بسم الله الرحمن الرحيم ... الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد؛
فتحيةً طيبةً مباركةً، تليق بهذا الجمع المبارك، وبهذه الوجوه المشرقة، بنور العلم وسيما السلف الصالح، من أهل الفضل والحكمة والآداب.
وتحية وشكراً وتقديراً لسدنة الثقافة الشنقيطية، أرباب هذا الصالون الفريد من نوعه، والذي قدم للثقافة الشنقيطية خِدماتٍ جُلّى، وعالج مختلِف القضايا الفكرية والأدبية والاجتماعية. ونحن هنا في المهجر نتابع حلقاته بكل اهتمامٍ وإعجاب.
إن الكتاب الذي أسعد اليومَ بتقديم نبذة عنه، يأتي ضمن باقةِ (الإصدارات الأدبية الموريتانية) التي أنجزتْها دائرةُ الثقافة والإعلام بالشارقة، بتوجيهٍ مباشرٍ من الدكتور سلطان القاسمي حاكم إمارة الشارقة، جزاه الله خيراً، وقد كان لي الشرف بانتخابها والإشراف عليها، محاوِلاً بها إعادة الاعتبار لصورة الشناقطة في المشرق العربي، باعتبارهم أهل علم وآداب ومعارف، قبل أي اعتبار آخر. وقد اجتهدت في أن تكون الإصداراتُ على مستوى من الكفاءة العلمية، يليق بتلك الصورة الناصعة لعلماء الشناقطة الأولين.
كِتابُنا اليوم، يبدو في عنوانه مختصّاً بقضية جزئية، هي منظومة "ألفية ابن مالك"، ولكنه في مضمونه يشبه فيلماً وثائقياً ملوناً عن الثقافة الشنقيطية العالِمة، بكل تجلياتها، وخصوصاً الأدبية منها واللغوية. ذلك أن الألفية ليست مجرد منظومة نحوية جامدة، بل هي وعاء حاضن لمخزون ثقافي وعلمي وأدبي عربي، يرتبط بها ارتباطاً وثيقاً، وعلى رأسه الشواهد النحوية المتعلقة بمسائلها. كما أن الألفية في الإطار الشنقيطي أيضاً تأخذ أبعاداً إضافيةً تؤرّخ لثقافة هذه المجتمع وحياته الأدبية والاجتماعية.
لقد رصد الباحث ظاهرةً متكررةً في المتون المقرّرَة في المحظرة الشنقيطية، وما ألفيةُ ابن مالك إلا أبرزُ نموذجٍ لها، وهي ظاهرة انفراد الشناقطة بروايات تخصّهم في بعض الأبيات، لا توجد في النسخ المتداولة في الأمصار والأعصار، فقام باستقراء تلك الانفرادات، ثم قدم جملةً من الفرضيات العلمية لتفسير الظاهرة.
ولتقديم نبذة موجزة عن الكتاب يمكن أن نقسمه إلى أربعة مباحثَ، على النحو التالي:
أولاً: المدخل:
تناول فيه الباحث تحديدَ "المُشكِل"، أي وصف الظاهرة على النحو المذكور آنفاً، مع توضيح المنهج العلمي الذي سيتبعه في المعالجة، كما تقضي بذلك أسس البحث المعاصر.
ثانياً: خصوصيات الرواية الشنقيطية:
وفيه قدم الباحث جرداً مفصَّلاً بالأبيات محلِّ البحث، من "متن الخلاصة الألفية" بالإضافة إلى "الشواهد النحوية"، مع تخريجها من المصادر، بالرجوع إلى مكتبة هائلة من المخطوطات الشنقيطية، فضلاً عن المصادر المشرقية، المخطوطِ منها والمطبوع. ويبدو أن الباحث قد رجع في ذلك إلى أكثر من أربعمائة مصدر. ولا أريد في هذا العرض الموجز أن أطيل عليكم بذكر الأمثلة، فيمكن الرجوع إليها في الكتاب بين أيديكم.
ثالثاً: محاولات التفسير:
لقد لاحظ الباحث أن هذه الظاهرة على قدرٍ من التعقيد يجعلها لا تفسَّر بفرضية واحدة، ولذلك اجتهد في تقديم العديد من الفرضيات والاحتمالات لتفسيرها، وجاءت تلك الفرضيات على النحو التالي:
- تحوُّل الألفية لدى الشناقطة من نص كتابي إلى نص شفاهي، نظراً لما عرفوا به من قوة الحفظ، والاعتماد عليه.
- أن تكون بسبب انتقال التصويبات من الهامش إلى المتن، حيث إن تمرُّس الشناقطة بهذه المتون، جعلهم يصوّبونها، ثم بعد حين ينتقل التصويب ليصبح نسخةً معتمدة.
- أن تكون الرواية الشنقيطية أَثَارة من رواية مغربية منقرضة، باعتبار اتحاد الثقافتين الشنقيطية والمغربية، وتردُّدِ ابن مالكٍ بين أن يُعدّ مشرقياً أو مغربياً.
- أن تكون الرواية الشنقيطية وِجادة في بطون الكتب لا رواية من أفواه الرجال.
- أن تكون الرواية الشنقيطية ناتجة عن اعتماد رواية الشيخ خالد الأزهري، التي تسربت إلى الشناقطة عبر بعض الشيوخ السودانيين.
تلك مجموعة من الفرضيات القابلة للأخذ والرد، وللإضافة أيضاً. وقد شفَع المؤلف كل واحدة منها بنماذجَ من الانفرادات تدعمها وترجحها، متوسلاً إلى ذلك بتطواف في دواليب الثقافة الشنقطية وخفاياها التي ما يزال أكثرها طي النسيان والإهمال.
رابعاً: تأثير الرواية الشنقيطية خارج بلاد شنقيط:
وقف البحث في محطته الأخيرة، عند قضية بالغة الأهمية، وهي تأثير الشناقطة وقوة حضورهم في المشهد الثقافي العربي في المشرقي، مستعرضاً جهود العلامة ابن التلاميد في تدريس علوم اللغة في الأزهر الشريف بعد انحسارها، حيث اعترف له كل علماء الأزهر بالتفوق عليهم في هذا المجال، وهي المكانة التي جعلته يتولى تصحيح أمهات الكتب اللغوية والأدبية إبان ازدهار الطباعة في مصر، وخلال ذلك التصحيح والتدريس تسربت الرواية الشنقيطية من الألفية والشواهد، لتصبح معتمدةً في الطبعات المشرقية، بل صار المحققون المشارقة يرجحونها ثقةً منهم في الشيخ الشنقيطي.
وإلى جانب العلامة التركزي، كان أيضاً العلامة سيد أحمد بن الأمين العلوي، حاضراً في المشهد، ومرجعاً موثوقاً لدى جهات الطباعة والنشر، فقد نشر المعلقات العشر مع شرحها، كما أنجز مشروعاً لغوياً ضخماً تمثل في كتابه "الدرر اللوامع على همع الهوامع بشرح جمع الجوامع للسيوطي"، وهو الكتاب الذي صار أهم معجم للشواهد الشعرية في اللغة العربية، وقد عده بعض الباحثين المشارقة واحداً من أسس النهضة العربية الحديثة.
وبعد؛ فلا أريد أن أطيل عليكم، وإنما أختم هذه المشاركة باقتراحٍ أرى أنه جديرٌ بالبحث والنظر، ومن المناسب أن يصدر من هذا المحفل الثقافي الكبير:
فقد عرفت هذه البلاد وأهلها بمكانتهم في الدرس اللغوي الأصيل، وتفوقهم في الشعر والأدب، وهذا الكتاب خير شاهد ودليل. ولكن المفارقة أنّنا نجد في كل البلاد العربية مؤسسةً باسم "مجمع اللغة العربية"، بحيث صارت تعدُّ ضرورةً قوميةً ووطنية، مثل مصحف الجمهورية والعلم الوطني وغيرهما من رموز الدولة.
فما رأيكم أن تصدر من (صالون الولي محمذن ولد محمودن) وباسم هذه الكوكبة العلمية، دعوةٌ لإنشاء "المجمع اللغوي الموريتاني"؟!
وفقكم الله لكل خير. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________________________________________________
ألقيت المداخلة فى ندوة حول الكتاب بصالون الولي محمذ ولد محمودا
نقلا عن صفحة الدكتور محمد الأمين السملالي على الفيس بوك