الأشْرَفِ
هذا إضافة إلى اعتكافي في محراب التَّدَلُّهِ بـ "لغتنا الجميلة"عبر قصيدة "لغة السما"2017م التي تمحضت لها معنى ومبنى:
الضــــادُ.. يــا لُغَةَ السَّــــمَـــا.. أعْــــــلاكِ
رَبُّ السَّــمَــــــا.. كُلُّ اللُّغَــــــــــــاتِ فِدَاكِ!
رّبِّــي اصْطَفَـاكِ.. لِسَـــــانَ أَعْظَمِ كُتْــبِـــهِ
فالأرْضُ عَرْشُــكِ.. والسَّــمَــــاءُ لِــــــوَاكِ!
أنّي سَأكْتُبُ.. عنْكِ.. فِيكِ.. بِكِ.. القَصَـــا
ئـِــدَ؟! هلْ لِــــــــذَاتِكِ.. واصِــفٌ.. إلَّاكِ؟!
فَتَرَقْرَقِي.. بِدَمِـي.. سُـــــــلافَــة كَـــــوْثَرٍ
يَا طـــــــــاقَةَ الأَرْوَاحِ.. مَـــــا أحْــــلاكِ!
ولْتَعْــزِفِي.. ألْحَانَكِ الحُلْــوَى.. عَــــــلى
إيـــقَـــــاعِ نَـبْــضِي.. إِنَّنِـــي أهْــــــوَاكِ!
لُغَةً.. تُغَــنِّــي.. نفْـــسَـــها.. لِجَـــــمَـالِها!
يــــا حُسْنَ حُسْنِكِ! يـــا جَـمَــــالَ غِنَآكِ!
تتَضَـــوَّعُ الدُّنْــيَا.. إذا عَبَقَ الشَّـــــــــــذَا
منْ سِحْرِكِ.. السَّـــــارِي.. مَــدَى رَيَّاكِ!
يَــتَـــمَــوَّجُ المَــــعْـــــنَى.. دَلَالاتٍ.. إذَا
قَـبَــسَ الكَلِــيمُ.. النَّـارَ.. نَـــارَ طُــــوَاكِ!
يَغْـشَـــــاهُ سِرُّكِ.. حِــــيـنَ يَخْلَعُ نَـعْـــلَه
فِي قُدْسِ وَادِيـــــكِ الظَّلِـــــيلِ.. الزاكي!
تَنْحَـــلُّ عُـقْــدَةُ نُـــطْـقِــهِ.. وَيَمُـــــــــدُّهُ
قَــلَمٌ.. يَهُشُّ.. عَلَى الرُّؤَى.. بِعَـصَــاكِ!
فَتَزفُّ عَبْقَرُ.. نَحْــــوَهُ.. إلْهَـــامَ.. كُــلِّ
النَّـــــــاسِ.. كُـلِّ الجِّــن.. والأمْــــلاكِ!
رُحْمَــاكِ.. يَــا لُغَةَ السَّمَاءِ.. بِشَــــاعِـرٍ
قدْ هَــامَ.. فِــيكِ.. تَدَلُّهًا.. رُحْمَــــــــاكِ
إنِّي ابْنُ شنْقِــيــطَ.. التِي كــانـتْ.. هُنَا
مَنْـفَـى عُكَــاظِكِ.. مُنْــتَهَــــى مَثْــوَاكِ!
مَسْرَى القـوافِلِ.. بالعُـرُوبَةِ.. والهُـدَى
في الخَافِـقَـيْـنِ.. تَبُثُّ.. طِـــيبَ شَـذَاكِ!
فَلْتكْتُبِي.. بِفَـــــمِــي.. قَصِيدتَكِ.. التِي
لمْ تكْتُبِي.. لِأفيض. مِلْءَ صَــدَاكِ
وفي هذه الأثناء كانت الأقدار المباركة التي نسجت علاقتي باللغة العربية تأخذ بيدي – هذه المرة- من مهنة الدارس المدرس لها، والباحث فيها، والشاعر الكاتب بها، إلى مدار الخبير اللغوي، في صناعة المعاجم ، حيث لم أكن أتوقعني أن أكون أبدا، فإذا بي عضو في فريق "معجم الدوحة التاريخي للغة العربية"، المنتخب من صفوة لغويي، وأدباء العالم العربي، من مختلف جامعات العالم، لبناء أول معجم تاريخي، لهذه اللغة/ القديسة،، بتقنيات خبراء الحوسبة اللغوية، اللذين كان لموريتانيا تمثيل ريادي ضمنهم، إضافة إلى تمثيلها المعتبر، والبدهي، في معجميي العربية، فقلت في حفل إعلان اكتمال مرحلته الأولى نهاية 2018م:
هـا "مُعْجَم الدوْحة".. الحُلْمُ.. الذي هَرِمَتْ
ولمْ تُحَقِّقْهُ.. لا قحْــــطانُ.. لا مُضَرُ
اليومُ.. يَنْهضُ.. مَشْـــــــروعًا.. لأمَّتِنَا
مهْمَا رَعَــتْه- اسْتبـاقًا فِي العُـــلا- قطَرُ
قدْ جَــــــاءَ مَصْنَعَ مَجْدِ العُرْبِ.. مَلْحَمَةً
تُبْقِي.. وَكُلُّ حُــرُوبِ العُرْبِ.. لا تَذَرُ
قد قامَ.. صرْحًا.. سَمَا.. فَوْقَ البُرُوجِ.. هُنَا
تكلَّلَ الشمْسَ.. تـاجًا.. زانَها القَمَرُ
لمْ تبْنِ جِنُّ سلـيْمـانٍ.. لـــــــه.. شبَهًا
بلْ.. نحْنُ شِدْنَــــــاهُ.. نحْنُ الجِنَّةُ/ البَشَرُ
فكلَّ حرْفٍ.. عَصَا مُوسَى.. نَهُشُّ.. به
فالبَحْـرُ: مُنْفَلِقٌ.. وَالصَّخْــــــرُ: مُنْفَجِرُ
والمُعْجَمُ البِدْعُ.. في تَاريــــخ مُعْجَمِنــَا
بالحاء.. والباء.. مصْنـــــوع.. ومُبْـتَكَرُ
وحيثما لا مست قصائدي أوتار الهوية الشنقيطية، لا بد لبصمة العربية لغويا وشعريا أن تتجلى هنا وهناك، فعندما كتبت قصيدة" أبناء شنقيط سر الله"، قلت:
تَعَوَّذَ الرَّمْلُ بِالقـــــــرْآن، فانْعَرَبَتْ
مَعَــاجِمُ الأرْضِ.. واحْلَوْلَتْ بها الجُمَلُ
حتَّى مَزامِيرُ وَفْدِ الرِّيـــحِ مِنْ سُوَرٍ
ومِنْ قَــــوَافٍ.. سَرَتْ تُحْدَى بها الإبِلُ
كأنَّمَا "اقْرَأْ".. بهذا الرمْل قدْ نزلتْ
وجَاهِلِـيُّــو بنِي الأشْعَــــــار.. قدْ نَزَلُوا
تَفَـــاعَلَتْ "سُورَةُ الأحْقافِ"- مُلْهِمَةً-
و"سُـورَةُ الشُّعَـــــرَاءِ".. قُدِّسَ الزَّجَلُ
فَكُلُّ حِقْفٍ تُصَلِّي الهَسْهَـسَــاتُ.. بِهِ
وكُــــــــلُّ وادٍ بِذِكْـــــر الله مُنْــــشَغِلُ
وكُلَّ نادٍ "عُكَاظ"، "ذُو المَجَازِ" ومِنْ
وِدْيَانُ عَبْقَرَ فــــاضَ السَّهْلُ وَالجَبَلُ
هذا يُغَنِّي: "قِفَا نَبْكِ" الطُّلَـــولَ.. وَذَا:
"وَدِّعْ هُـرَيْــرَةَ إِنَّ الرَّكْبَ مُـــرْتَحِلُ"
وفي مشاركتي- مؤخرا /2023م- في مسابقة شعرية مشرقية كان من ضمن تقديمي لنفسي، اعتزازا بهويتي الشنقيطية:
إنِي أنَا الشِّعْرُ، وابْنُ الشِّعْرِ.. يَـــا مَلَأً
قَصــــائدي- نحْـوَهُ- قدْ زَفَّـــــهَا الشَّغَفُ
على "بُرَاقِ" "المَجَازِ" البِدْعِ قدْ عَبَرَتْ
بـ "ذي المَجازِ".. إلى "عُكَاظَ" تَزْدَلِفُ
مِنْ مُنْتَهى العُرْبِ غرْبا.. نحْو مَشْرِقِها
أحُجُّ.. مِنْ "زَمْزَمِ" الإلْهـــــامِ أغْتَرِفُ
من "عبْقَر" الشِّعْر..ِ فِي "شنْقِيط".. قدْ هَتَفَتْ
"هَوَاتِفُ الجِنِّ" بي: تَتْوِيجُكَ الهَدَفُ
والخلاصة أني – يا لغتي العربية- سعيد بأن قيضني الله لأن أكون من صناع محتواك الباقي في سجل الخلود، بعيدا عن ضوضاء صناعة المحتويات السيبرانية الزبدية الذاهبة جفاء، ورزقني- من حيث لا أحتسب- أن أكون من بناة معجمك التاريخي الكبير المتجدد، ومن حماة حماك المقدس، ومن "عشاق البيان والتبين"، فيك.. بك.. لك
ادي ولد آدب










