ثلاثة أحداث ليبرالية منذ أواخر ديسمبر الماضي: في سطيف في الجزائر انتفض السكّان ضدّ أصولي اعتدى على تمثال عاري. بدا الأصولي وحيداً ومعزولاً أمام غضب شعبي يُقدِّس الرموز الليبراليّة. رُميَ بالحجارة وتعاون الجمهور مع الأمن في القبض عليه. بُعيدَ أيام حدث مشهَدٌ شبيه في حلوان بمصر: المتشدِّد الدِّيني، المعتدي على كنيسة يتعرّض لغضب شعبي وعشرات المتجمهرين ينهالون عليه صفعاً على القفا حتّى قتلوه. في كلِّ مرّة كان يمكن استدعاء سعيد صالح: مرسي ابن المعلِّم الزّناتي اتهزَم يا رجالة!
الحدث الثالث كان أكثر نُظمية: فقد تحوّل إلى شبه ثورة على حكم المؤسّسة الدِّينيّة في إيران. مرّةً أخرى كانت الحُريّات الليبرالية في الواجهات: خلع الحجاب و"تدنيس" المنابر. الصورتان الأيقونتان في الموضوع كانت صورة الشعر الغجري المجنون، لخالِعة حِجاب إيرانيّة في إصفهان، يُسافِرُ في كلِّ الدّنيا؛ والثانية كانت ثائرة ليبرالية برِجل فوق أخرى على أعلى منبر المسجد، الذي هرب ملاليه لا يلوون على شيء. آخر مّرة حدثت فيه ثورة ليبرالية على حُكم مُديّن كانت انتفاضة يونيو 2013 التي أسقطت حُكم الإخوان بمصر.
يمكن إضافة مشاهِد أخرى: ففي موريتانيا اضطرّت الاصولية التي نقمت على خلع كاتبة لغطاء رأسِها إلى أن تزدرد ألسنتها بعد هجمة مُضادّة لأنصار الحريّات الشخصية. وحتّى إن بعض كِبار الأصوليين ركب موجة الحريّة الشخصيّة، التي لم يكن يؤمن بها قبل ساعات، ليقود الجموع الليبرالية.
ليس هذا عهداً سيئاً لليبرالية. إلاّ أنّ هذا ليس استدعاءً للانتصار. فوراء كلِّ ليبرالية هزيمة أيديولوجية. على مستوى الإسلام السياسي المغاربي تمّ القبول بالتعدّد الثقافي الذي أتاحه دخول الإسلام في العولمة والعلمنة. وتخلّص الإسلامويون الرسميون عن ميمنتِهم الشريعيّة وسرّحوا مطاوعتهم. وفي تونس مُلئ هذا الفراغ بحركة أنصار الدين وحزب التحرير وبموجة الهجرة إلى داعش وبالتمرّد في الشعانبي، وبالنهاية إلى صراع ثقافي بين الجنوب والشمال. أما في المغرب فقد ملئ هذا الفراغ بالعدل والإحسان وظهور فردانية إسلاموية انطوائية أو مُشاكِسة وزيادة الانشقاق بين الإسلام السياسي والإسلام الدعوي. وفي موريتانيا ملأت الحركة الصوفية-السلفية المعروفة بالنصرة هذا الفراغ. وخارج المغرب، في السعودية مثلاً، بدأ مشروع تفكيك الوهّابيّة وتسريح المطاوعة والحسبة وإخراج المرأة للشارع. وفي ليبيا اندحرت الأصوليّة الحاكمة، وإن بديكتاتوريّة شبيهة.
أما على مستوى اليسار فالكارثة الأيديولوجية هي تحوّل اليسار من حركة حقوق ومساواة وعدالة اجتماعية إلى حركة ليبرالية هدفها الاساسي، والحصري حتّى، هو الحريات الشخصية؛ وقد أصبحت، كما حدث لليبرالية العربيّة عموماً، تماهي بين التقدّم واللذائذية والهيدونيّة.
لقد أسفر صعود هذه الليبرالية عن تمييع الصراعات الطبقية والمطالب العدلية الكبيرة واستبدالها بحروب الهويات والثقافات واللامساسيات المُبتذلة. ولم يعد الهدف التصدي لاستلابات السوق، وإنّما تأليه هذه الاستلابات باعتبارها منعكساً شرطياً مع التقدّم. وكما حدث لليسار الأميركي فإن اللباقة السياسيّة صارت المحدِّد الأهَمّْ لخطابات العدل والمساواة. والواقع أن صعود هذا النوع من الليبراليات أصبح استسلاماً عند كلٍّ من الإسلامويين واليسار، على تناقضاتِهما الكثيرة. فالإسلامويين لم يعودوا يريدون تغيير المجتمع بالأخلاق، وإنما حُكمه؛ وأما اليسار فقد قنط من العدالة الاجتماعية ولم يعد يريد غير احترام الاختلاف والرغبات. كلّ هذه التحوّلات: نزع الاقتصاد وانتصار السوق وثقافة السوق الكونية ونزع الصراع الطبقي وموت الأيدولوجيا وظهور التكنوقراطيا وحكم الخبراء هي البنية التحتية لهذا النوع من الليبرالية.