إعلان

دروب عبد البركة (رواية) / محمد ولد محمد سالم

سبت, 08/19/2017 - 01:01

الفصل الأول
درب الطفولة
قال علي مخاطبا أعمر:
-                     قد نويت أن أخرج بحثا عن أبي، فقد حان الوقت للوصول إليه إن كان ما يزال حيا أو الوقوف على أخباره وأخبار ذريته إن كان توفي.
-                     هذا أحسن كنت سأشير عليك بذلك.
-                     وأنت ستكون معي في هذه الرحلة.
-                     ومتى تنوي السفر؟
-                     غدا أو بعد غد، لقد وافقوا لي على إجازتي السنوية اليوم.
-                     لكني أنا حديث عهد بالإجازة، ولا أراهم يسمحون لي بإجازة جديدة.

-                     دع ذلك لي، فإن لي أصدقاء مديرين في قطاعك، وسوف أحصل لك على إذن بخمسة عشر يوما على الأقل، الأمر سري جدا، وليس لي غيرك.
-                     وهل أعددت سيارة؟
-                     غدا سنكتري سيارة من إحدى وكالات السفر، ونتجهز ثم ننطلق بعد الظهر إن شاء الله، أحط الأمر بكامل السرية، وإذا ألح عليك الأهل فقل لهم إنك تسافر معي في مهمة حكومية.
-                     وأين ستكون وجهتنا؟
-                     أبي كما تعلم ينحدر من لعصابة من قرية قرب باركيول، ولكن لا أمي ولا أحد غيرها يذكر بالضبط الاسم الصحيح لهذه القرية، فهم يترددون بين أسماء كثيرة (الشوفة – التوكة – الوكفة) وقد ذكر لي بعض ممن يعرف المنطقة أن هنالك قرية اسمها (التوكة) وهي على بعد عشرين كيلومترا شرقي (باركيول)، ولذلك فإن علينا أن نبدأ بتلك المنطقة.

-                     أظنها (التوكه)، سمعت خالتي مرة تقول ذلك.
-                     هي غير متأكدة تماما من الاسم، على كل حال سأحاول الاتصال بأحد مديريك الليلة ليجهز الترخيص غدا، وسأمر عليك في العمل لترافقني إلى وكالات تأجير السيارات، لا بد لنا من سيارة رباعية الدفع، الطريق سيكون شاقا وأمامك عمل مضن.
-                     اطمئن فهذه مهنتي، لقد تعودت أن أجلس خلف المقود أياما وليالي، العمل مع أهل التنقيب ليس سهلا.
-                     قريبا إن شاء الله، سوف تتخلص منهم، سوف أشتري لك شاحنة (لاندكروزر). لتعمل فيها على راحتك.
-                     وهل تظن نقل الركاب سهلا، إنها أصعب مهمة يقوم بها السائق، لكن - على رأيك - سأتحرر على الأقل من الالتزام بدوام رسمي.
-                     سأودعك الآن ويجب أن تنام بسرعة. لكي تبدأ الرحلة وأنت مرتاح.
-                     سأفعل... عليك أنت أن تحترس وتقود سيارتك بهدوء، ولا تنس أنك ما زلت تتعلم، والسرعة ليست من السياقة.
-                     لقد صرت ماهرا في القيادة.
-                     ذلك شيء يخيل إليك!
-                     أعرف أن المعلم لا يرضيه من تلميذه شيء، فهو يريد له الكمال المطلق، ولكن لا بأس، إلى اللقاء.
ها قد جاء اليوم الذي ستنفذ فيه رغبتك القديمة، الحلم الذي راودك سنين يدنو من التحقق، ستبدأ الرحلة التي طالما تمنيت، رحلة الجذور، ولطالما حسبت الجذور ووقفت على نهايتها ولكن جذرا واحدا استعصى عليك، أين عبقريتك... ما بالها لم تفدك هذه المرة، جذر الأصل لم تقف له على حقيقة، وبقيت تائها ضائعا رغم ما يرى لك من حضور وقوة.
كان أعمر حين يغضب منك يقول لك:
-                     اللعنة عليك وعلى أبيك الذي لم تره قط.
وكنت تفور  غضبا، وتهجم عليه ضربا وسحقا ولا تتركه إلا حين يصيح ويسترحمك، كان يعرف أن ذلك يغضبك، وما كان يقوى على ضربك، ولذلك يلجأ إلى السب حين يريد أن ينتقم منك، بم ترد عليه غير الضرب، يتيه عليك بأبيه الذي تراه يذهب ويعود، صباحاً ومساءً، ينفق على أبنائه ويرعاهم ويؤمنهم من غوائل الزمن...ها قد حان الوقت لترى أنت أيضا أباك وتريه لهم جميعا. لتذكر أعمر بما كان يعيرك به قديما، ولن يكون نسيه، رغم أنكما الآن رجلان وابنا خالة حميمان.
ارحل .. اقصص الجذور إلى نهايتها. روّ حنين السنين من معاينته...كيف سيكون شكله؟ لا تحضرك إلا صورة الحسن والد أعمر .. ولكن عبد البركة كان أسيل الشعر أسمر البشرة دقيق الأنف كما وصفوه. انظر في المرآة أنت شبيهه كما قالوا. أطل النظر في المرآة. احفظ قسمات وجهك حتى إذا ما رأيته عرفته، هذه القسمات هي ضالتك، أنت ضالة نفسك...
مسكينٌ سلامي! كان ضحية لضياعي وبحثي عن نفسي، كنت عائدا من المدرسة، فلمحته أمامي هو وأخته الزهراء، فراق لي أن ألتحق بهما، كانا جديدين في الحي ومنزلهما غير بعيد من منزلنا، وقد لقيت سلامي مرتين أو ثلاثا ولعبنا الكرة معا لكني لم أكن قد احتككت به، ثم فوجئت به هو وأخته معي في القسم نفسه، انجذبت إلى تلك الفتاة منذ الوهلة الأولى، فقد كانت جميلة وفي عينيها بريقٌ نفاذ، حين تسلطه علي أحس كأن نورا ساطعا يغمرني، ينفذ إلى جسدي الفتي ثم يحرقه بناره، وكنت أهتز لذلك الإحساس، رغم قلة عدد المرات التي التقت فيها نظراتنا، لكني في ذلك اليوم قررت أن أرافقهما، وكانت المدرسة بعيدة بعض الشيء، لا بأس سأجد الوقت الكافي للتعرف عليها، حثثت خطاي حتى اقتربت منهما وناديته:
-                     سلامي .. سلامي..
التفت إلي حتى عرفني، ولم يزد على أن شار لي بيده ثم ولى في طريقه وكانت أخته أكرم منه فقد جعلت تنظر إلي من لحظة لأخرى حتى لحقتهما فقلت له:
-                     كيف حالك يا سلامي.
-                     أنا بخير.
-                     لم أرك في الملعب منذ يومين.
- قد وجدت أصدقاء آخرين وصرت ألعب معهم.
- أين هم؟ كل أولاد الحي يلعبون في ساحتنا.
     - جنبَ الحنفية. وأغلبهم من الزنوج.
     - هذا مكان بعيد، ونحن إخوتك، فلماذا تتركنا؟.
- لم تعجبوني، والزنوج طيبون.
- هل أساء إليك أحدنا ؟!
-  أنا...من يفكر منكم في الإساءة إلي أكسر عنقه.
فاجأني أنه يحدثني بصلف وقد أحست أخته بذلك فقالت له:
-                     ما لك غضبان ؟ ما هكذا ينبغي أن تقابل من يعرض عليك صداقته، خاصة إذا كان زميلا لك في القسم.
-                     لا أرغب في صداقته.
ردت عليه بانزعاج:
-                     أنت غبي، هذا ولد يسكن في حينا، وأرى في القسم أنه ذكي، فكيف لا ترغب في صداقته ؟
كنت أنظر إليها وقد بدت لي أجمل بكثير وهي تلوم آخاها، و وددت لو أني احتضنها في تلك اللحظة. لكن الغبي تمادى في حماقته، وصفعها ثم نظر إلي وقال:
-                     أنا لا أرغب في صداقتك، ولا في صداقة أحد من أبناء حيك الأفرياء
كنت ما أزال مندهشا من سبب هيجان ذلك الولد، لكنني حافظت على هدوئي وقلت له:
-                     أنا كذلك ليست لي أية رغبة في صداقتك. وكان عليك أن لا تصف أصدقائي هذا الوصف.
-                     بل أصفك أنت نفسك به، فماذا أنت فاعل؟
قل له دون تردد:
- أتحداك أن تفعلها.
أقبل علي وقال بملء فيه:
-                     أنت فري..لا أب لك.. أتسمعني ؟
كانت أخته قد انخرطت في البكاء تبكي لكنها أمسكت عنه حين رأت أخاها يصيح في، نظرت إليها نظرة اعتذار والتقت عيناي بعينيها، في لحظة خاطفة، لكنني كنت قد اتخذت قراري ولن أستطيع التراجع، وكنت حين أكون في قمة الغضب يتماسك جسمي نوعا من التماسك يضفي على حركتي ثباتا غريبا، كثيرا ما يخدع غريمي فلا يظن أنني سأحرك ساكنا، ومع ذلك فقد كنت وضعت خطتي منذ اللحظة الأولى لكلامي مع سلامي فقد لاحظت عن يميني شظية لبِن بدت لي متماسكة وقوية وبحركة واحدة كانت الشظية في يمناي ثم أذكر صوت ارتطامها برأس المسكين و الصيحة القوية التي صدرت منه، والدم يسيل منه والفتاة تصيح وتلطم وجهها:
-                     ياي.. ياي، لقد شج الملعون أخاي..ياي..أغيثوني..
هرع إليه بعض المارة ليسعفوه...تحسست جسدي كان باردا جدا رغم أن النهار حار والوقت وقت الزوال، لكن تلك كانت حالتي دائما حينما أنتقم أجد في جسدي برودة وأقهقه في داخل نفسي، ولذلك لم أرتبك، بل كانت لدي مهمة أخيرة أردت أن أنجزها فقد اقتربت منه وكان أحد الرجال قد أجلسه، فوقفت عليه ثم بصقت على رأسه دون أن أتكلم، و انقلبت راجعا، لكن يدا امتدت إلى رقبة قميصي وسمعت رجلا من خلفي يقول:
-                     تعال هنا أنت مجرم ويجب أن تسلم للشرطة.
التفت إليه وقلت:
-                     لست في حاجة إلى الإمساك بي، فأنا لن أهرب وأنا مستعد للذهاب إلى الشرطة.
رآنا واحد من أطفال الحي وكان الرجل ما يزال يمسك بي فعرف الأمر وأسرع إلى أمي فأخبرها فجاءت تعدو هي وخالتي وأبناء خالتي، وأقبلت علي مذعورة، وخلصتني من الرجل ثم سألتني عن ما وقع فرويت لها باقتضاب ما حدث فأشارت إلي خلسة بالانصراف، وهددتني علنا بأنها ستعذبني عذابا أليما إذا هي فرغت من علاج الولد وأخذت سلامي وأدخلته إلى منزل بجوارها، وعلمت بعد ذلك أنهم ضمدوا جرحه بالمسك وسعوط التبغ وعصبوه بخرقة من القماش ثم أخذوه إلى أهله، أما أنا فعدت إلى منزلنا صحبة أبناء خالتي وعمدنا إلى سقيفة منزلنا وكانت مدلاة الستائر، وأخذنا نتبارى في القفز على قدم واحدة، وغافلتنا حتى اقتحمت علينا السقيفة، ورأيتها تحمل عصا غليظة وتتجه إلي، فرفعت الستارة من جانبي ومرقت تحتها لكن ضربة قوية تمكنت من عقبي، وخرجت أحكه. ولم أذهب فقد عثرت على خالتي واحتميت بها وكانت أكبر من أمي، ومع ذلك لم أكن خائفا ولا نادما على ما فعلت، بل كنت مستعدا لأستسلم لها لتفعل بي ما تريد ، لكني وجدت لعبة المراوغة والاحتماء مسلية، فظللت أروغ منها إلى أن تعبت فتركتني على وعيد أنها إن تمكنت مني فسوف تكتفني وتضربني ضربا مبرحا، فضحكت وأنا أقف بعيدا :
-                     إذن لن تمسكي بي.
لم أشأ أن أذهب إلى الشارع تحسبا لانتقام أهل سلامي مني، وملت إلى كوخ خالتي ومعي أبناء خالتي وواصلنا هناك لعبنا، وظللت منتبها حتى لا تفاجئني أمي فلا أجد سبيلا للهروب، وكان ذلك يوم أمي من الطبخ وحملت إلينا خالتي الغداء فتغدينا هناك، واجتمعت بعض النسوة على أمي يثرثرن ويتغدين ويشربن الشاي، وما كدنا نلحس أصابعنا من الغداء حتى سمعت جلبة قريبة من كوخنا وصوت رجل يعلو يغمغم بكلام أنصتُّ له، كان ذلك والد سلامي وكان غائبا وقت الحادثة ولما  عاين ما وقع لابنه، جاء يبحث عني لينتقم له مني، وكان يقول:
-                     أين ذلك الولد المعتدي لأهشم رأسه.. أين ذلك الذي يظن أن أولاد الناس خلقوا له ليتجبر عليهم.. لقد حانت نهايتك.
كنت أراقب الموقف من خلال الفرجات بين خشب الكوخ، ورأيت جيراننا يتلقونه يريدون أن يردوه، ورأيت أمي وخالتي وقد خرجتا من الكوخ وهما مترددتان بين تلقي الرجل وبين الانتظار، ثم إن خالتي تشجعت وتقدمت في اتجاه حلقة الناس، وحين رأيت ذلك بحثت عن شيء في الكوخ يمكن أن أتسلح به وتذكرت رفش والد أعمر وكنت أعرف مكانها فوق سقيفة الدواجن، فهرعت إليها، صعدت مع إحدى عمد السقيفة حتى رأيتها ومددت لها يدي والتقطتها وجدتها مناسبة فقد كانت من النوع الخفيف القصير، نزلت والتفت منصرفا فإذا بإحدى يدي أمي تمسكني من قميصي والأخرى تمسك الرفش، وهي تسألني:
-                     إلى أين أنت ذاهب.
-                     أريد أن أهشم رأس ذلك الرجل.
-                     هل جننت، تتصدى لرجل في سن أبيك، وهو يحمل عصا كأنه ثور هائج ؟ هل تريد أن تلقي بنفسك إلى الهلاك ؟ .
-                     دعيني، أفلق لك رأسه.
لكن ما حدث بعد ذلك كان فظيعا، موقف لم أكن أتصوره، رأيت أمي ترسل الرفش وتحيطني بكلتا يديها وتضمني ضمة شديدة وانخرطت في بكاء حاد، وأحسست بدموعها الحارة تسيل على خدي وقد سقطنا نحن الاثنين أرضا وسمعتها تقول:
-                     إذا كانت لا تهمك حياتك ، فأنا لا أستطيع أن أستغني عنك، ولا أتصور الحياة من دونك. ليس لي غيرك. أنت كل شيء لي في هذه الدنيا بعد أن مات أبواي، وذهب أبوك ولم يرجع، إن عليك أن تعرف أنك إذا قتلت نفسك فقد قتلتني معك...يكفيني ما مر علي من العذاب، وما أنا فيه من حاجة...ولن أستطيع أن أعيش على فراش زوجة أخي التي آذتني كثيرا وأنا بهذا البعد منها فكيف إذا عجزت وجلست على فراشها، والحسن زوج خالتك رجل غريب علي ولا يليق أن أقاسمه فراشه، وليس بعد هؤلاء إلا رصيف الشارع.. فهل يرضيك أن أتشرد بقية عمري.. لن يكون للحياة قيمة بعدك، فأنت كل أملي فلا تحرمني بطيشك وجنونك من أملي...أرجوك...أرجوك...لم أعد أستطيع أن أتحمل.. يا الله.. لن أسامحك إذا فعلتها.
كان ذلك شيئا فظيعا.. أحسست كأني أذوب من تحتها وسالت دموعي غزيرة دون صوت.. هز ذلك الموقف كياني وأصبت بدوار ولم أدر كم مر علينا من الوقت، قبل أن تأتي إحدى النساء فتسندها، وتدخلها الكوخ وأنا أتبعها تدور بي الأرض، وقد أصابها شبه صرع وجحظت عيناها وجاءت خالتي فرشتها بالماء حتى أفاقت، فسقوها الزريق المحلى وتركوها تنام، وكذلك شربت أنا منه ودفنت رأسي بجانبها ونمت، وخلال ذلك سمعت صوت أعمر وهو يوقظني لنذهب إلى المدرسة، ثم سمعت صوت خالتي وهي تزجره، فتركني وذهب، وتماديت أنا في نومتي حتى دخل وقت العصر، فاستيقظت وتفقدت والدتي فإذا هي نائمة ووضعت راحتي على ساعدها فإذا حرارته طبيعية، ونظرت إلى صدرها فوجدته هو يعلو ويهبط فحمدت الله على أنها ما تزال حية، وقمت إلى سطل ماء في ركن الكوخ وغرفت منه وشربت، وأحست بي خالتي وكانت تسقي داجنات المعز، فجاءت تطمئن علي، وأثناء حديثنا سألتها: لماذا لا نأخذ أمي إلى المستشفى. فقالت إنه ليس لديها نقود وإنها تنتظر المغرب حتى يأتي من يعطيها نقودا، فعرفت أنها تقصد زوجها، فسكت وعدت إلى جوار أمي وجلست، كان رأسي ثقيلا كأنما أنا مخدر، وأحسست في نفسي بخواء، ولم أكن أقوى على التفكير فاستسلمت للنوم ثانية، واستغرقت فيه هذه المرة ولم أستيقظ إلا في جوف الليل، كان المكان مطبق الظلمة وكنت حاقنا من البول لا أستطيع الصبر فتحسست طريقي إلى الباب بحذر، ووطئت بقدمي على يد أحد أبناء خالتي فأن أنة تألم، فزعت لها وكنت أخاف أن تطأ قدمي الحسن زوج خالتي فيستيقظ، لكن صرير مزلاج الباب أيقظه، فصاح بي قائلا:
-                     من ذلك؟
-                     أنا عليّ.
فقال وكنت أحس منه شفقة علي رغم ما يبدو عليه من هيبة وشدة:
-                     أين تذهب يا بني.
-                     أريد أن أبول.
-                     لقد تركت لك خالتك عشاءك عند رأسك، ستجده هناك إذا رجعت.
عثرت على العشاء، لكني لم أعثر على أمي، أصابني قلق من أن حالتها قد تكون ساءت ونقلوها إلى المستشفى، لكن كيف أعرف وسط هذا الليل البهيم، الذي لا يتحرك فيه إلا القطط السائبة، لا أحد يستطيع أن يجيبني سوى الحسن الذي أتهيب أن أسأله، ثم إن شخيره قد علا، لكن لم لا أتفقد كوخنا يمكن أن تكون هي وخالتي انتقلتا إليه بعد مجيء الحسن، قرصت أعمر أريد أن أوقظه ليغلق الباب بعد خروجي فأن أنة تألم، وتململ في نومه فتركته وتسللت إلى الباب، وفتحته دون صرير، وخرجت ثم رددت الباب، وتوجهت إلى كوخنا وطفت به أنظر من خلال الفرج لعلي أراهما، لكني لم أتبين شيئا وجعلت أنصت ولا أسمع شيئا فقد كانت الرياح تحرك أطراف صفائح الزنك البالية التي تسقف الكوخ، ثم عمدت إلى الباب أدقه طمعا في أن تكون أمي فيه، وفتح الباب واستطعت تبين وجه خالتي تحت ضوء النجوم الخافت وهي تطل علي من الباب، وكأن ماءا باردا صب على قلبي في تلك اللحظة، احتضنتني فزعة وهي تقول:
-                     ما الذي أيقظك في هذه الساعة، ولماذا تخرج من الكوخ؟
-                     أريد أن أطمئن على أمي، أين هي؟
-                     إنها هنا نائمة، وهي بخير.
حددت معالم جسمها وهي متكئة، ولم أتبين حالة الجسد في ذلك الظلام، لكني وضعت يدي على ساعدها، كان بادرا، وعرفت بالبداهة أن الحمى تراجعت عنها، فأذهب ذلك شيئا من روعي، ملت إلى خالتي وهمست لها سائلا:
-                     هل أكلت شيئا.
-                     أكلت القليل، أنت تعرفها، هي لا تكاد تأكل وهي صحيحة فكيف بها وهي مريضة..
-                     هل ذهبتم إلى المستشفى.
-                     لا، لقد أبت الذهاب، وقالت إنها استعادت عافيتها ولم تعد في حاجة إليه، وكنت قد صنعت لها شرابا من الحليب مع الصمغ لتطفئ عنها حرارة جسمها.
ثم أردفت تسألني:
-                     هل أيقظتهم ليوصدوا باب الكوخ؟
-                     لا، ولكني عائد إليه.
-                     أسرع يا بني، السارقون هنا يسرقون كحل العين، فكيف بكوخ مفتوح.
رجعت وأنا أكاد أطير من الفرح، ولا أعرف كم مرة أغمضت عيني وأنا أحمد الله، على شفائها، حتى اصطدمت بركن الكوخ، ثم وصلت إلى الباب وتسللت بهدوء واندسست بجنب أعمر بعد أن أحكمت إغلاق الباب بالمزلاج دون صرير يذكر.
نمت، لكني لم أستغرق طويلا في نومي حتى استيقظت فزعا على صوت الحسن وهو ينادي:
-                     أعويمر... أعويمر، ما لك تصيح كالعنزة، دعنا ننام و إلا سددت فمك بقماشة.
حمدت الله أنه ظن أن الذي صاح هو أعمر، فجعل ينهره، وقد كنت أنا من صاح، وذلك بسبب حلم مفزع رأيته، فقد رأيت كأني أروغ من رجل كان في الأول يحمل ملامح أبي، وجريت أمامه حتى احتميت بأمي، وانقلبت ملامحه إلى ملامح الرجل الذي كان يطلبني في الزوال ورفع يده بسكين وهوى بها علي فتصدت لها أمي، فانفلق جبينها إلى عاتقها، فصحت وتملكني الفزع فلم أستطع النوم بقية الليلة. وبقيت أفكر في أمي المسكينة وفي مستقبلنا وفكرت في أبي، تمنيت أن ينبجس الصبح، وأذهب إلى الكوخ فأجده هناك..انخرطت  في بكاء مكتوم، وجعلت أناديه سرا وأنا أقول:
-                     تعال يا أبي، تعال...أنا لا أعرف ماذا أفعل.. لا أريد ترك المدرسة وأمي مريضة لا تستطيع أن تنفق علي وقد تموت... تعال أرجوك...أنا أيضا قد أمرض وأموت إن لم تسرع إلينا...أرجوك لا تتركنا هكذا يهددنا الرجال الكبار وليس لنا من يدافع عنا...هل لا تزال حيا ؟؟ أين أنت الآن ؟؟... أرجوك تعال ! وأعدك أن أحصل لك أعلى الشهادات، وأبني لك دارا كبيرة، إذا أنا تخرجت...يا إلهي! أين أنت الآن؟!
عندما ذهبت إلى المدرسة صبيحة اليوم التالي، كان النعاس قد أخذ مني وأثر ذلك علي، فكنت أبذل جهدا كبيرا  كي أبقى منتبها، خصوصا وأن الحصة الأولى كانت حصة رياضيات ولم يكن أحد في القسم يضاهيني في حل تمارينها، وأثناء الشرح طرح المعلم سؤالا وأجال نظره بين التلاميذ بحثا عن من يجيبه، وكنت في الطاولة الأولى فلاحظ أن عيني مغمضتان، فناداني فانتبهت، وواصل شرحه، لكنه حين بدأ كتابة التمارين على السبورة ملت أنا على كتف زميلي ونمت، وهذه المرة كان شخيري عاليا ولم يوقظني سوى ضحكات التلاميذ ووجدت المعلم مشبكا ساعديه ينظر إلي في حيرة، وقال لي:
-                     إذا كنت مريضا، فتستطيع أن تذهب.
أحزنني ذلك الحال خصوصا مع ذلك المعلم الذي كان يقدرني كثيرا، وأحسست أنه مستاء من حالتي ولا يريد أن يعاقبني، قلت له:
-                      كان بي صداع لكنه ذهب الآن ولا أريد أن أذهب.
فقال بحزم: - على شرط أن لا تعود للنوم ثانية.
وفي ذلك اليوم انتهزت وقت فسحة العاشرة، فتمددت فوق إحدى الطاولات، لكن البنات لم يخرجن، وسمعت صوت الزهراء وهي تقول:
-                      أتنام، وقد جنيت على أخي؟ ثم أخذت تدعو علي وتسبني.
ولم يكن أخوها قد حضر ذلك اليوم، رفعت رأسي قليلا حتى عاينتها، وتبسمت ثم عدت إلى نومتي، لكنها تشجعت واقتربت مني وزادت صوتها، كان صوتها جميلا في أذني رغم السباب، رغبت في أن أقوم إليها فأقبلها وأعتذر لها عما فعلته بأخيها، وفجأة أحسست بضربة حارقة  في ساقي اليسرى، فهببت واقفا وكانت البنات متجمعات ينظرن إلينا، اتجهت إليها فتراجعت قليلا، وبدا عليها الخوف، انحنيت أمامها وأنا أقول:
-                     اضربيني حتى تشبعي.
ختم على لسانها ولم تعرف ماذا تفعل إلا أنها دفعتني عنها دفعة خفيفة واحتقن وجهها حمرة، وطرحت فردة نعلها أرضا ولبستها ورجعت إلى صويحباتها، فرفعت رأسي وأنا أريد أن أضحك لكني كنت عاجزا عن ذلك.
ثم عدت إلى نومتي. ابتعدت البنات عني قليلا، وسمعتهن يتهامسن، فقالت واحدة منهن:
-                     لا تظني أنه يخافك. لكنه هو لا يتشاجر مع الإناث.
وقالت أخرى:
-                     حدثني أخي أنه رآه مرة يصارع أربعة أولاد وقد صرعهم جميعا.
وقالت ثالثة:
-                     أرأيتنَّ باب الحديد الكبير المرمي قرب بوابة المدرسة؟، لقد قال الأولاد إنه رفعه بسهولة ووضعه على رأسه ثم مشى به.
كنت أستمع إلى حديثهن ومبالغاتهن كالحلم القادم من بعيد. ورغم ما في حديث أولئك الفتيات من إعجاب يدعو إلى الزهو والفخر، فقد كنت ثقيل الرأس، محطم النفس، خائر القوة، ولم تكن لي رغبة في شيء, إلا أن أنام نوما طويلا...طويلا...
وأنصت كي أسمع كلام الزهراء لكني لم أسمعها نطقت بكلمة، ولاحظت بعد تلك الحادثة أنها أصبحت تخجل مني ولا تجرؤ على رفع نظراتها إلي، ووددت مرات أن أعتذر لها، لكن الدم الذي سال لوث العلاقة بيني وبينها هي وأخيها، فاكتفيت بمراقبتها من بعيد وهي تستند بقامتها الرشيقة على كتف أخيها وهما عائدان، قبل أن تنصرم السنة ويختفيا مع أسرتهما التي انتقلت إلى حي آخر بعيد، ولم أبذل جهدا في معرفة مكانها، فقد أصابت نفسي أنا أيضا لوثة ذلك الدم، فلم تعد لي رغبة في شيء، وقد لازمتني تلك الحالة حتى أورثتني برودة وعزوفا عن الشنآن والشجار، فأصبحت هادئا لا أستفز، ونادرا ما أغضب، وكنت حذرا حين يضطرني أحد إلى الشجار، فأعمل الحيلة حتى أغلبه من دون أن أترك فيه أثرا، فأسيطر على يديه أولا ثم أهصر رقبته هصرا شديدا حتى يعلن استسلامه فأرسله، كذلك انكفأت على نفسي، ولم أعد أرغب في غشيان تجمعات الأطفال، اللهم إلا إذا كان ذلك للعب الكرة التي كنت ماهرا فيها، إلا أني تراخيت في قيادة فريق الحي، وتنظيم مبارياته وصرت أوكل ذلك للآخرين وأشجعهم وأكتفي بحضور المباراة ثم أنصرف، ولا أدخل في الشجار الذي كان كثيرا ما يعقبها.
..ها قد جاء اليوم الذي سيدرك فيه أعمر أنه كان مخطئا، ولو كان سلامي معك اليوم فسيدرك ذلك أيضا...الجذر هناك غيبه الظلام، فاحمل المشعل وأوقد له ساحته، أخرجه من مغارته وادع كل أولئك الذين أغمدوا ألسنتهم الحادة في كبدك ليروا بأنفسهم. ولن تخجل أن تتحدث عن أبيك، لن يعود خيالا غامضا لا تدرك حقيقته، إن لك أبا قويا عظيما كريما كما كانت تقول خالتك، وأنت ما وصلت إلى ما وصلت إليه إلا لأن دما زكيا يجري في عروقك. يدفعك من نجاح إلى نجاح حتى أكملت دراستك، وتوظفت وظيفة سامية، وجرت النقود في يدك جريان الماء، فاليوم صل القناة بمنبعها واترك الماء يجري صافيا متدفقا نهرا يبهر العالم وينبت في الأرض من حوله زروعا وخضرة مورقة.
*    *    *
الفصل الثاني
درب مارية
كان مشهد سيارة (اللاندكروزر) وهي تتهادى ضحوة بين بيوتات وسقائف قرية (التوكة) مشهدا مثيرا جعل الأطفال والنساء وحتى بعض الرجال الحاضرين يتجمعون حولها. يتفحصون وجوه القادمين ويتحسس الأطفال جسم السيارة الصقيل ويرتقون حوافها ليعرفوا ما بداخلها، ويبعد الواحد منهم الآخر عن الضوء الأحمر قائلا: احترس! إنها جمرة مشتعلة.
قالت امرأة:
- لعلهما من رجال الحكومة.
-                     لا ... ليسا من رجال الحكومة. لو كان هذا حاكما لكان معه حرسي.
-                     وما يدريكِ أنهما ليسا من الحكومة هنالك في نواكشوط. جاءا لإحصاء أو لأمر من أمور الحكومة الكثيرة.
نزل الضيفان من السيارة وتقدم موسى لاستقبالهما وهو مقدم القرية ورجل سياستها؛ رحب بهما واقتادهما إلى منزله. وبسط لهما فراشا، ودعا بالزريق والشاي. وكم كانت فرحة علي عارمة حين علم أن قرية (التوكة) ليست سوى تلك القرية التي عاش فيها أبوه منذ ما يزيد على خمسين سنة، واقتيد علي إلى شيخ اسمه الزاكي ولد شيبة، وكان صديقا حميما لعبد البركة، وترك أعمر مع مضيفهما وأمره أن يذبح كبشا جاءا به.
كان الزاكي أعمى ولكنه ما زال قوي الذاكرة يسمع الأصوات المرتفعة، ويتحدث بصوت غائر مع شيء من الرعشة، وحين علم أن عليا هو ابن عبد البركة دعاه إليه فاقترب منه ومد يده يتلمس رأسه وأمسكه فأهوى علي إليه، فقبله واستسلم علي للشيخ يعبث برأسه محتفيا به وهو يردد:
-                     يا فرحتي .. يا سعادتي بك يا بني. إني لأجد منك ريح عبد البركة.. يا فرحتي، ألم تأت به معك.
-                     إنما جئت أبحث عنه.
-                     تبحث عنه؟ وما آخر عهدك به ؟
-                     لا عهد لي به. لم أره قط.
-                     كيف؟! ألم تر أباك ؟!
-                     لقد تركني وأنا رضيع في الأشهر الأولى. ومن يومها لم يرجع ولا نعرف عنه شيئا.
-                     مسكين أنت يا عبد البركة أين أنت الآن ؟؟
مر بيده على شعر علي وقال:
-                     لا بد أنك تحمل ملامح أبيك فهذا الشعر الأسيل يذكر به.
..استأنسْ بهذا الشيخ يمرر يده على رأسك ويستنشق من خلالك أريج ماض يحن إليه...عبق الوالد يسري إليك منه فاستقر في أحضانه، استنشق منه رائحة النبع تغذيك تبث فيك قوة ودفئا حرمت منهما حياتك.
ابك في الحضن كما كان يفعل أعمر وعيسى. وإذا هدأت نفسك فنم قرير العين تحرسك الهيبة والوقار، وإذا هددك والد سلامي أو طاردك أحد الجيران فالجأْ إلى الركن والنظرات القوية لتحميك وتخيف من يدنو منك. ثبت الجذور في أصلها ودعها تنمو، كانت الرحلة شاقة ولكنها ولا ريب ستكون ممتعة ستسلمك إلى الحضرة السنية لتمثل بين يديها في مقام مشاهدة كريم. دس رأسك فيه ومرغ دراعتك الجميلة في تراب فراشه ودع العطر يخالط عبق الحضرة وأرواح تاريخك الغابر، فمن بين هذه الرثاثة ينبع ماء البحيرة العميقة الغامضة التي ستسبح فيها. ألا ترى شعاع الضوء النابع من العيون القوية وهي تسرق النظر إليك؟ حزمة ضوء في كومة من البلى، اغرز مقعدتك في الفراش العتيق، ومكِّن ركبتك من الوسادة الضامرة ثم استند إلى الجدار الطيني المتآكل وتناول قدح الشراب من يد يمتصها الفقر وتأبى إلا أن تحتفظ بأثر عميق من الخصوبة. وانظر في وجه تنام خيوط الجمال فيه تحت ظلال الإقلال وقتام الحر القاسي، لاشك أنها ابنة الزاكي ففيها ملامحه، هنا الجذور والجمال النائم ينتظر يدا تمسح عنه القتام وتبث فيه الحياة من جديد فيورق لماعا، هنا السر والمنبع...لم تجده ولا يبدو أنهم يعرفون عنه شيئا. لكنه سيخرج إليك لا محالة. من الشيخوخة ومن البلى ومن الرثاثة ومن تحت الجدران الطينية سيخرج...سيحمله شعاع النظرات القوي، ويبرزه لك شابا جلدا يحييك ويعانقك، يحويك بجسده فتغيب فيه، لا تيأس وأصغ إلى الزاكي يحدث عنه. وأنت تحتسي الشاي من يد السالمة.
أنزل الشيخ يده على رأس علي قال بصوت أجش بعيد:
-                     يا عجبا أين سيكون الآن؟
-                     هذا ما يحيرني وأنا لا أعرف عنه شيئا. لا عن أصله ولا عن مصيره. نحن جئنا إليكم تائهين.
-                     نحن أيضا لا نعرف عنه شيئا منذ أن ترك القرية إلا نتفا قليلا من أخباره.
-                     لكن على الأقل تعرفون حياته الأولى.
نادى الزاكي ابنته : السالمة .. السالمة.
-                     لبيك يا أبت ...
-                     أعدي الشراب والشاي بسرعة.
وخاطب عليا:
- من جاء معك؟
-                     جاء معي ابن خالتي. وقد تركته في المنزل المجاور.
قالت السالمة: - هو عند أهل موسى.
مرحبا بك وبابن خالتك. وخاطب السالمة:
-                     أسرعي .. مالك ؟.. هذا ضيف عظيم.
-                     لست آلو جهدا.
مسح بيده على كتف علي:  قلت لي ما اسمك؟
-                     اسمي علي بن عبد البركة.
-                     أنت إذن ولد (لُبّيْظيني) !!، هكذا كنا نسميه فقد كان أسيل الشعر أسمر فاتح البشرة، يميل أنفه إلى الدقة، لقد كنتُ أنا وأبوك صديقين حميمين وتِرْبين تقابل النساء يومها بين ميلادينا فتجدهما متطابقين تقريبا. وكنت لم أعقل الأحداث حين جاءت تلك المرأة تحمل ولدها الفطيم، ويذكر أهل الحي أنها نزلت عليهم بعد مسيرة طويلة بدأتها من أعالي تكانت وظلت تسير أياما وليالي، والذي حملها على ذلك هو الفرار بولدها مخافة أن يقتله إخوته، فقد سمعت النساء بعد وفاة "مارية" وهذا اسمها، يتحدثن أنها فرت خوفا على ابنها من زوجة وأبناء سيدها الذي كان تسرى بها فولدت عبد البركة وعزم السيد أن يعلن بنوة الولد له، وكان شيخا مليـًّا وسيدا من عرب العساسين، فشق على زوجته وأبنائها أن تشاركهم جارية وابنُها حظهم من السيد وماله، فدبروا لقتله. لكن إحدى نسائهم رحمتها وأخبرتها بما دبروا وزودتها وقالت: اخرجي سرا إلى حيث لا يجدونك ولا يسمعون عنك.
قال الزاكي: ولا أعرف صدق هذه الحكاية من كذبها. ونزلت مارية وابنها على أهل  القرية فآووها ورحبوا بها وأنزلها أبي كوخا، ما تزال بقاياه ماثلة هنا ولو خرجت من كوخنا هذا ونظرت شرقيه لرأيته، وقد سمعتها مرارا تثني على أهل الحي لما لقيته عندهم من كرم وحماية حين جاءتهم شريدة فآووها. وصاروا لها أهلا، ولما عقلت عرفتني وعبد البركة صديقين حميمين وكان أشد مني، فكنا نختلف على تافه فنتشاجر فأسبه فيعمد إلي فيصرعني ويخنقني حتى أبكي فيتركني ويشتد بكائي فيهدئني ثم يجهش هو أيضاً بالبكاء، فأسخر منه فينظر إلي، ويحدق كل منا في الآخر ثم ننفجر بالضحك، ومع ذلك كان سريعا إلى نجدتي حين أتشاجر مع أحد الأطفال، وكانوا جميعا يخافونه، فقد كان قويا شديد البنية، وكان باسلا مقداما حين نحارب أطفال القرى المجاورة فيفل عصابتهم وحده، وكان أمينا لا يدخل معنا في سرقة الحقول، ولا يأكل منها، ولا يعتدي على ما ليس له. ولما بدأ يشب أخذ يعمل، فعمل أولا في الحقول ولم يرق له عملها، فتركها إلى الرعي، فكان يرعى في الأحياء المجاورة ثم انتقل إلى نواحي كيفه والشرق البعيد. وصار ينقطع عنا أشهرا ثم يعود يحمل الميرة والثياب إلى أمه ويوزع علينا الهدايا ثم إنه أبطأ مرة فغاب شهورا وقد أصابت المنطقةَ سنةٌ عجفاء، وانتشرت بين الناس إسهالات قاتلة لم تسلم منها قريتنا، فذهبتْ ببضعة أشخاص منهم مارية. وكنت حين اشتد المرض عليها قد خرجت أبحث عن عبد البركة فأبعدتُ شرقاً أياماً، ولما رجعت به كانت قد توفيت فحزن لموتها حزنا شديدا، ووقف على قبرها يندبها ساعة، وبكى بكاء مؤلما حتى أشفقت عليه من أن تذهب روحه أو يصيبه مس فقلت له:
-                     هون عليك يا أخي، هذا قضاء الله ومشيئته وليس لنا إلا الصبر ، فكل الناس إلى تراب، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
فقال لي:
- لقد كانت كل شيء بالنسبة لي. ليس لي في هذه الدنيا سواها، ليس لحياتي معنى بعدها، فلمن أشقى بعد اليوم ؟.
-                     لا تقل هذا، نحن جميعا أهلك، إن ما بيننا شيء عظيم، بعيد لا يمحى، اصبر وادع الله لها بالرحمة.
جثا عند رأسها وقبل التراب، ثم خرجنا من المقبرة وأنا ما أزال أسمع نشيجه، ولم يبت عندنا إلا ليلة واحدة، وقد اقترحنا عليه أن يبقى بيننا ونعطيه قطعة أرض يحرثها وقلنا له: "أنت ابننا"، ولكنه أبى إلا أن يذهب وقد شق علينا فراقه، وكانت أم العيد أشدنا في ذلك، وهي فتاة من أهل القرية كان على وشك أن يتزوجها، ولم نكن نظن إلا أنه راجع بعد شهر أو شهرين ليتم ما بدأ ، ولكن مر شهرٌ ، ثم شهران ثم سنة .. وسنوات ولم يرجع.. حتى قبرُ أمه لم يزره، رجع كما جاء أول مرة، وخسرت أم العيد عمرها في انتظاره، خرجنا من يدها واحدا واحدا، وما نظن وما تطن هي إلا أنه عائد، وأنه سيتزوجها، وفات الأوان، لقد ذهب عبد البركة كما جاء من غير إذن ولا موعد؛ وما كنا نتوقع منه ذلك فقد كان عظيما في نفوسنا عزيزا على قلوبنا، وما زلت قبل قعودي استخبر عنه. كلما سافرت أو لقيت مسافرا من جهة الشرق، وقد علمت أنه صار سائق أجلاب يكترى لها، وأنه تزوج في الشرق البعيد، وقد فوجئنا ذات يوم بفرقة من الدرك تطلبه، وزعموا أنه قد قتل زوجة له في أكجوجت، ورابطوا شهرا يترصدونه حتى يئسوا من مجيئه، ولم ندلهم نحن على شيء. كان ذلك منذ ما يقارب ثلاثين سنة على ما أتذكر، وذلك آخر عهدي بأخباره رغم أنه لم يُنْعَ إلي. وأسأل الله أن يكون الآن في عافية.
ولكن قل لي أنت .. يا .. علي: مِن أين أنت؟ ألا يحدثك أهلك عن أبيك شيئا؟!
-                     كل ما أعرفه أن أبي كان سائق أجلاب يكترى لسوقها من مراعيها إلى الأسواق، وأنه جاء إلى نواكشوط يسوق جلبا واستقر هنالك قريبا من عامين وتزوج أمي وهم يومئذ يسكنون في مخيمات قريبا من سوق الحيوانات، وبعد ولادتي بأشهر فارقنا ولم يرجع، وكان أهلي يسمعون عنه أخبارا متضاربة؛ فمرة هو في الشرق ومرة هو في السنغال.
وتذكر خالتي أنه كان رجل شهما سخيا لا يستبقي مما يقع في يده شيئا؛ فعندما يكون عائدا من سفر فإنه يحمل الهدايا والفواكه ويتلقاه الصبيان بالهتاف والترحيب، ولم يكن ينسى أحدا فلا يتحفه بشيء، لكل أحد نصيب، وقد عجبوا وتأسفوا على فراقه لنا فجأة، ثم سمعوا أن له زوجة وأولادا في الشرق وربما نازعته نفسه إليهم فاضطر إلى تركنا، وقد يكون هذا من أخبار النساء.
-                     ما وصفت خالتك عن "لبيظيني" هو ما عرفته فيه، لقد كان كثير الإتحاف لأصدقائه، ليِّناً، محبا للناس، وأظن أن الذي جعله ينقطع في أول الأمر فلا يزورنا أنه قد يقترب منا ولكن لا يكون معه ما يهديه لنا فيعدل عن المرور علينا.
-                     يا والدنا بم تشير علي في شأنه ؟
-                     أرى أن تذهب إلى الشرق فتستطلع أخباره وأخبار أولاده، اذهب إلى "لعيون" ومنها توجه إلى الجنوب .. اسأل هنالك، ولا تنس أن تذكر اسمه ولقبه، فربما يشتهر في منطقة بلقب ويشتهر في أخرى بآخر.
-                     هذا صحيح فإننا لا نعرفه إلا باسمه عبد البركة.
ابتسم الشيخ وقال:
أما هنا فلم يكن ينادى إلا بـ"لبيظيني"، وأمه وحدها هي التي كانت تناديه بـ "عبد البركة"
انتهت مقابلة علي والشيخ الزاكي وأراد أن يعود إلى منزل أهل موسى، استأذن الشيخ في ذلك، فقال له الشيخ:
أنت الآن في ضيافتي، ولا آذن لك بالذهاب ، سأرسل إلى صرمة الغنم ليأتوني بذبيحة، وستستريح بقية اليوم والليلة معنا، لا بد أن تتعرف على الأبناء، أنت ابننا، هذه أسرتك، نحن أهلك مهما فرق الزمن بيننا، و"لبيظيني" كنت أنام وإياه في هذه الأركان وكنا نتنازع الكساء ونحن نيام، فينشق فيضربنا أبي ويحرمنا منه ليلة كاملة. وكنا نلعب عند مارية فنريق رائبها أو نشربه فتتبعنا والعصا في يدها.
-                     سأفعل ما تريد لكن لا داعي للذبيحة، فإنا قد جلبنا كبشا سمينا وأظنهم قد ذبحوه.
-                     تجيئني من هذا البعد وتحمل كبشا معك! ما هذا يا ابن "لبيظيني"؟! أوعجزتُ عن إكرام ابن أخي؟! إن لي صرمة غنم وحدي، لا تخالط غنم أولادي، ولم أعد أريد منها إلا إكراما لعزيز أو حلبة لعجوز.
-                      اعذرنا يا والدي فنحن لا نعرف المنطقة وقد أخذنا بالحيطة.
-                     إذن ستقيلون معنا غدا.
-                     إذا أمكننا ذلك.
ودعه وهم بالخروج فناداه الزاكي: امرر بأم العيد فإنه قد يكون نمى إليها من أخبار عبد البركة ما لم أطلع عليه أنا.
-                     سأمر عليها وسوف أعود إليك أيضا إن شاء الله.
-                     مرحبا بك وأهلا.
ستعود إليه لعل ذاكرته تدر بشيء عن أبيك.. ستعود تفتش في زوايا الكوخ عنه .. ركام الطين يغيبه عنك، لكنه هناك على أحد تلك الفرش البالية، سيتململ ويقوم من رقدته، ويخرج إليك من أزقة البيوتات الضيقة، فتش في قبر جدتك مارية قد يكون راقدا معها، يقال: إن الناقة لما ماتت ابتلعتها الصخرة ثم دار ولدها ودار وقفز داخل الصخرة، "لبيظيني" يعود إلى القرارة، وأنت تتبعه،  تريد أن تستخرجه، لا يغوينك فمالك دراية بفن التوليد لقد كانت دراستك في الأرقام والحسابات المالية، وكثيرا ما كان يصيبك النعاس في حصة البيولوجيا، فلماذا هذا التوحه الآن؟ أم أنك تريد أن تمسك بالخيط، فأنت تبحث في كل الاتجاهات؟ هو هناك لكنه يتمنع عليك فلا ترهق نفسك.
قالت أم العيد: أنت ابن عبد البركة ؟ من لي برضاعتك فأضمك إلى صدري يا عزيز ابن عزيز؟ يا سبحان الله، لقد كان أصغر منك يوم أن فارقنا ولكنك تشبهه تماما، لولا عمري لظننتني أحلم .. لقد تركنا من أزمان بعيدة من قبل ولادتك حتما، ولا نعرف عنه شيئا، ولكن سأذكر لك شيئا من أخلاقه التي أعرف؛ فقد كنت أقرب الناس إليه وكان يراكنني بالزواج، وكنت أغشي بيت أمه فأصلح شأنها في غيبته، وبعد موت أمه رأيناه مرة واحدة وكان حزينا طائر اللب ثم انقطع عنا، فقلنا: لعله أصابه خبل بموت أمه، لقد كان فتى شجاعا كريما خجولا، وكان يشبهك تماما؛ أسيل الشعر، دقيق الأنف، نافذ النظرة، مخضب البشرة، لذلك سموه "لبيظيني"، وكنتُ أُجِلُّه فلا أدعوه إلا "عبد البركة"، وكانت البنات يعجبن به، ويتندرن به، مع أنه لا يسعى إليهن، ولا يغشى مجالسهن، إلا ما كان عاما، وشيء آخر لا أنساه؛ لقد كان يخاف ربه، ويصلي كثيرا، لذلك لا أقول إلا أنه وليٌّ مستتر، حملته تلك المرأة إلينا لنراه ونتعرف عليه من قريب ويبارك علينا بصحبته، ولما ماتت رجع من حيث جاء. وددت لو أنك محرمي فأضمك على صدري.
-                     هل لكِ عهد بأخباره؟
-                     هيهات يا ولدي .. لقد انقطع عنا خبره منذ أزيد من خمسين سنة وما نسمع بعد ذلك إلا شذرات من أخباره.
أين أنت الآن أيها الولي المستتر؟ إني أبحث عنك...أطاردك وألهث بحثا عنك وأنت مختبئ عني تراوغ أن أراك، ولا بد أنك قريب في مكان ما، ألم تشتق إلي وأنا ابنك الذي تركت في المهد؟ .. أنا صورتك التي لم تقابل انظر في المرآة فسوف تعرف ذلك...لماذا هذه القطيعة؟ سوف أشي بك عند مارية، أنا الآن عند قبرها سوف أحكي لها كل شيء بدءا بتركك لأم العيد.. ولكن! لا .. لن أذكر لها ما فعلت بأم العيد وإن كنتُ أُكبر في أم العيد إخلاصها لك وأرحمها بسبب ذلك. ولكن لو لم يحدث ما حدث لما وجدت أنا، إني أحبك ولن أشنع الأخبار لجدتي، ومع ذلك سأجعلها تجد عليك حتى ترجع إلي...ألا تحب أن تسمع أخباري لقد وصلت إلى ما وصلت إليه من أجلك، كنت أجتهد وأصبر على دراستي لأتوظف وظيفة محترمة، وتكون لي دار واسعة أُسكِنك فيها معززا مكرما..كان خالي يستثقل بي وبدراستي التي مل طولها وأرادني أن أتركها لأعمل عملا تافها مقابل أواق لا تغني من جوع ولا عطش، لكنك كنت بين عيني .. بعيدا أمامي، وكنت أصارع لأصل. أرضيه بالعمل على عربات بيع الماء في العطل...أظل أنعس على حمار كنود بين صهريجين صدئين، أساوم نساء منازل لئيمات، سريعة ألسنتهن إلى سبي واتهامي بالسرقة لمجرد أني طفل لا حول لي ولا قوة...ثم أجعل للخال نصيبا أسبوعيا فيما أحصل لأدفع به لسانه السليط...كان يضيق ذرعا بما يتحمل من مسؤوليتنا، رغم أنه قد يتخلف الشهرين والثلاثة عن مد يد العون لنا...ويتقصد أن لا يزورنا...وإذا مد يده فلا تعدو أن تكون بأواقٍ معدودة...وفي المرة التي أصاب فيها أمي مرض شديد احتجزت بسببه في المستشفى كانت تكلفة الفحوص كبيرة، وتحمل منها الحسن والد أعمر الشق الكبير وساهم بعض الجيران بقسط، والتحق بنا هو في المستشفى وكنت خارج حجرة الحجز حين رأيته قادما فتقدمت منه لأسلم عليه فقال لي:
-                     ماذا تفعل هنا، لم لا تذهب لتبحث عن عمل تنقذ به حياة أمك، انظر إلى عضلاتك؟ أنت تستطيع أن تحمل جبلا...ما ذا تظن نفسك، ؟ مثلك لم يخلق للمدرسة ولن تفلح فيها...اذهب وابحث عن عمل، أو الحق بأبيك كي نستريح منك...
دارت الأرض بي، وأصابتني غشاوة، وكان الحسن والد أعمر قريبا منا فسمعته يقول له:
-                     دع عنك الفتى فليس الوقت مناسبا لهذا، إن أمه مريضة فلا تضاعف ألمه.
ودخلا إلى الحجرة التي فيها أمي وبقيت مستندا إلى الحائط أتلوى كالممغوص، ولما خفت عني تلك الحالة خرجت من الاستضافة، وانزويت خلف إحدى أشجار المستشفى وبكيت ساعةً بكاء أليما...تمنيتك أن تأتي إلينا في تلك اللحظة، لتنقذني وتنقذ أمي...وكنت أتلوى وأناجيك...ألم تسمع نشيجي واستغاثتي؟...لماذا لم تجب نداءاتي حينها؟ ألم تقل أم العيد إنك ولي مستتر؟ ألم ترني وأنا أراقب مخرج الاستضافة، وأنتظر أن يخرج خالي فأدخل وأطمئن على أمي...ثم وأنا أستقبل خالتي التي خرجت تبحث عني...ولما أبيت الدخول أعطتني ثمن تذكرة الحافلة وأمرتني بالعودة إلى المنزل حتى لا أتخلف عن دروس المساء في المدرسة...وفي الحافلة كنت أتتبع وجوه الرجال الذين هم في سنك ويحملون شيئا من ملامحك...وأتساءل هل أنت أحد أولئك، وأتأملهم طويلا...لكن الرجل الذي تأملته طويلا كان وقحا، فقد لا حظ أني أثبت نظراتي عليه فقال لي:
-                     ما لك لا تنفكُّ تنظر إلي؟... هل تبحث عن شيء تختطفه مني ؟ أبشرك بأن جيوبي مليئة بالنقود لكنّ دونها بتر اليدين.
كان يتكلم وأنا أنظر إلى تفاحة آدم البارزة في قصبته وهي تعلو وتهبط، واستبدت بي فكرة أني أستطيع أن أقضي على ذلك الرجل بضربة واحدة قوية أسددها إلى تفاحته فيسقط مغشيا عليه، ووجدتني أدس يمناي تحت يسراي ثم أحكم قبضتها استعدادا للضربة القاضية، ثم تراجعت رحمة بنفسي وبأمي الملقاة على سرير المستشفى...واستدرت بوجهي إلى الجهة الأخرى وسرحت بناظري خارج الحافلة، وسددت أذنيّ بأصابعي حتى لا أسمع المزيد من كلام ذلك الرجل...وصلت المنزل والتقطت دفاتري وأسرعت إلى المدرسة...وحرصت في تلك الأيام على أن لا تفوتني حصة واحدة من الدروس...كأنما كنت أؤكد لنفسي تشبثي بها...كنت أحس أنك ولي، وأنك تراقبني وتحرسني رغم كل شيء، وأنتظر حضورك في كل لحظة... أ تذكرُ تلك الليلة التي نفد فيها بترول "اللمبة" ولم أكن قد أكملت مراجعتي، وليس لدي ما أشتري به البترول، فصببت شيئا من الزيت في طست ووضعت فيه فتيل قماش، ثم أشعلتها وواصلت المراجعة إلى أن غلبني النعاس، فنمت وسقط طرف الغطاء على الفتيل فاشتعل، ثم جئت أنت وأخذتني بعيدا عن الغطاء، وأطفأت النار... وجاءت أمي مذعورة فوجدتني ساقطا بعيدا عند باب الكوخ الذي احتقن بالدخان، أعرف أنك قريب مني حتى وأنا في الغربة البعيدة تأتي لتوقظني وقد كاد أن يفوتني الامتحان، لكنك تعاندني ولا تريد أن تظهر لي...لقد تعبت من هذه اللعبة...ويجب أن تظهر وتريحني...إني الآن أعذرك، وسأنسى كل الماضي ولكن تعال إلي...لقد عدت من فرنسا بشهادة عليا، وأنا الآن خبيرُ محاسبة سامٍ، ولا ينقصني إلا أنت، أريد أن أراك، أن آويك إليَّ، أنت وإخوتي إن كان لي إخوة، لا بد أنك أنت أيضا مشتاق إلى لقائي...
لم ينس على أن يصل الزاكي وأم العيد ببعض الهدايا للذكرى وهو يودع قرية التوكة، وكان قد تقرر لديه هو وصاحبه بعد ما سمعاه من أهل القرية أن يتجها شرقا إلى نواحي لعيون التي رجح الزاكي أن يكون لعبد البركة فيها أولاد...وكان آخر ما فعلاه هو الدعاء عند قبر مارية.
*      *      *
الفصل الثالث
درب الفلاني
وقف سلاك أمام الخيمة يتأمل السيارة التي تشق طريقها بين الأشجار متجهة نحوه حتى توقفت غير بعيد منه، نظر علي من وراء زجاج السيارة إلى ذلك الرجل الواقف وقال لأعمر:
-                     هذا الرجل الواقف هو سلاك بن عبد البركة الذي نبحث عنه.
قال أعمر: هو، هو ولا ريب.
لم يكن من الصعب على علي أن يعرف في وجه سلاك تلك الصفات التي يحملها هو في وجهه والتي وصفت له عن أبيه، فنزل وابتدره بالسلام وهو على بعد خطوات فرد عليه وجاء حتى وقف قبالة سلاك وقال: اسمي علي  بن عبد البركة.
-                     ابن عبد البركة؟ عبد البركة أبي؟!
-                     نعم عبد البركة أبوك.
صعد سلاك نظره وصوبه في علي وهو مندهش لا يكاد يصدق، كان سهلا عليه أن يرى قسمات أبيه في علي، ثم برقت عيناه، وفتح ذراعيه فارتمى علي بينهما، وذهبا في عناق طويل عنيف بقوة تريد أن تطغى على عقود من الفراق، تحطم الزمن، واختفت الكلمات.. غابت في الأعماق، في الصُّلب حيث الوحدة ولا شيء إلا الوحدة.
أرسل سلاك عليا فالتقت العيون قليلا ثم تعانقا بأشد من الأولى..أشلاء ذات مشتتة تجسمت لتغسل أثر سنين من الوحشة والضياع.. عناق يذهب أدران الانبتات ومذلة الفردية التي اكتويا بها سنين، ماتت الكلمات، وكلت العيون، واحتبست الأنفاس، ولم يبق إلا جسد يكابد ليذوب نطفة سائلة في القرار، حارة حرارة الدموع التي تحدرت من العيون.
ترامى إلى النساء في الخيمة بعض حديث سلاك وعلي فخرج بعضهن مندهشات مما يسمعن ويرين، ولما طال الأمر على زينب قالت لسلاك:
-                     يا سلاك كفاك ولا تجمرني إن كان هذا أخي.
أرسل سلاك عليا وقال لزينب وقطرات الدمع تتحدر على عارضيه الأشيبين:
-                     هو أخوك .. إنه ابن عبد البركة.
صاحت زينب وارتمت في أحضان علي وهي تقول:
-                     يا ويلي .. يا ويل أم عدوي، أخي وأنا لا أعرفه ؟!.
ووصل الخبر إلى مريم بنت عبد البركة، وجاءت هي أيضاً تولول وتصيح من شدة الفرحة، وجاء الأبناء والبنات وتحلق الجميع حوله يحتفون به وجعل سلاك يبعدهم ويقول: دعوه حتى يستريح ويفسح له الطريق إلى داخل الخيمة، حتى أجلسه وهو يقول:
-                     أنت أخي أنا ؟.. ما أشد فرحتي! إني لا أعرف كيف أفعل.
نسي سلاك في غمرة فرحته أن يستقبل أعمر، ولم يدرِ إلا والنساء يصحن به :
-                     امدد يدك يا سلاك .. امدد يدك.
انتفض قائما وهو يقول:
- مرحبا ... مرحبا وأهلا وسهلا.
ثم أفسح له للجلوس وهو يقول:
أنا اليوم لا يكتب علي شيء مما أفعل.. ألا ترون أني ظفرت بأخ،  وأن الفرحة تنسيني كل شيء.
قال أعمر متوددا:
-                     ما هو بأقرب مني إليك، أنا أيضا أخوك.
قال علي مخاطبا النساء:
-                     سلمن على أخيكن.. هذا أعمر بن خالتي وقد أرضعته أمي.
وبادرت النسوة إلى مصافحة أعمر، ونادى سلاك بنتا صغيرة أيقظها اللغط فقال لها:
-                     يا اعويشه، تعالي سلمي على عمك، وأشار إلى علي.
-                     عمي .. ما معنى عمي؟
-                     عمك أخو أبيك.
نظرت إلى علي:
-  نعم .. أنا أخوه .. هيا تعالي.
نظرت إلى سلاك وقالت:
-                     ألم تذكر لي أن أخاك سيأتينا على جمل وراحلة .. فأين هما.
ضحكوا .. وقال لها سلاك:
-                     ذلك أخ آخر.. وهذا أخ  جديد..
قالت له:
- ما أكثر أخوتك.
-                     قاتلك الله.. أنا لا أكاد أجد منهم واحدا وأنت تستكثرينهم ؟!.
وارتفعت الضحكات، انبعثت التعاليق من هناك وهناك.
سلاك هو الابن الأكبر لعبد البركة يناهز الخمسين، وكان أول حياته راعيا ولم يزل كذلك حتى جمع لنفسه صرمة غنم وبقرات فرجع على نفسه ينمي ما لديه، وقد أصبح يملك قطيعا من البقر وغنما كثيرة، وقد تولى أولاده عنه الكثير من أعباء ذلك...كانت مفاجأة علي كبيرة وحسرته شديدة حين علم من أخيه أن أباه توفي في ظروف غامضة في السنغال، وقص عليه ما يعلمه من ذلك؛ قال سلاك:
- كان أبي إذا سافر لا ينقطع عنا أكثر من عدة أشهر، ولكنه في إحدى المرات أبطأ، ومرت سنة، وسنتان، وخمس، ونحن لا نجد خبره، ثم ذهبت أنا أبحث عنه، وكنا نسمع أن له زوجة وأولادا في ناحية باسكنو، وقد عثرت عليهم هناك، هما ولدان وأمهما، وكانا صغيرين يومئذ، وعلمت من هنالك أن أبانا سافر إلى الغرب وسكن فيه، وأنه تزوج ثم قتل زوجته وفر إلى السنغال، ولم تكن المواصلات متوفرة بالصورة هي التي عليها اليوم، فلا يوجد سوى الإبل، والرحلة تستغرق الشهر والشهرين، ولم يكن للنساء رجل غيري على صغر سني وقلة حيلتي، فقررت البقاء معهن على أن أُعِدَّ بتأنٍّ لرحلة بحث طويلة، وكنت على وشك ذلك حين مرضت أمي مرضا عضالا فجعلت أطوف بها على الأطباء والحجابين عشر سنين، وأنا في ذلك مشغول بأمر الأخوات والعيال، ثم توفيت أمي رحمة الله عليها، فعدت إلى عزيمتي الأولى، وجعلت أعد نفسي وانتظر الأبناء أن يكبروا فأكل إليهم أمر الأسرة، حتى جاءني نعي أبي، وكان الذي حمله إلي أحد معارفنا، قال إنه علم بذلك من صديق له روى عن رجل من الفلان من ناحية (بكه) لقيه في بعض أسفاره، وكان عبد البركة قد عمل مع الفلاني زمنا وهما في السنغال، وقد ذهبت أتسقط أخبار ذلك الفلاني حتى لقيته وتأكدت من خبر الوفاة من عنده، فما بقي لي إلا أن أسترجع وأرجع إلى أهلي.
قال علي: وبما ذا حدثك الفلاني؟
قال سلاك: ذكر لي ذلك الفلاني أنه اجتاز النهر في أول سنوات الجفاف إلى السنغال في إبل لرجل من أهل القبلة واحتاجوا إلى راع مساعد، فاستجلبوا عبد البركة من إحدى المدن السنغالية، وزعم لهم أن اسمه عمر وأنه من أهل انواذيبو قال الفلاني:
وعشت أنا وهو سنين متصادقين متعاونين كأحسن ما يكون، ووجدت فيه معاشرا هينا لينا صبورا، وقد كنت أشتاق إلى أهلي فأسافر إليهم ثم أعود إليه، أما هو فكان لا يذهب، ويتعلل بأنه وحيد أمه، وأنها توفيت وليس له إلا ولدان ذكران صغيران، وقد طلق أمهما، وسيعود إليهما إذا هو جمع مالاً وأدركه الهرم، وكنت أقول له:
-                     أنتم معاشر البيظان تظنون أننا نحن الفلان لا نبالي بالرحم، وأن قلوبنا قاسية، ومع ذلك فأنا لا أطيق طول الفراق، وأنت تمضي السنين الطوال ولا تسأل عن أهلك.
فكان يضحك ويقول: أحب أن تكون رجعتي نهائية. لذلك أؤخرها.
فأقول له: وهل اطلعت على الغيب فعرفت أجلهم وأجلك، وأنك ستدركهم أحياء...إن الله وحده هو الذي يعلم ذلك.
-                     إنما أتمنى على الله أن أجدهم أحياء، وأن أصيب من المال ما أعوضهم به عما فاتهم مني.
-                     أسال الله أن يحقق لك ما ترجوه.
قال الفلاني: ومرت السنين ونحن في بوادي السنغال نترقب أن يزول الجفاف من أرضنا فنعود إليها، وكنت ألاحظ عزوفه عن الاختلاط بالرعاة الآخرين وانقباض نفسه بحضرتهم، ولا أجد لذلك تفسيرا، حتى فاجأني أحدهم بأخبار غريبة فذكر لي أن اعمر اسمه عبد البركة، وأنه فر من البلاد بعدما قتل زوجته التي عثر عليها وهي تخونه مع خدن لها.
وعندما سألت اعمر عما قص عليّ الراعي ارتعد وأنكر بشدة، وبقيتُ مرتاباً في أمره، وجعلت أسترجع بيني وبين نفسي بعض المواقف التي تدل على أن لديه ما يخفيه، وتركت سؤاله، ولاحظت توتره الدائم وإحساسه بالخطر منذ أن أخبرته بما قص علي ذلك الرعي فكان لا ينام إلا قليلا وكثيرا ما يهب من نومه مذعورا، وكنت أراقبه وهو جالس طوال الليل فاتحا عينيه كأنما يترقب شيئا، وكثيرا ما كان يقوم ليصلي ويمد يديه متضرعا إلى الله، ثم فاجأني في إحدى الليالي واعترف لي بقتله لزوجته، وشكا إلي إحساسه بالذنب وعجزه عن التكفير عنه، وكان شديد الحذر، متوجسا من أن يكون أحد الرعاة يترصده طلبا للثأر ، قال الفلاني: ثم حدث بعد ذلك بيومين ما فرق بيننا إلى الأبد، فقد أوغلنا في الغابات جنوبا حتى خرجنا عن حدود مراعينا، واختفى جمل من إبلنا، فقصصنا أثره، فإذا هو سيبعد بنا عن المنطقة فاقترح علي أن أبقى أنا في الإبل ويذهب هو للبحث عن الجمل وكان ذلك آخر عهد بيننا.
وقد استعنت بأصدقائي من الرعاة البيظان في تلك المنطقة، وبحثنا عنه أياما حتى عثرنا على بقايا جثة قد أتت السباع على معظمها، فعرفنا أن اللصوص قتلوه وتركوه للسباع، وتأكدنا من ذلك عندما عثرنا على جمله الذي كان يركب، ولم تكن عليه راحلته ولا مزادته، وكنا نسمع أن المطر نزل غزيرا في الأراضي الموريتانية، وأن الأرض أخصبت وأن ذلك مؤذن بتراجع سنوات الجفاف، فقرر كثيرون العودة بماشيتهم، وقد بعثت إلى رب الإبل فجاءني، وأطلع السلطات السنغالية على اختفاء عبد البركة، وقررنا العودة إلى أرض الوطن. ولما اجتزنا النهر استعفيت من العمل وعدت إلى أهلي عودة استقرار.
قال الفلاني: آه...إن هي إلى دورة واحدة وينتهي كل شيء كأنه حدث في غمضة عين...رحم الله عبد البركة، لقد كان لي نعم الرفيق في الغربة...لا تقلق على أبيك فهو من أهل الجنة إن شاء الله، كان مختلفا عن كل أولئك الذين عرفتهم، كان فريدا بين الرعاة، فإننا معشر الرعاة لا نسلم من السرقة ومن قلة العناية بالصلاة، أما هو فقد كان لا يسرق وكانت له بالصلاة عناية شديدة، حتى إنه قد يؤذن لها في بعض الأوقات ويقول:
-                     كنت في أول حياتي راعيا لمرابط فقيه، فكان يعلمني الصلاة ويأمرني بالأذان يقول: "ثلاثة لا يسلم صاحبهن من عذاب في الدنيا وعذاب في الآخرة: السرقة والزنا وترك الصلاة، ثم يضرب على كتفي ويقول: يا بني، أعتق نفسك من النار. قال عبد البركة، وما زلت أجتهد لأمتثل أمره".
ثم سالت دمعة الفلاني وقال: رحمك الله يا عبد البركة...دينٌ عليَّ أن أدعو لك بالرحمة ما حييت.
قال سلاك:
-                     هكذا روى لي الفلاني ما وقع لوالدنا، ولم أجد عنده أكثر من ذلك، وقدرت أن الولدين الذين كان يحدثه عنهما في نواذيبو ليسا حقيقيين، لأنه كان يموه ولا يقول الحقيقة، فلم يبق لي إلا أن أسترجع وأعود إلى أهلي.
قال علي:
- هل قال لك إنهم فعلا وجدوا في بقايا الجثة ما يجزم أنها لأبينا.
-                     هو قال إنهم غلب على ظنهم أنها جثته، كانت شظايا متناثرة لشخص في لون بشرته، وفي مكان غير بعيد عن الذي عثروا فيه على جمله.
-                     لكن ليس في هذه القصة ما يجزم قطعا بأنه مات.
-                     لو لم يكن مات لعثر عليه.
-                     لا ينبغي أن نصدق الظن فهذا أبونا ولو وجدنا احتمالا واحد في الألف أنه حي لوجب علينا أن نتبعه، قد يكون أمسك به غرماؤه، أو أن الحكومة الموريتانية علمت به وطلبت من السنغاليين ترحيله إليها، وقد يكون هو موه بذلك ليختفي من جديد.
-                     كل ما تقوله محتمل، لكني عندما لقيت الفلاني عرفت أنني لن أستطيع وحدي الوصول إلى شيء، وتلك أرض مخاوف، وأنا لا أعرف لغة أهلها ولم يكن لي من المال ما يكفي للسفر إليها.
-                     لِم لم تستعن بأخويك الذين ذكرت أنهما في باسكنو؟
-                     قد يئست منهما، زرتهما مرات، وفي آخر زيارة كلمتهما في البحث عنه، فلم أجد لهما مروءة ولا استعدادا، يبدو أن أمهما قد أوغرت صدورهما على أبيهما، لقد قال لي أحدهما بكل وقاحة:
-                     إنه تخلى عنا حين كنا بحاجة إليه، واليوم ليست لنا حاجة إليه.
قلت لهما: لقد دعوتكما إلى شيء ولم أجد فيكما استعدادا له، وأنا أكبر منكما وغني عنكما، وإذا احتاج أحدكما إلي فمرحبا به.
-                     لقد بلغت منهما عذرا.
هذه فروع شجرتك تمتد طويلا...سلاك ، وزينب، ومريم، ثم الأخوان اللذان في ناحية باسكنو...لست وحيدا في هذا العالم، إن لك امتدادا، لك عصبة: انزل إلى الشارع والعب، وإذا هددك واحد بإخوته فهدده بإخوتك، وسيبطش سلاك بمن هم أكبر منك، وتنتف مريم شعر رأس من تتعرض لك من البنات، وتمزق بأظافرها لحم وجهها، وإذا هاجمتكم عصابة من أبناء الجيران فأنتم كفيلون بردها على أعقابها... نم قرير العين ولا تخف شيئا، وإذا بليت دراعتك فسوف يشتري لك سلاك واحدة جديدة ويجدد لك نعالك...فلن تذهب بعد اليوم إلى المدرسة تجر فردة مقطوعة، وقد ثبتها بمسمار يخز باطن قدمك...ويوم أن تنجح في الباكلوريا فسوف يصفقون لك ويحملونك على أكتافهم ويزورك الأهل والأقارب للتهنئة، لا تحزن، فستجد من يسعد بك سعادة حقيقية، ويوم أن تمنح إلى فرنسا فذلك حلم لهم جميعا بالمستقبل الباهر...إنهم هنا، إنهم إخوتك يحملونك في أعينهم ويخافون عليك، وعبد البركة بين المنزل والمسجد يدور سبحته ويدعو الله لك بالنجاح المتواصل...نم قرير العين وإذا استيقظت فلم تعثر له على أثر، فلا تحزن فالطريق ما زال أمامك ممدودا شرقا وجنوبا، ولا بد أن تصل إلى شيء، لا يقعدنك زعم شيخ فلاني خائف، ولا أعذار سلاك المرهق من الكد، الفاقد للحيلة، لا تقعد عن الطلب حتى تجده أو تقف على نهاية جازمة، لا بد أنه في مكان ما غير بعيد يشد حزامه لرحلة جديدة، أسرع إليه قبل أن يبعد في أثر جلب جديد.
... آه يا أبت ألا تحل حزامك، وتريح راحلتك.. ما سر هذا السفر إن علاقتك به عجيبة...يقولون: إنني أشبهك في كل صفاتك ومع ذلك فأنا لا أحب السفر بل أجده مرا كئيبا، وقد حرمني منك، فماذا بينك وبينه؟ أخيال أنت أم حلم مسافر يشدني إليه فأتبعه حتى يتلاشى كالسراب...ليتني أعرف سرك حتى أستريح...أنا متعب وظامئ إلى الحضن فهلا احتضنتني وأرحتني.
بعد يومين من الراحة قرر علي وأعمر أن يعودا إلى نواكشوط وجاءت معهما زينب وأطفالها، وكانت مطلقة حديثا فآثرت أن تذهب إلى نواكشوط لتعرض إحدى بناتها على طبيب كما قالت، وأيضا تكتشف المدينة، وربما لتخفف عن سلاك شيئا من العبء أياما، وتضعه على هذا الجديد الذي يبدو مستعدا وقادرا، وجاء معهما أيضا اثنان من أبناء سلاك، ولم ينس علي أن يعد الأطفال بأنه سيحمل لهم الهدايا في المرة القادمة حين لم يأتهم بها في هذه المرة.
*      *      *
الفصل الرابع
درب حمزة
كان علي قد اتفق مع سلاك أن يعود هو إلى نواكشوط ويعد العدة لسفرهما إلى السنغال على أن يوافيه سلاك بعد أن يمر بأخويهما في باسكنو ويعرف إن كان جد عليهما شيء بشأن الوالد أم لا، ويعلمهم بهذا الأخ الجديد، ولكن المفاجأة التي كانت تنتظر عليا غيرت الخطة، فعند عودته إلى نواكشوط أخبرته أمه أنه قد زارها رجل عسكري تعتقد من نجوم بزته أنه ضابط سام، وسأل عن علي، ثم ترك له مخطوطا، واستخرجت المخطوط ودفعته إليه، فإذا مكتوب فيه بالعربية بخط مدرب جميل:
بسم الله الرحمن الرحيم
أخي العزيز علي:
إذا رجعت من سفرك فاتصل بي فوراً على رقم التلفون التالي: 52421، ا
..لأمر مهم ومستعجل.
والسلام.
أخوك الرائد / حمزة ولد عبد البركة
هل هو كما قال أم مجرد مجاملة خطابية ؟ ماذا وراء هذا الاسم الجديد يا ترى ؟...شيء غريب يا عبد البركة !!، أنفرح كل يوم بابن من أبنائك ؟!، لا بد أن هذا القادم هو ابنك حيث أنخت ضحوة في حي أخواله ولما جن الليل لم تكن لتنام من غير لحاف امرأة، وكانت وصية الشيخ المرابط ما تزال محفورة في ذاكرتك، فابتغيت الحلال بما تجد، وألقيت القطرة في القرار ثم رحلت بحثت عن أي شيء لتجعله سببا للفراق. وتركت لهم ما عندك، وذلك آخر عهدك بهم، وواصلت الرحلة التي لا شيء يستطيع أن يحول بينك وبينها...لن تضع العصا وأنت حي... طويل طريقك متعرج، عافي الأثر ونحن نقصه ولا خبرة لنا بالقص، لا بد أن حمزة أخ لي ولا بد أنه آتٍ من بعيد أبعد من سلاك، ومن هذين اللذين في نواحي باسكنو. لماذا تبعثرهم يمينا وشمالا...تأبى إلا أن تزرع حياة حيث حللت، أي سر يمنحك هذه القوة وهذا الاستعداد الدائم للعطاء؟! ألا تمل ؟...ألا تتعب ؟...كانت أم العيد تعدك وليا مستورا، فلذلك عرفت سر الحياة، فطفقت تبثه لا تخطئ غرضك، ولو في ليلة واحدة، لكم أغبطك على اندفاعك ومضاء أمرك، لماذا لم تمنحني شيئا من ذلك ؟ وأنا ابنك، شبيهك، وقد عشت إلى اليوم لا أنعم بما نَعِمتَ به عمرَك كله وما زلت أفكر وأتخير وأرجئ...لعلني أنتظر أن ألقاك فتعطيني السر، وحتى حين حملتك إلي النظرات الثاقبة والشابة، وجاءني ريحك الطيب هناك في قرية التوكه أرجأت وقلت حتى أفرغ من أمرك، وظننتك قد اقتربت حينها، ثم إذا أنت تبتعد، فإلى متى تروغ مني؟
في جلسة التعارف قال علي لحمزة:
-                     لقد عرفتك بصفاتك أولَ ما رأيتك، إن لنا صفات لا تضيع في الخليط، لئن كان أبونا قد فرقنا في البلاد فقد ترك لنا ما نتعارف به من غير شك ولا ريبة، وأظنه يسري على الأحفاد؛ لقد رأيت أبناء أخينا سلاك، ولهم نفس الصفات.
قال حمزة:
- الله .. الله، هذا زمن المفاجآت السارة، أنت مفاجأة عظيمة، ثم تذكر لنا أخا آخر.. هذا شيء جميل.
-                     أنا كذلك فوجئت عندما أكدت لي أنك أخي...هذا شيء يسعد، أخيرا سنجتمع ونتعارف، حدثني عنك، عن حياتك، لا شك أنك قاسيت كثيرا حتى تصير إلى ما أنت عليه.
قال حمزة
- هذا صحيح قد عانيت كثيرا، ولكني لله الحمد وصلت، أنا من مواليد 1956 تقريبا في أطار.
قال علي:
- عجيب أنت أكبر مني بخمس سنين، وما كنت أظن إلا أنك أصغر مني.
-                     أنا لست جديدا.. إنني أعقل أحداثا بعيدة جدا.
-                     الذي يراني ويراك يحسب أنك أصغر مني بعشر سنين، لكنها ميزة الجندية.
تبسم حمزة وقال:
- قد يكون...لكنها شاقة وخطيرة...
وسكت قليلا ثم أردف:
- دخلت المدرسة وبعد البكالوريا، نجحت في مسابقة للضباط وأرسلت في بعثة إلى العراق، وعند التخرج كنت الأول على رأس البعثة، وأرسلت إلى "بير أم أكرين" ومنذ أشهر حصلت على رتبة رائد وطلبت الإحالة إلى القطاع العسكري في "لبراكنة" لعلمي أنه كان لأبي زوجة وأولاد هناك فأردت التعرف عليهم...أنا مثلك لم أكن أعقل الأحداث يوم أن فارقنا أبي، ولا أعرف عنه ولا عن أهله الكثير، وتذكر أمي أنه جاء إلى أطار من ناحية ألاك يسوق جلبا لبعض باعة الماشية، وأنه تعرف إليها عن طريق أحد أقاربها من أهل سوق الحيوانات، وبعد أيام قليلة تزوجها، وولدت أنا في السنة الأولى، وبعد سنة ولدت أختي العالية، وفجأة قرر الرحيل وسار في أثر أجلاب إلى نواكشوط، رغم أنه كان عزم على الإقامة وامتهن الجزارة وأوشكت أن تستقيم له وتؤتي مردودا، نفض يديه فجأة، عارضته أمي، ولم تر مبررا لهذه الرحلة خصوصا وأنها ستدمر ما بناه هناك وهو خير بكثير من سوق الأجلاب، لكنه أصر على الرحيل وتمسكت هي بمعارضتها وأرادت أن تضغط عليه فقالت له: إما أن تقلع عن السفر وإما أن تطلقني، فطلقها دون تردد...ولم تكن تتوقع منه ذلك، فقد كانت تقول عنه: لقد كان زوجا من صنف نادر...كان مستعدا لتلبية طلباتي، ولم يكن يدخل علي إلا وهو مبتسم، ولم أره يسيء إلى أحد أو يتكلم بكلام فاحش...
وتضيف: ...لقد حن إلى أوكاره، وأخطأت أنا إذ عارضته فلم أترك له خيارا...كان هبة من الله نعمت بها فترة...لكن سعادة الدنيا لا تدوم.
قال حمزة:
- ولما كبرت أنا عرفت أن له لقبا هو "لبيظيني" وأن له زوجة وأبناء في ضواحي "ألاك"، ولم أعرف شيئا عن تفاصيل حياته الأولى ولا عن أهله، وعلمت أيضا - والأخبار السيئة تفشو- أنه قتل زوجة له في أكجوجت ، وأنه ربما هرب إلى السنغال، وقد قال لي حمادي - وهو الأكبر من أخوين لنا في ألاك -  إنه ذهب إلى السنغال مرتين بحثا عنه، ولم يعثر له على أثر.
قال حمزة:
- ولكن المفاجأة الكبرى كانت في الأخبار التي حمل إلي أحد جنودي وقد اتخذته سائقا، وعلم أني أبحث عن أبي؛ فقد حدثني هذا السائق أن شابا من أهل "كرمسين" يسكن معه وأنه كان مرة يحدثه في شأني، ويذكر له أن أبي اختفى ولا يعرف أين هو، وقد رأني ذلك الشاب مرة فما كان منه إلا أن قال للسائق:
قد عرفت أباه الذي يبحث عنه، إنني أعرفه لقد توفي في قريتنا منذ سنوات، إن له صفاته نفسها، لا شك أنه ابنه.
وطلبت من سائقي أن يأتيني بذلك الشاب، وعندما قابلت الشاب ذكر لي أن رجلا شيخا جاء إلى قريتهم في نواحي "كرمسين" منذ أزيد من عشر سنين وتزوج امرأة اسمها مسعودة وأنه ادعى أن اسمه سليمان وأن ملامح هذا الشيخ تطابق ملامحي تماما، وقد توفي هذا الشيخ منذ سنوات قليلة، وزوجته ما تزال حية وليس له أبناء هناك، وقد سمعوا بعد وفاته أن سليمان ليس اسمه الحقيقي...ولا يذكر الشاب الاسم الحقيقي للرجل، وإن كان يرجح أنه عبد البركة، وكان قد أخفى اسمه وهويته بعد أن قتل زوجة له في أكجوجت وفر إلى السنغال الذي قضى فيه عقودا ثم تسلل راجعا حتى وصل إلى كرمسين.
قال حمزة:
- تطوع ذلك الشاب للذهاب معي فاصطحبته من فوري إلى نواكشوط لأعد للرحلة إلى كرمسين، والمفاجأة الأكبر من ذلك حدثت منذ ثلاثة أيام حين كنت في مكاتب القيادة العامة في نواكشوط، وكان هناك ضابط شاب لاحظت أنه يركز نظراته علي، ثم ما لبث أن تقدم مني وأدى لي التحية ثم سألني:
-                     حضرة الرائد هل لكم أخ اسمه علي؟
قلت:
-                     علي!...لا  ليس عندي أخ بهذا الاسم؟
-                     سيدي أنا أعرف شخصا يشبهك تماما ولولا أني أعرف ملامحه بالتفصيل وأعرف عمله الآن لقلت إنه أنت واسمه علي بن عبد البركة وقد سمعتهم ينادونك عبد البركة.
فوجئت بما قاله، فوضعت يدي على منكبه وانتحيت به جانبا :
-                     قلت لي إن اسمه علي بن عبد البركة، وإنه يشبهني ؟
-                     نعم، إنه صديقي وأعرف كل تفاصيل حياته، وقد تركه أبوه صغيرا. لذلك قدرت أنك قد تكون أخا له.
-                     اسمع...إن لي إخوة ولكني لا أعرفهم ، وأنا أبحث عنهم، فلو دللتني على هذا الذي تذكر فسأكون لك شاكرا.
-                     هذا شيء سيسعدني لأن عليا هو بحكم أخي، وأعظم هدية يمكن أن أقدمها له هي أن أدله على أحد إخوته أو أبيه. ولقد كان إلى عهد قريب لا يعرف إن كان حيا أو ميتا، أو ما إذا كان له أولاد. وآخر عهدي بعلي منذ ما يقارب السنتين حين نقلت إلى النعمة، وكان هو ينتظر التوظيف بعدما جاء من فرنسا بشهادة عالية في المحاسبة، وقد بعث لي برسالة بعد ذلك بأشهر يعلمني فيها أنه قبل في وزارة المالية في وظيفة جيدة، وحصل على سكن حكومي في تفرغ زينة.
-                     دلني على مسكنه...
-                     لقد وصلت البارحة في وقت متأخر وذلك لحضور دروس توجيهية هنا في القيادة وستبدأ هذه الدروس بعد ربع ساعة من الآن، وحسب الجدول فإننا لن ننتهي قبل الساعة الثالثة، ولذلك لم أجد بعد الفرصة لزيارته، ولا أعرف مكانه بالضبط، ولكن لا بد أن إخوتي يعرفون مكانه فهو كان على اتصال بالأسرة. دعنا نلتقي في المساء لنزوره، ما هي الساعة المناسبة لك سيدي ؟
قلت له: أنا الآن خارج وسأمر في طريقي على وزارة المالية وإن لم ألقه فستجدني هنا الساعة الثالثة. وفي الوزارة دلوني على المنزل، فتركت لك تلك الرسالة.
-                     لا بد أن ذلك الضابط هو عبد العزيز.
-                     نعم، لقد قال لي إن اسمه عبد العزيز ولد سيد محمد.
-                     هذا أعز صديق عرفته، كان يدعوني إلى منزل أهله فيكرمني وله أب جواد يوزع علينا النقود ويداعبنا، ولقد قضيت معظم الوقت في منزل أهله ونحن نحضر للباكلوريا، وأحاطوني بعناية فائقة، فكنا نذهب ونعود في سيارة الوالد رغم قرب ثانوية الميناء التي كنا ندرس فيها، لقد زرتهم مرات منذ استلمت العمل، ولكن عبد العزيز كان في النعمة، أذكر أنهم يوم أن نجحت في الباكلوريا حملنا إخوته وأقاربه على الأكتاف وأركبونا السيارة وطافوا بنا في الحي يهتفون، وجاء والده بكبش سمين وقال: نريد أن نفرح بكما فادعوا أصدقاءكما، وجاءوا بأمي وخالي وكان يوما...
قال حمزة:
-                     لهذا كان حفيا بي حين رآني كأنما رأى أخاه.
-                     بالطبع فهو شاب طيب.
-                     حدثني عن أبينا. أنا متلهف لسماع شيء عنه.
-                     وكذلك أنا، فربما لا يكون عندي أكثر مما عندك.
استغرق الأخوان في الحديث ومضى وقت طويل حتى ذهب من الليل أغلبه. وخلال حديثهما وضعا خطة لزيارة كرمسين ولقاء مسعودة والوقوف على حقيقة ما رواه الشاب المسيني...وكان حمزة نازلا عند أحد أصدقائه لكنه بعد لقاء علي قرر أن ينزل في دار أخيه، وبعث سائقه العسكري ليأتيه بحقيبته. وكانت لعلي فيلا واسعة، فأنزله في إحدى غرفها...وحين ذهب علي إلى فراشه.. سرح بفكره في تلك المفاجآت التي تتالت عليه منذ أن بدأ رحلة البحث عن أبيه.
هيه...هات يا أبي لا بد أن لديك المزيد من المفاجآت... غير حمزة وأخته، وحمادي وأخيه ، ومسعودة وقصتها الغريبة...لماذا خبأت عني كل ذلك، على مدى هذه السينين الطويلة ؟...ولماذا تفاجئني به دفعة واحدة حين بدأت رحلة البحث ؟...ألم أقل لك إنك تلعب معي لعبة مراوغة خطيرة ؟... لكني سأشكر أن أهديت لي أخا ضابطا كبيرا مثل حمزة فهو أخ يفتخر به... هو نسخة مني ويمكن أن نتشابه على من لا يعرفنا... لكن ذلك ما كان ليحدث لعبد العزيز... آهٍ يا عبد العزيز ! كانت أياماً جميلة، رغم الإرهاق الذي لقيناه من المراجعة...لكننا كنا مصرين على النجاح واثقين منه، كانت عزائمنا قوية...لم أكن أنام، وكنت حين أراك نعسان أصب عليك الماء...ونجحنا في النهاية وكان يوما...لقد كنا أبطالا...الجميع يهنئوننا ويفرحون بنا...ليس هذا أمرا بسيطا...إنها باكالوريا الرياضيات...ثلاث سنوات دراسية مرت، لا أذكر أنني استسلمت فيها لنوم عميق...وفي غمرة التهاني كنت أفتش في الوجوه وفي زوايا صالة أهل سيد محمد عن وجه ألفته، رغم أنني لم أره قط، وجه كان معي طيلة تلك السنوات...يطل علي من شاهق ويدعوني أن أرتفع إليه وأنا أتسلق، وأتسلق حتى كلت قدماي، لكنه كان يصيح بي بصوت مهيب "تقدم..تقدم" وينعت لي الطريق حتى وصلت، فاختفى... نعم لقد اختفيت بعد تلك السنوات فلم أرك في الحلم، لكنك بقيت كالخيال أو كالهالة تمنحني القوة، وتغريني بالاندفاع والصعود...تقول خالتي إنك كنت كريما قويا كثير الخير...لكم تمنيت أن تملأ المكان في تلك اللحظات ببنتك الرفيعة...وتشد على يد والد عبد العزيز، وتتبادلا التهنئة، وترد له الدعوة بمثلها... ولكنك غبت.. لم يكن لي إلا خالي بجسمه الضعيف وحاله البائس... والذي لا يعنيه مما يدور سوى أن يعرف ما إذا كانت الحكومة ستوظفني على الفور أم لا، وحين أقول له إن الشوط ما يزال ممتدا وإني أرغب في منحة حكومية لإكمال الدراسة، ينتفض قائلا:
-                     هذا يكفي.. عليك أن تبحث من الآن عن عمل نحن لسنا من أهل هذا الشأن، ولو أنك ذهبت إلى الخارج فضعت فمن ذا الذي سيبحث عنك؟ لا أنا ولا أمك سنملك لك حيلة...لم يكن لأبيك أية شهادة...وما حصَّلته كثيرٌ عليك...دع الخارج والعلم الكثير للقادرين عليه...وابحث عن عمل تكف نفسك وتكف أمك.
هذه المرة لم يقلقك كلام الخال...فلن يستطيع أن يحول بينك وبين المنحة التي ستعطيك إياها الوزارة، لن تحتاج إليه بعد اليوم لأن الدولة ستصرف لك منحة... وحين عدت في أول عطلة كانت غبطته كبيرة...بتلك الهدايا التي حملت إليه، وبما استطعت ادخاره من المنحة، وقد قال لك حين دفعت إليه بعض النقود:
-                     لقد كانت رؤيتك صائبة حين أصررت على متابعة دراستك...وقد كنا نحن المخطئين ونحن كما تعلم بداةٌ، أميون، لا نعرف شيئا من أمور الحياة اليوم...ونقرن الغَيبة في البلاد البعيدة بالموت.
*      *      *
الفصل الخامس
درب مسعودة
عندما جلس علي وحمزة إلى مسعودة قالت لهما:
إن لأبيكما لحكاية عجيبة؛ تعرفت عليه منذ أزيد من عشر سنوات، وكان يسكن في الغابات القريبة منا، يوقد على الحطب ليجعل منه فحما، يجمعه فيبيعه، وكنت أخرج في أثر شويهات لي وربما تلاقينا فتبادلنا السلام، وشيئا فشيئا توثقت صلتنا، حتى صار يزورنا، ثم طلبني للزواج فلم أمتنع، إذ لم يكن لي أولاد يشغلونني عن ذلك، وزوجني أهلي له، فوجدته نعم الزوج، وكان لا يضن علي بشيء، ويصل أهلي بما استطاع، وكان أول الأمر يذكر لي نتفا من أخباره ولا يفصل لي كثيرا، حتى أصابه مرض شديد أقعده في الفراش أكثر من شهر وخشي على نفسه الموت فدعاني وقال:
-                     يا مسعودة، لقد جئت إلى هذه المنطقة لأجمع مالاً أتزود به إلى أولادي وهم متفرقون في البلاد من شرقها إلى غربها وشمالها، وحين تعرفت عليك أحببتك واطمأننت إليك، وآثرت البقاء معك على أن أُعِدَّ لسفري على التراخي، ولكني أراني اليوم ميتاً، وأحب أن أعهد لك بسر تعاهدينني على أن لا تطلعي عليه أحدا قبل أن أصير إلى قبري، فمن يدري لعل أن تجدي من أهلي من تخبرينه به.
اقشعر جلدي.. فأي سر هذا الذي يريد أن يقصه علي ذلك الرجل، لقد أحببته ووثقت فيه...وفجأة تولد لدي إحساسٌ رهيب، من هو هذا الشخص الذي تحبينه يا مسعودة ؟! ...رميت نفسك في أحضان غريب غامض لا تعرفين عنه شيئا، أي سر هذا؟!...قد يكون أمرا يقضي على حياتك!!...ما أفظع أن يتحول أحبتنا في طرفة عين إلى كائنات غريبة !!... إلى شيء نرهبه ونفر منه...
لكني تشجعت، وقلت لنفسي: هذا رجل أكرمني كثيرا، ولم أر منه إلا خيرا، وأنا جديرٌة بكتمان سره أياًّ كان ذلك السر، فأنا قطعا لا علاقة لي بذلك السر ولا ضير إن أنا كتمته، ووجدتني أهمس له بهدوء فيه توجس:
-                      أعاهدك على ذلك.
قال: أصغي إلي جيدا، وأدار بصره في المكان ليتثبت من أنه لا يوجد أحد غيرنا، وقال:
-                     إن اسمي الحقيقي هو "عبد البركة"، و"سليمان" اسم استعرته للتمويه، وأنا أنحدر من ناحية "باركيول" من قرية اسمها "التوكة"، وأنا في الأصل من عرب العساسين من "تكانت" وأمي جارية لأبي لكني لم أعرف إلا أمي أو أهل "التوكه" الذين عشت بينهم، وتوفيت أمي وأنا فتى يافع فجعلت تارة أرعى وتارة أسوق الأجلاب ثم راقت لي مهنة سوق الأجلاب وكنت أتنقل كثيرا جنوبا وشرقا وشمالا وغربا وتزوجت خلال ذلك ست زيجات، كانت أولاها وأنا فتى في العشرينات في البادية جنوب لعيون ثم تزوجت عليها سرا في باسكنو وخلفت من الأولى ولدا وبنتين، ومن الثانية ولدين، ثم انتقلت إلى "لبراكنه" وخلفت ولدين وطلقت أمهما، ورحلت إلى "أطار" وتزوجت وخلفت ولدا وبنتا، ورجعت إلى نواكشوط فتزوجت وخلفت ولدا، ورحلت إلى اكجوجت وهناك كانت المأساة؛ لقد تزوجت، وليتني لم أتزوج، لقد كانت المأساة التي عصفت بحياتي وأفقدتها كل معنى، وسلبتني الأمان، كانت فتاة جميلة تعرفت على أهلها بوصفهم أسرة مهاجرة من ناحية آفطوط الذي جئت منه، ونزلت ضيفا عندهم شهرا، أتردد فيه على شركة النحاس طلبا للعمل، إلى أن قبلتني الشركة حارسا فيها،  ولم يمض شهران حتى تزوجت تلك الفتاة، ومنذ الأسابيع الأولى بدأت أرتاب في علاقاتها، حتى نمى إلي بعض الأصدقاء أنها على علاقة بشاب، وأنه يتردد عليها في غيابي، وكنت أتغيب يوما وليلة في الحراسة، فخرجت للعمل ذلك اليوم، وكنا نخرج مساء ونستقل السيارة إلى الشركة فنبقى ويعود الذين كانوا قبلنا ولكني في تلك المرة لم أذهب إلى السيارة، وقد أشعرت أحد زملائي قبل ذلك أني قد أتخلف فلا ينتظروني، وبدلا من الذهاب إلى المحطة مشيت أشق المدينة حتى وصلت إلى الحدائق، وتجولت فيها حتى كادت الشمس تغرب، فخرجت إلى الخلاء وصليت المغرب، ثم عدت متمهلا أراقب مغيب الشفق واستحكام الظلمة، حتى وصلت غير بعيد من بيتنا، وكان بيتا طينيا حديث البناء ويجاوره من الغرب على مسافة أمتار بيت أهلها، وكان طرف المدينة من تلك الناحية الجنوبية غير مكتظ بالبيوت تتخلله فجوات، وفي تلك الليلة كانت ريح قوية تهب من الشمال تضعف الرؤية وتطغى على الأصوات، واختبأت خلف بقايا جدار متهدم شرقي البيت غير بعيد منه، وجعلت أراقب المكان، وطال انتظاري حتى يئست، ولكني ثبت حتى رأيت أخيرا شخصا يقبل من الشمال، ويقف ساعة خلف البيت ثم يدور حتى يصل إلى الباب ويفتحه ويدخل، ثم يخرج شبح من بيت أهل زوجتي ويتجه غربا، ثم يقبل من خلف البيت ويدور حتى يدخل بيتنا ويغلق الباب. عرفت أن تلك زوجتي وأن الذي سبقها هو الشاب الذي يأتيها في غيابي، فانتظرت على أعصابي حتى يستتب الوضع في الداخل، ثم جئت أتسلل حتى وقفت عند الباب فنظرت في كل الاتجاهات، لم يكن ثم إلا الريح العاصفة، فجذبت الباب وقفزت في الداخل بازغا مصباح الحراسة نحوهما، فإذا هما يقفزان عاريين، ويتكوم الشاب في ركن وما عليه حلس، أما هي فتلتوي في لحافها، ولا أذكر إلا أني ذبحتها ولم أشأ أن أقتله هو فقطعت مثانتيه وتركتهما يخران في دمائهما، وخرجت مشرقا أولا لأخفي الأثر في الأرض الصخرية الصلبة، وكان متاعي مزادتي وقنينة ماء لا تفارقني، وبت أجري.. وأجري معظم الليل، حتى عرفت أني قد أبعدت شرقا فعرجت جنوبا، وأنا أجري، وكنت ما أزال قويا، قد صلب عودي وتمرست على الجري خلف الأجلاب فليست تضعفني الليلة أو الليلتان، ولا اليوم أو اليومان، ومشيت ليلتين ويومين أتحاشى الناس وأكتفي بما بقي في مزادتي من فستق وكسيرات وتمر، وأشرب الماء أصونه أن ينفد، وفي الليلة الثالثة عرجت على بعض الرعاة فشربت عندهم من اللبن و ملأوا لي قنينتي ماءً، وزعمت لهم أني أطلب ضالة، وواصلت سيري حتى دخلت أرض القبلة، وأمِنت الطلب، ثم عبرت النهر إلى السنغال، وفي السنغال تقلبت سنوات في أعمال كثيرة ولم يرق لي أغلبها، وتنقلت بين مدنه وبواديه، وبعد أن ضرب الجفاف موريتانيا، واضطر أصحاب الماشية إلى العبور إلى السنغال التقيت برب إبل من الذين عبرت إبلهم هنالك وكان له راع "فلاني" ولكنه احتاج إلى آخر، ومكثت معه أزيد من عشر سنوات ثم خشيت على نفسي من بعض الرعاة أن يكون يطلبني للانتقام أو السجن فحزمت أمري على الاختفاء من جديد وانتهزت فرصة طلبي لضالة فاختفيت، ودخلت البلاد من هذه الناحية، وكنت في طريق عودتي قد نهب اللصوص ما ادخرت من مال طيلة تلك السنوات، فاضطررت إلى اللجوء إلى منطقتكم هذه، وبدأت أحرق الخشب وأبيع الفحم كي أحصل ما يزودني إلى أبنائي.
      قالت مسعودة:  ثم تنفس بعمق وأردف:
-                     لعنة الله على اللصوص، لقد سرقوا شقائي سنين كنت أدخر فيها لعيالي.
قالت مسعودة: وسالت دموعها.. لم أعرف أول الأمر ماذا أفعل، وكنت مضطربة خائفة، أحسست فجأة بأن خطرا يهددني، هذا الرجل الذي أمنته على حياتي إنسانٌ قاتل، كيف يمكن أن أعيش معه بعد اليوم والدم يسيل من يديه، وأحسَّ بتوجسي فجعل يطمئنني ويقول:
لا تقلقي .. لقد قتلتُ، ولكني لست مجرما، لقد كنت أدافع عن عرضي، ثم إني ندمت وتبت، لا تخافي؛ لقد كان هذا منذ زمن بعيد وانتهى.. تشجعي وتحمليني يسيرا حتى أموت، لقد كنتِ كريمة أول الأمر، فكوني كذلك آخره.
وتنهد عميقا وقال:  يا ليتني لم أتزوج تلك المرأة...لقد ضيعت عمري كله.
ووجدتني أقول له دون وعي:
-                     إني أعذرك وأعرف أنك لا يمكن أن تقتل إلا بسبب قاهر.
وعذرته في نفسي، وبدأت أستعيد الطمأنينة، ثم سألته إن كان له أولاد في السنغال ؟ فقال لي:
-                     لم أتزوج في السنغال، لقد أحسست يوم عاينت خيانة زوجتي بأن عرقا في صلبي قد انقطع، ولم أجد بعد ذلك ميلا لأي شيء قبل أن ألقاك، ثم إن صديقي الفلاني كان يحذرني من السنغاليات قائلا:
-                     إنا معشر الفلان لا نعرف السحر إلا أفرادا قليلين ولكن زنوج هذه الأرض فيهم السحر الراسخ فاحذرهم.
قالت مسعودة: واشتدت الحمى على عبد البركة أياما حتى يئست من شفائه، ثم بدأت تخف وتماثل للشفاء، وشيئا فشيئا ذهب عنه المرض، ثم خرج ضعيفا منحولا هرما، وكتمت ما أسر لي به وقد زادتني وقائع حياته عطفا عليه ورحمة به رغما عني...والتمست له العذر.
وخرج عبد البركة من علته شديد الحنين إلى أهله، همه الوحيد أن يلقاكم كلكم أو بعضكم قبل أن يموت، فكان دائم الحديث عنكم والذكر لكم، وقد حفظت أسماءكم وأماكنكم وعددكم من كثرة ما ذكركم لي...سبعة ذكور وثلاث إناث، ولم يقرَّ له قرار دون أن يخرج طلبا لكم، فكان يستعد لذلك في كل يوم تطلع فيه الشمس، وكنت أشفق عليه من السفر للضعف الذي صار عليه...وكنت أخوفه من أنه ربما يقبض عليه أو يعلم به أهل المقتولة فيثأرون منه، وأغاضبه أنه سيتركني ولا يعود إلي فكان يقول لي:
-                     سأذهب متخفيا حتى آتي إلى سلاك وأخواته، فأدفع له ما عندي من النقود وأخبره وأدله على إخوته، ليجمعهم ثم أعود إليك، ولن تطلع علي الحكومة..
ويضحك ويضيف: لا تقلقي لن أموت إلا في حضنك.
وذات يوم من شتاء بارد خرج بشياه له يريد أن يبيعها في بعض القرى المجاورة استعدادا للسفر وعلى إثر خروجه هبت رياح شديدة باردة، وحملت مطرا غزيرا فيه ثلج، فانتابنا القلق عليه، وبعد توقف المطر خرج الرجال يطلبونه ولكنهم رجعوا من يومهم ذلك ولم يجدوا له أثرا، وكرروا ذلك أياما حتى يأسوا من العثور عليه، وتمنيت في نفسي أن يكون باع الشياه ولحق بأولاده من غير أن يودعني، مع أني أعرف أنه لن يفعل ذلك، وبعدما يقارب شهرا من اختفائه عثر أحد الرعاة على بعد يوم إلى الشمال من هنا على جثة في حفرة تحت أنقاض شجرة كبيرة وقد نقبت الذئاب عن تلك الجثة ونهشت ما تبقى منها بعد الفساد، وفزع الراعي إلى أهله فجاؤوا وعاينوا الجثة، وبدا لهم أن صاحب الجثة ربما حفر تحت الشجرة يحتمي بها من المطر ثم أسقطت الرياح  الشجرة عليه فمات، وأبلغوا الدرك، وجاء رجال الحكومة، وعاينوا الجثة ثم أمروا بدفنها لتغيرها وفسادها، بما لا يمكن التعرف عليها معه. واحتفظوا من أشيائه بفردة نعل بلاستيكية ومُزَقٍ من دراعةٍ زرقاء وسراويل سوداء، ولم يعثروا على لثامه، ولا على العنزات، ولا النقود التي كانت بحوزته، وذكروا أن شعره ربما يكون أشيب، وربما يكون أسيلاً، والبشرة تميل إلى السمرة وأنه طويل غليظ الكراديس، ولما عرضت علينا تلك البقايا وسمعنا تلك الأوصاف، عرفنا أن ذلك لن يكون إلا هو، فهي تطابق هيئته التي كان عليها عند خروجه، وذهب الرجال لزيارة قبره وإقامة معلمه رحمة الله عليه..
لقد مات قبل أن يحقق آخر حلم في حياته وهو أن يراكم، لقد كنتم في قلبه، وعلى لسانه، وتسيل دموعه لذكراكم وانقطاع الصلة بكم.
بكت مسعودة وهي تأتي على آخر قصة عبد البركة، ومكثت برهة تجهش، وعلي وحمزة شاخصان حولها تغرورق أعينهما بالدموع، ثم تنهدت قائلة:
-                     رحمة الله عليك .. لقد كنت لي نعم الزوج، ولشدَّما فجعت بفقدك...اعذراني فهذا شيء لا أتحكم فيه، فلا أذكره إلا وبكيت.
قال حمزة: إنا لله وإنا إليه راجعون، لقد قضى الله أن لا ندركه، وهو وحده يعلم كم بذلنا في ذلك، وكم نحب أبانا، ولكن لا راد لمشيئة الله.
قالت مسعودة معزية موصية:
-                     إذا كان فاتكم أن تلقوه هو، فلن يفوتكم أن تتعرفوا على إخوتكم وتجمعوهم فذلك حلمه الذي مات عليه، فحققوه له أنتم لتقر عينه وهو في قبره.
قال علي وهو يمسح دمعة سالت على خده:
-                     لقد التقى بعضنا ببعض والبقية تلتقي قريبا إن شاء الله وما دمت تذكرين الأسماء والأماكن فسوف نكتبها من عندك حتى نجتمع بإخواننا جميعا.
أقام علي وحمزة عند مسعود ليلة ويوما زارا خلاله القبر الذي قيل إنه هو قبر عبد البركة ثم قفلا راجعين إلى نواكشوط.
*      *      *
الفصل السادس
نهاية الدرب
في الأسابيع الموالية لعودتهما عملا على جمع إخوتهما واستقدامهم إلى نواكشوط استعدادا لزيارة جماعية لقبر الوالد واجتمع الإخوة جميعا ومعهم بعض أبنائهم، وبعد يومين من الراحة والتعارف في ضيافة علي خرجت قافلة أبناء عبد البركة في ثلاث سيارات؛ شاحنة عسكرية وسيارتين مدنيتين، متجهة إلى كرمسين، وجاء معهم أعمر وإمام مسجدٍ جارٌ لعلي، كان قد أشار عليه أن يصلوا على قبره، ويضعوا عنده معلما. و بدأوا زيارتهم بمسعودة فحملوا لها النقود والهدايا، وحين دخلوا على مسعودة، استعرضهم علي وقال:
-                     يا أمي، لقد جئناك بجميع أبناء عبد البركة.
فقالت:  أنا أعرفكم واحدا واحدا، وسأنادي كل واحد باسمه، ولنبدأ بالأكبر: سلاك
قال سلاك: لبيك يا أمي.
وجاء حتى سلم عليها وقبل رأسها، وتبعته أختاه زينب والسالمة، ثم رمضان و الزاكي الذين جاءا من باسكنو، ثم حمادي وأخوه الكيحل الذين كانا في ناحية ألاك ثم حمزة وأخته العالية وأخيرا علي. وتتالى الأحفاد بعد ذلك، وباتوا ليلتهم تلك معها.
ودعوها واتجهوا إلى القبر، وعندما وصلوا كان علي أول من نزل وخلع نعليه وجاء يمشي في خشوع حتى وقف عند رأسه وسلم ثم جلس جلوسه للصلاة ينظر في إجلال والدموع تترقرق في عينيه، ينفذ بصره من خلال فروع الخشب على القبر يحد نظراته لتخترق طبقات الأرض:
.. انظر ماذا هناك، جسد مهيب مسجى في وقار وشاخص إلى السماء، ملامح تعرفها جيدا، سنين طويلة وأنت تبحث عنها تطاردها، تريد الإمساك بها، غزال شرود لا ترتاح نفسه إلا حين يستقبل الفيافي متنقلا بين مراع متباعدة ، آه... كلما ظننت أنك ستمسك به، انفلت من بين يديك، هو الآن قريب منك ألا تحس بدفء جسده، ضع يدك تحت رأسه وأجلسه والثم رأسه ثم ارتمِ في أحضانه، لا تخف .. خاطبه مشافهةً ولا تتهيب.. بُثَّه ما في نفسك... يا أبت.. ما أحسن هذا النداء، يا أبت، قد تعجلت الموعد، وذهبت قبل اللقاء، فما أعجلك؟ ألا ترغب بأن أناديك بهذا الوصف، أم لعلك سئمت المقام وحنت روحك إلى رحلة جديدة لكنها طويلة، طويلة هذه المرة...ألم تكن تحب أن ترى أبناءك ؟ ها أنا قد جمعتهم عليك ، وها هم يتحلقون حولك يحنون إلى لقائك، ولكنك أبيت إلا أن تبتعد حين أحسست بوشك اللقاء، لماذا تختبئ عني ؟ وأنا الذي حملك بين جنبيه على مر السنين، أنا الذي أسكنتك قلبي وفكري، ولم أتنازل عنك حين نسيك الآخرون وأصبحت ذكرى. أنا الذي شقيت بغيابك وحضورك، كان عليك أن تنتظرني في الموعد لأنك تعلم أني آت...مهما بعدت الشقة وطالت الأيام، ألم تعدني بأنك ستطلعني على السر الذي خبأت تحت الأنقاض الطينية في قرية التوكه حول قبر مارية، وكيف نقلت بريقه من أم العيد إلى السالمة بنت الزاكي...وتريدني أنا أن أكفر لك عن ما فعلته مع أم العيد، وأرد لآل شيبه بعض جميلهم إليك وإلى جدتي أم أنك اطمأننت إلى أني قد سلكت الطريق من أوله وكفى، ومن أدراك أني سأتمكن من الوصول من غير ضلال؟ لقد أخللت بالموعد وضيعت علي حلم حياتي، وها أنت بعد كل هذا تحملني تركتك الثقيلة، وأنا كالحمار أذعن راضيا لذلك...تهرب مني وترمي الحمل على ظهري...أعدك أني سأسكنهم هنالك حيث مارية وأم العيد آل شيبه وحيث مستودع السر الذي اغترفت منه يوما فكنت عظيما قويا رغم الوحدة والأسفار...سأحمل الشعلة وأفي بالوعد...لا تخش شيئا ونم قرير العين.
مسح علي الدموع عن عينيه وقام يستغفر لأبيه بصوت مسموع، وانتهوا من التسليم والدعاء وتأهبوا للصلاة فجعلوا القبر على القبلة، واصطفوا ثلاثة صفوف بصف النساء، وصلى بهم الإمام صلاة الميت وهم بين دعاء ونشيج ثم عمدوا إلى أشجار غير بعيدة وقالوا تحتها، وفي المساء ودعوا القبر وركبوا سياراتهم وكان آخرهم عنده علي وأعمر ابن خالته قال علي لأعمر:
-                     أتذكر أنك كنت حين تغضب مني ونحن صبية تسبني وتعيرني أن عيناي لم تريا أبي ؟ لقد كنت أحب أن تقر عيناي برؤيته وتمتلئا منه.
-                     تبا لك أما زلت تذكر ذلك، وأنت رجل و مسؤول كبير ؟!
-                     في نفس كل رجل ينام طفل صغير، وهنالك دائما لحظات يستيقظ فيها الطفل.
-                     لئن لم تكن قد حظيت برؤية أبيك فإنه قد خلف لك شعبا...انظر، لم تعد بحاجة إليه، إنك اليوم ذو عصبة وافرة.
-                     قاتلك الله...أتريد أن تصيبنا بعينك، ونحن لم نصدق أننا التقينا، بارك علينا.
-                     تبارك الله أحسن الخالقين، ولكنهم ما شاء الله، يمكن أن يؤهلوك للفوز في انتخابات الرئاسة.
ضحك أعمر ونظر إلى علي الذي اصطنع الغضب مع نصف ابتسامة تجاوبا مع دعابة أعمر وقال:
-                     أعماك الله، ورد عينك فيك.
وتضاربا بيديهما وضحكا حتى وصلا إلى السيارة فاستقلاها وتحركت القافلة عائدة.

محمد ولد محمد سالم
1969 واد الناقـــــــــة - موريتانيا
حاصل شهادة الإجازة في اللغة العربية وآدابها من المدرسة العليا للأساتذة في نواكشوط سنة 1991. عمل مدرسا في التعليم الثانوي، وممارسا للكتابة الصحفية في موريتانيا. عمل محررا في جريدة العالم في دبي، ومشرفا على موقع "اتحاد المدونين" التابع لها. يعمل حاليا محررا في القسم الثقافي في جريدة الخليج الإماراتية. يرأس اللجنة الثقافية في النادي الثقافي العربي في الشارقة
صدرت له روايتان هما:
* أشياء من عالم قديم 2007 (دار الحكمة – موريتانيا)
* ذاكرة الرمل 2008 (دار الأمان في الرباط)
* دروب عبد البركة 2010
وله روايات لم تنشر هي:
*الممسوس
*حصار الفراغ
*مذبح النظرات