يتيح الفن والشعر للشعراء والفنانين أن يبكوا أيامهم الرائعة ولحظاتهم السعيدة وأحبابهم اللذين غيبهم الفراق أو الموت ..بعد أن تعودت جوانحهم المسكونة بالعشق والحب والاعظام على فرحة اللقيا بعد طول غياب وابتردت نار أشواقهم المضطرمة بنمير الوصل وجمع الشمل ...وفي كلا الحالين يخلدون وتخلد نصوصهم وتلك معجزة الشعر والفن ..فرغم موت أجساد الفنانين والشعراء في رحلة الفناء الابدي فهم باقون بيننا بذكريات وأحاسيس شاركوها معنا ذات يوم ربما لم نتفطن لمغزاها ولم نفهمها إلا بعد رحيلهم
ورغم أن الانسان لا يفسر كما يقال إلا أنه بالتفكير والتأمل أحيانا ربما نفاجأ باكتشافهم من خلال نصوصهم ومادة ادبهم وفنهم
وفي غرض بكاء الاطلال الذي يكاد يتنوع ويتشكل حسب الازمنة والامكنة و تحتاج كل ألوانه للسبر والدراسة لأنها تختلف باختلاف ازمنتهم وبيئاتهم وعصورهم وأساليبهم من استعجام الى محاورة إلى غير ذلك .. وحتى الحالة النفسية تختلف من أديب لآخر ...
وهناك نصوص جد حرية بالتأمل حقا منها للمثال لا الحصر نص "وكر الباطن" ( الذي سنعالجه لاحقا ) و نص "لمسيلة" الخالد خلود صاحبه
البطل المجاهد بناهي ولد سيد محمد الراظي برد الله مضجعه ورفع منزلته في الشهداء والصديقين
فرغم ما حظي به نص لمسيلة الخالد من دراسة واستنطاق وغناء وترجيع واستحضار فإن مرامي مقاصده وبنيته الفنية تجعله حمال قراءات وأوجه شتى
فحين يرتسم جمال لمسيلة الخلاب الساحر في خيال شاعر ثائر بطل وهي تنساب من شمال الحوض الغربي و روافدها تسعفها من جانبيها كي تعنى بالنخيل وقراه المحيطة بعدوتيه ويبدأ الزمن في رحلة سفر ماض تتزاحم وتترائى له أمجاد موطن من أرضه عاش فيه السيف و القلم والسبحة و(آمرور)البقر و (تمتمته)الإبل و(صاگت)الجياد والحادي القارئ والزاهد والحافظ الحجة والسائس والبطل والفنان المبدع مابين بمرابع العاكر وواد أم الخز ومكطع اسفيرة والملكة والسلطانية والنيزنازة وكورملی وأجار و كوروجل و سوروملي وبحیرة كنكوصة وتتدفق إلى كركور و نهر السنغال فلا بد لنصه من تلك الصورة الجمالية الفنية التي تجسد محتوى من الشعور والوجدان والحنين أو الغربة ولم تستطع قتامتها وخلوها من التفاؤل والأمل أن تحجب معاناة الشاعر وهمومه الممزوجة بتجربته الإنسانية والشعورية بل رسمت طبيعة الصراع النفسي الحاد ومعاناة الموقف المتأزم الذي يكابده ويفجر الألم داخله مما يجعل المتلقي يعتقد أن اميلمنين لم تكن سوى إيحاء إلى النضال والكفاح والتضحية والعطاء ومراتع الصبا
كما هو حال ارتعاش عواطف محمد سيدى ول أوداعه وفيض صبابته وأنين روحه تحت سياط عذاب تنازع الحنين في مفاضلة مبطنة بين أربعة مواضع ينخدع المتلقي غير المتبصر أن الموضعين الاولين لم يتركا للأخيرين أي حظ ولكنه يتفاجأ أنهما فازا بنصيب الاسد :
أخلاگك گبظو لبيرات
شى منه و اگبظ غرد أمنات
سيدى بابه شى و اگليبات
بوفنيارا حظرو و إهير
أ گبظو گرعه لمغيممات
و ابگاو الشگ أ لبهارير
ألاه انهم منسيين ابگاو
ختروه افلخلاگ اذرذير
متفرگ لو جمعوه إراو
الى من كرعت ذوك أخير
وكأن الشاعر الثائر محمدن ولد إشدو (في السجن الانفرادي في باسكنو) يريد أن يوضح أو يقرب لنا الصورة الشعرية الزمكانية :
من عجيب العجيب أن تِلِمسي
تصبح اليوم ذات شأن بنفسي
ها أنا اليوم في تِلمسي أسير
أي عهد بيني وبين تلمسي؟
أين مني عرائس البحر؟ أين الـ
ـگبله مني؟ وأين مسقط رأسي؟
نفحة من عبير تلك الروابي
كيف تغدو هنا رهينة رمس؟!
ووميض من فجرها قد تلالا
كيف يخبو؛ وليلها جد مُغْسِ؟!
ونشيد من "مَاغَجُّوگَه" أصيل
كيف يحلو دون انْتَمَاس وكَرْسِ
*
رب يوم هناك كنت سعيدا
بين إنسي.. وليلة طاب أُنسي
ألثم البدر في الشفاه رحيقا
ملء نفسي؛ وصهوة الشمس كأسي
لا أبالي بحادثات الليالي
أنفق العمر بين جَنْيٍ وَغَرْسِ
أقفرت تلكم الربوع وذلت
بعد عز.. فيومها غير أمس
"حين غابت بنو أمية عنها
والبهاليل من بني عبد شمس"
"ذكرتنيهم الخطوب التوالي
ولقد تُذْكِرُ الخطوب.. وتُنسي"
أحمد عبد الجليل السالم