كتب الدكتور محمد المختار بن اباه
بسم الله الرحمن الرحيم
إنا لله و إنا إليه راجعون
إذا كانت الأحزان اليوم ازدحمت عليّ في نبأ رحيل أقرب الإخوة وأعز الأصدقاء وأغلى الرفقاء السيد ابن السادة ببها الثاني، فإني ألجأ إلى عوامل العزاء ومشاعر السلوّ في ذكريات صحبة دامت عدة عقود ويصعب علي ّ أن امتلك العبارات حينما استعرضها، وفي الحديث الشريف أن الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، ولقد كانت الألفة بيني وبين الفقيد رحمه الله من كيمياء السعادة، في لقاءاته البهيجة وأحاديثه العذبة ونظراته البليغة وابتساماته البهية، وكم كان إعجابي بذلك الذكاء المتقد وتلك الفطنة اليقظة والحكمة المتبصرة، التي جمعت بين دقة المعرفة وقوة الحفظ، ولا غرو …
إنه مما يؤسفني اليوم، و أنا أتلقى هذا الخبر خارج البلد، أني لا أستطيع تقديم العزاء المباشر لذويه ومحبيه وأصدقائه، ولا يسعني أيضاً انتظار الخواطر الشعرية لرثائه، كما تعودتُ على ذلك، ولعل هذه الأسطر النثرية تنوب عن واجب العزاء ووارد الرثاء.
لقد كان رحمه الله هامة الشرف وقامة المجد وتاج العز، وقد وصلت إليّ سمعته قبل اللقاء به، وكان في كل حين بعد التعرّف عليه عند الظن وفوقه، فتعددت لقاءاتنا وتوطدت صلاتنا وتعززت علاقاتنا، إلى أن شاءت الأقدار، أن تجمعنا الزمالة في الجمعية الوطنية الموريتانية، حينما كان أمينها المالي الأمين، وكنت نائب رئيسها في منتصف السبعينات، وكانت فرصة للوقوف عن قرب على ما يتحلّى به هذا الرجل من خصال نادرة وأخلاق حميدة وقيم سامية، قلّما تجتمع كلاً في فردٍ، إلا أن ببها كان يحملها بدون تكلّف ولا تصنّع، لأنها كانت تجسد طينته الحقيقية وتمثل فطرته الأصلية.
لقد ورث المرحوم ببها سؤدد أسرة آل العاقل، بجميع أبعاده ومقوماته ومكوناته، وهي الأسرة التي اشتهرت بالعلم والأدب والولاية والصلاح، وتميزت هذه الأسرة بالذات وفي هذا المقام، بوجاهة العلماء وظرافة الأدباء وسكينة الأولياء وتواضع الصلحاء.
وإن لم يكن من صنيعي، ويحق لي بدون شك، أن أفتخر بالانتساب إلى علماء وشعراء العلويين، وأمثالهم النجباء الفاضليين، وأعلام الديمانيين والشمشويين الأعيان، وأمراء الترارزة الأجلاء، إلا أن اعتزازي بالانتماء لأسرة آل العاقل له وقع عميق في النفس ونكهة خاصة في الوجدان. ولا أنسى ذلك اللغز التاريخي الذي كان يحلو للسيدة الفاضلة والولية الصالحة لبابة ابنة العاقل طرحه في مجلسها العامر حول أول من قام بالحج من ذرية أحمد بن العاقل، وما ينتابني من شعور الاعتزاز حينما تذكر أني المقصود بذلك، ليس فقط لسبق أداء الحج، وهو ما هو، ولكن أيضاً لذكري من بين حفدة أحمد بن محمد العاقل.
لقد قضيت مع المرحوم عدة سنوات من العمل المتواصل والجهد المستمر في خدمة الوطن وبناء منظومته التشريعية وتصحيح اتفاقياته الخارجية، وكذلك مناصرة القضايا العادلة العربية والإسلامية وتثبيت مكانة البلد في المحافل الدولية، حيث طبع المرحوم جهود تلك الفترة ومبادراتها بوقاره وحنكته وحكمته وبصيرته وهدوئه، وهي لعمري خصال ومزايا كانت مفاتيح خير وعناوين نجاح لمساعينا ومهامنا ولقاءاتنا ورحلاتنا، التي كنا نقوم بها مع رئيس الجمعية الوطنية، السيد الفاضل عبد العزيز صال والعلامة ابّ ولد انّ، وغيرهم من الزملاء والمسؤولين آنذاك.
إن الحديث عن العلاقة مع أخي ببها حديث ذو جذور، ولا يمكن له إلا أن يمتد للحديث عن العلاقة مع تلك الشجرة المباركة وفروعها الميامين، وأبدأه بفترة النشأة والصبا التي ترسخت فيها أواصر ومشاعر هذه العلاقة بفضل عناية ورعاية وتربية ابن أمي أحمدّو ابن عبد الله بن محمذن بن أحمد بن محمد العاقل، ثم في عهد الشباب مع أحمدّو، آخر، بن أحمد باب بن أحمد يورة، الملقب «أدّو» والذي تجسدت في الصداقة معه أول علاقة مباشرة مع أفراد هذه العائلة الكريمة، وأولى محاولاتي الشعرية لرثائه حينما توفي في حادثة في نهر السنغال، وقلت في مطلع القصيدة الرثائية له:
وشمسٍ في تغيبها عرفنا أن الشمس تغرب في البحار
ثم توالت بعد ذلك العلاقات الأخوية والودية مع شموس هذه الأسرة وبدورها، مع العالم الجامع الناظم الشاعر محمد، الملقب «كَراي»، شقيق أدّو وحفيد العالم والأديب المشهور امحمد بن أحمد يورة، ثم الأديب الأريب اللبيب والصديق محمدن بن محمد باب، الذي لم يطاوعني الشعر الفصيح أيضاً في رثائه، فاكتفيت بقولي:
تجْوَ ذا الدهر اخلعنّ واظهر عن دارو ماهي دارْ
وامش محمدن عنّ وامش حد افطن كان اعمارْ
ثم كانت الزمالة التربوية مع شيخ المربين الأستاذ بَبّ ابن سيدي ابن التاه، الذي كانت له بصمات مأثورة وجهود مشكورة في بناء النظام التعليمي في موريتانيا.
لقد استظلت العلاقات مع ذلك الجيل الجليل من هذه الأسرة براية مباركة، حملتها كوكبة وضاءة من العلماء والقضاة والأدباء، من أمثال «امّيَيْ» و«شمّاد» و«حامد» الذين كان لي حظ اللقاء بهم وحظوة العلاقة معهم، رغم فارق السن وأشياء أخرى، وكانت لي مع كل منهم قصة وطرفة، تدل على ما يتحلّون به من نبل وتواضع.
ولقد استلم هذه الراية بعد ذلك ورفعها شامخةً ورثةُ سر الأسرة ورموز مجدِها وسدنة رِفعتِها، وأوجّه لهم اليوم صادق العزاء، بدءاً بأبناء الفقيد رحمه الله، المهندس البارع محمذن، ومنعش الأبدان وملاذ المصابين الدكتور امحمد، وأمين العهدة وعمدة البلدة الرئيس المختار، وأوجهه كذلك إلى أخيه وأخي السيد الفاضل والكريم ابن الأكارم أحمد، وإلى العلامة الفهامة والخطيب المفوه والناظم المبدع الشيخ حمداً ابن سيدي ابن التاه، وفتي بئر السبيل وسميّ الفقيد وابن أخته، ببها بن أحمدّو بابَه، وكذلك إلى شباب العلم والمعرفة ديدي ومحمذن باب ابنا الولي الصالح سيدي بابَ، والأبناء النجباء سيدي بن التاه والدّي والنّم ابنا حمداً وعز الدين بن كَراي، وإلى جميع أفراد الأسرة، ومحبيهم وتلامذتهم ومريديهم وأصدقائهم، وأعزي أسرة المرحوم من آل محمد صالح وآل الشاه، وأعزي المجتمع الموريتاني كافة، في هذه الشخصية الوطنية البارزة التي أرجو أن تنال حقها من التقدير والتكريم والتعريف، سائلاً المولى تعالى أن يتغمد الفقيد برحمته الواسعة ويسكنه فسيح جناته ويلهمنا جميل الصبر والسلوان.
محمد المختار ولد اباه