لست أريد أن أحكي لكم كل قصتي مع القصة، فذلك أمر يطول ولا يفيد، حسبي أن أتوقف عند الصراع المحتدم بيني وبينها منذ آخر عهدي بالتعليم الأساسي، أحاول أن أكتبها وتحاول هي أن تكتبني.
أحاول أن أكتبها بلغتي وبالشكل الذي يرضيني وتحاول أن تفرض علي الزي اللغوي الموحد من المحيط إلى الخليج والشكل الكتابي الأكثر شيوعا على امتداد المعمور.
كنت في حداثة سني أقرأ كل ما تطاله يدي من غث وسمين ، من مجموعات قصصية وروايات ترفيهية أو فنية، أقرأ للمشهور مثلما أقرأ للمغمور، للعربي مثلما أقرأ للعجمي، وربما كان ذلك سببا رئيسا لتحول وجهتي – وأنا الذي ولدت في وسط يتعاطى النظم - من الشعر إلى السرد . وإن كنت، حتى الآن، لا أزال قارئا للشعر القديم قادرا على أن أبكي الدمن البوالي وأن أرد الأواجن الطوامي وأقطع منابت الحنوة والعرار بكلام موزون مقفى.لأقل، بصيغة أخرى، إنني قد خنت عهد العشيرة حين تخاذلت عن ميراث الجد وعدلت عن تعداد مفاخر العشير وتدوين مآثر الأحياء والأموات منه وممن تربطه به وشائج القربى أو أواصر المودة. كان يمكن أن أكتب، مثل العقلاء من كبار الشعراء، شعرين:شعرا للوطن والأمة حديثا وشعرا آخر في الظل للعشيرة ولم لا أقول لدرهم المعاش؟ لم أكن عاقلا بالقدر الضروري لذلك. وكنت، فضلا عن ذلك، أحس أن ثمة تحولات تجري يجب أن تكون موضوعا لتعبير أدبي. وهكذا استبدلت الذي هو أدنى ، من وجهة نظر البعض، بالذي هو خير، وبدأت محاولات نشرت أول ما نشرت منها سنة 1983 بعد اجتياز الباكالوريا ودخول مدرسة المعلمين العليا فلقي حفاوة كبيرة آنذاك، خصوصا من لدن أستاذي فرج بن رمضان الذي كان أستاذا للأدب الحديث بالمدرسة يومئذ قبل عودته إلى تونس. هذه الحفاوة كانت في واقع الأمر بالنسبة لي مصدر اعتزاز كبير وإشفاق شديد فقد كنت أحس أن في ما أكتب شيئا ما ممالا أريد أن أكتب. في منتصف مايو من عام 1984 أعلن في إطار قسم اللغة العربية عن أمسية أدبية حول موضوع "القصة في موريتانيا" حضرتها إلى جانب أستاذي المرحوم جمال ولد الحسن، وحرص أستاذي فرج على التنويه بما كنت قد نشرت من محاولات وكان مثل هذا التنويه كافيا ليجعل مني، في أوساط مدرسة المعلمين العليا ومشروع كلية الآداب، كاتبا. غير أني – وأنا المتابع يومئذ قراءات أستاذي للنصوص بشغف كبير – كنت أحس على نحو ما أنني لم أفلح بعد في الكتابة على النحو الذي يرضيه ، وهو ما لم أفلح فيه إلا بعد ذلك بعامين حين أعدت كتابة "أنت طالق" و"غاية الغراب" من تلك النصوص التي نشرت يومئذ بعنوان "من كرامات الشيخ" وقد أًصبحت قادرا على تطويع الأشكال التراثية للمضامين الواقعية والتلاعب بنظام الرواة وتفريدهم اجتماعيا وإيديولوجيا.
في عام 1985 تقدمت بطلب لإنشاء ناد للقصة بمدرسة المعلمين العليا أو المدرسة العليا للأساتذة كما كانت تسمى آنئذ واستطعت بالتعاون مع بعض الزملاء أن أصدر أعدادا من نشرة شهرية مرقونة بعنوان "القصص" حاولت يومئذ أن أناى بها عن التخندق السياسي الذي كان يطبع كل شيء ثم قررت أن أنأى بنفسي عنها حين بلغني أن الشاعر عبد الله القرشي الذي كان سفيرا للسعودية بنواكشوط قد اتصل به بعض الفضلاء من محبي الأدب يسألونه دعما للنادي وللمجلة وأن جهة إدارية وصية قد باركت هذه الخطوة بعد أن آتت أكلها، فقررت بعد روية أن أنسحب.
نشرت في العام الجامعي نفسه 85 – 1986، "من كرامات الشيخ" وزعمت أنني استوحيت معمارها من الشعر وأن كل نصين من نصوصها الستة يشكلان بإيقاعهما وقافيتهما بيتا من الرجز. والحق أنني يومئذ كنت واقعا تحت تأثير الجاحظ، وكنت بالتحديد أسير نموذج محدد هو "قصة أهل البصرة من المسجديين". كنت قبل ذلك قد حاولت – ويا لسخف الغرور- كتابة أحاديث سردية أنحلها الجاحظ أو أبا الفرج الأصفهاني (نشر اثنان منها على الأقل في جريدة الشعب) كانت مرانا لي على الكتابة بالفصحى وعلى ارتياد آفاق المشترك التراثي بيني وبين القارئ، همي الأكبر. لم أكن – وأنا الذي لا أجد معنى للكتابة غير الالتزام-لأستسيغ التقوقع داخل أسوار من حداثة الآخر، فالكلام، إذا لم يكن رقية، لا مندوحة له عن مراعاة سياقات التلقي.
في عام 1987 تقرر أن أبعث إلى كلية الآداب بالرباط، وفقا لذلك النظام القاضي بأن يوجه الحائزون على الرتبة الأولى من كافة التخصصات إلى الدراسات العليا ليكونوا أساتذة بمؤسسات التعليم العالي. ودخلت المغرب أول مرة في 29 من نفمبر1987 ،لأسجل في"الرواية" آخذا بذلك ورد الشيخين محمد برادة وأحمد اليبوري. في هذه الأثناء كنت قد كتبت الصفحتين الأوليين من "أولاد أم هانئ"ولم أعد إليها إلا في صيف 1993 بعد صدور حكم الإعدام الثقافي في حقي بثلاث سنوات. كنت أزعم لنفسي قبل ذلك أن جهد المقل أزكى دوما من كثير من الإسهاب وأن أم الصقر –كما يقول عروة بن الورد – مِقْلاتٌ (من القَلَت) نزور. واجهت في كثير من الأحيان معضلة الحوارات وخطابات الشخصيات التي لم تكن تتيح غير خيارين : أن "تترجم " إلى الفصحى ، أو أن تكتب – على غرار ما يفعل بعض الإخوة- بالعامية ، وهما أمران أقلهما مرارة مر.أما العربية الوسطى أو اللغة الثالثة كما يسميها البعض فلم نلق فيها جلال الفصحى وثراءها ولا حميمية العامية ونكهتها. وكان لفت اهتمامي من قبل أن اللغة العربية القديمة، كما نلقاها في المعاجم، ليست ميتة كما يحلو لكثير من المستحدثين أن يصفها، بل هي متداولة في الحياة اليومية لهذا البلد العربي أو ذاك. وأي مانع إن كان الأمر كذلك من محاولة استغلالها في الحوارات وخطابات الشخصيات؟ ذلك ما حاولناه في "أولاد أم هانئ" للجمع بين ما سميناه جلال الفصحى وثراءها وحميمية العامية،وهو ،على كل حال محاولة يحفها الكثير من المخاطر،كنا على كل حال قد اعتمدناها في "أولاد أم هانئ"على نحو مايلي:
"ولم يعد يطيق على الثبات صبرا فقال:
-وسعوا .. وسعوا.. خلونا نرقص على مدح خير الرجال بجاهه وجاه عربنا الصالحين يجيرني أنا ومن أحب ومن يحبني من خزي الدنيا وعذاب الآخرة"
فانفقع الحر غضبا ، أنا أقول إنه لم يسمعه، فدنا منه وهو يرقص وأمسك بمنكبه. والتفت بلال فرآه – تبارك الله ما شاء الله – عظيما جسيما ، فقال :
- أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت؟
وبينما أنا مشغول –قال بلال- بما لا أرجو ثوابه إلا عند الله ورسوله إذا عبد ضالة يتهددني ويتوعدني بكلام النصارى ، فقالوا :هذا زوج (سلم عربيه ) بنت مارية وهو يقول لك لا تعد مثل هذا الكلام الذي قلت هنا، فقلت له:
- لست أجيبك ،فأنا لست نصرانيا، الحمد لله، ومولانا يقول (وأعرض عن الجاهلين) وقد استعاذ النبي من العبد الأحمر"
فهبز نحوي يطاميني وحالت بيننا الحجاز، وأنا لم أتحرك من مكاني ولا عود في يدي ، فقلت لمن يحجزونه لما رأيتهم ينترونه ويعفسونه ليجلس : "خلوه خلوه كفرت لا يكون مني بحيث تصله يسراي هذه إلا صليت على خير الرجال ولطمته على الحنك الأيمن حتى يقول: خرجت ضيفا، وانتهى المدح، وفي الصباح وقعت الهيشة.
(...) وجئت إلى مكان الواقعة فوجدت الطبل والهالة من حوله. وأهل هذا الزمان لا يلعبون الدبوس، ولم أجد من هو في سني .فقيل لي: ربما كان صديقك مسعود عند الطبل الآخر، فاذهب إليه إن شئت. وذهبت إليه، فما كادت الخادم زوجته تراني حتى استقبلتني وهي تصفق:
شي يواسو الخدم
لا جاهم بــلال ؟
يواسو ذي الحيل
ومعها ذي الحال
ويهزوا الزهلـول
ويهزوا الميــال
وانشال مسيعيد إلي فرحا فعانقني، ودخلنا المرجع فخبطنا خبطات كالياقوت.
وأنا لم أكن أظن السالك وأخواته يشارّون مواليهم حتى سمعت أخته زوجة العبد الأحمر ،حين سمعت كلام العراب، تقول: كذبت وأذنبت وضرطت ضرطة تزنك عشر مرات كفعلة فرعون التي لا يزال رعدها يدندن"
فصحت بها:
- اسكتي إن كنت لا تريدين أن يسد الله حلقك.
والتفت فإذا العبد الأحمر خلفي يجوغ استهزاء بي. فقلت :
- يا أمة الهادي ! يا جماعة المسلمين! انهوا هذا العبد عني إن كان لا يريد أن أتقرب إلى الله بدمّه، انهوه عنى إن كان يسمع !
وكثر الكلام .وهبز إلي جذعان يطامونني، فجعلت -إن شاء الله – أصابعي هذه في ترقوة أحدهم ودفعته بها فإذا هو كالعزبة ملقى على فقاه. ونترت من حزامي خير الرفاق(يقصد الدبوس) فتمغطت حتى مسست بها العبد الأحمر، وألقيتها دوين السماء وحمت حيث حامت الحِدَأ فلقفتها وصحت .
وزغردت خادم لنا زغرودة لست أنساها لها ما حييت فاقشعر جلدي وداخلني طور من الطرب مالي به عهد"
وحين أمعنت النظر في بعض اللهجات العربية حصل لدي اقتناع بإمكانية الاستمرار في هذا المنحى شرط التعمق في التراث العربي والموروثات المحلية. واليوم وبعد أن طوفت عشرين عاما في هذه الآفاق، أتوهم، في بعض الأحيان، أنني أصبحت قادرا على أن اكتب شيئا، وحين أستعيد ثوب مدرس السرديات أتبين أن ذلك كان مجرد وهم، فطبيب النساء – في ما يخيل إلي– لا يستطيع امتلاك خيال العاشق.
• شهادة قدمت للمهرجان الأول للأدب الموريتاني سنة 2004