... في ذلك الزقاق الضيق نسبيا ، وبجوار بائع الفحم ذي العربة المتحركة ،وقبالة زميلاتها المتأهبات في أي لحظة لمناوشات الشرطة ،اعتادت أن تضع صنحها الكبير الذي يحوى رزما من السلطة الخضراء غمرت بالماء ،إلى جانب الصحن خنشة مهترئة فرشت على أديم ذلك المكان الذي يشكل الفحم ومخلفات المحروقات ،والروائح النتنة وأسراب ذباب بحجم النحل أهم معالمه رغم وجوده في قلب المدينة.
... في الصباح تبدأ "كمب" كعادتها كل يوم برص صفوف من الخضروات التي فقدت _ في الغالب _ طراوتها جراء أشعة شمس الصيف الحارقة وهي تردد عبارتها الأثيرة " هيا اشتري شيئا ".
أصبح منظر هذه البائعة التى تجاوزت العقد الرابع من عمرها ،بملحفتها الحمراء ،ووجهها الذي رسمت عليه يد الأيام خطوطا وتجاعيد مبعثرة ، وعينيها الشاحبتين اللتين توحيان بقسوة الزمن ، وابتسامتها العريضة ، مشهدا آلفه .
ذات صباح وأنا في طريقي إلى مدرستي التي تنتبذ مكانا قصيا من العاصمة ، التفت لألوح بيدي لتحية " كمب " فجأة... تبينت أن المكان شاغر ، خامرني شعور غريب ، وأحسست أن شيئا ما حصل ، كان مذياع بائع الفحم ، وأبواق باعة الرصيد المتجولين ،وضوضاء العامة كل هذا يشكل إيقاعا صاخبا هو من خصوصيات الموقع.
ماذا أفعل ؟ دفعني الفضول إلى السؤال عن بائعتي المسكينة ،لكن لا أحد يعرف !
غادرت المكان مرغمة ،وصور مدرستي النائية ووجوه تلاميذي البريئة ،تتراءى في مخيلتي ،بينما شبح المفتش بنظاراته السوداء،وسترته الرمادية ،يسيطر على تفكيري...
.. مر ذلك اليوم بسلام ، وعدت بعد الدوام لأسأل عن " كمب " وحوار داخلي يدور بنفسي :
ما الذي يربطني بهذه البائعة ؟؟ فأنا إلى وقت قريب لم أكن أعرفها... بل و حتى الآن فأنا بالكاد أعرف اسمها لا أدرى ...ربما الفضول.
حصلت من بعض البائعات على أمارات ربما يكون من الذكاء المفرط الاهتداء بها ولكن تصميمي كان أقوى.
وجدت نفسي أمام مجموعة من الأكواخ المتشابهة لا شوارع ! لا ساحات .. بل و في غياب تام لأدنى مقومات المدينة، اعتمدت المثل " ال بلسان ما يذهب "...
و أخيرا اهتديت لكن إلى ماذا ؟ كوخ متآكل تدرج أمامه بضع دجاجات يرقصن على ايقاع نهيق حمار ربط جانبا، يتجاوب مع ثغاء شاة خلفها الجهد عن التسكع مع نظيراتها على الجيران.
ألقيت التحية فردت علي "كمب" بصوت متأرجح و مبحوح ، بدأت أجول بنظراتي داخل الكوخ ، حصير قديم و مخدات بالية وو أثاث متواضع ، لمحت من عينيها الشعور باليأس و أحسست منها رغبة في الإفصاح عن شيئ ما يختبئ وراء هذا الشعور ،سألتها بتلهف لماذا لم تأت اليوم إلى السوق ؟؟!!
تنهدت بصوت عال ، رمقتها فإذا هي تغالب الدموع ليبتدئ الحديث ، إنها المعيل الوحيد لأسرة تلعب فيها دور الأم و الأب معا مكونة من أولادها الأربعة و بناتها الثلاث.
آآآه .. إنهم يحتاجون التعليم و متطلبات العصر الكثيرة حاجتهم إلى التربية و الرعاية حتى لا يجرفهم تيار الانحراف .
ابنها الأكبر سالم لاحظت في الفترة الأخيرة عصبيته الزائدة و غيابه المتكرر عن البيت مع شلة من رفاق السوء لكنها لم تعبأ بالأمر فهو أصبح رجلا و هي مشغولة طوال الوقت بتجارتها مصدر رزقها و في المساء تعود منهكة و تريد أن تستريح .
في 12 آذار ذلك اليوم المشؤوم عانت عائدة من "كيص" جعلته القرعة من نصيبها بعد أن أنفقت الوقت و الجهد في تقسيطة من تجارتها المحدودة و انتظرت حولا كاملا حتى تحصل عليه ، لا يهم .. المهم أنها حصلت على مائة ألف أوقية جعلتها في حقيبتها القديمة ووصلت إلى منزلها و جعلت المبلغ في مكان آمن و هي تنتظر الصباح علها تقتني بعض ما حلمت به و توسع تجارتها إلى محل يسعها و صغيرتها ذات العشرة أعوام و التي تركت المدرسة بدافع حاجة الأم إلى مساعدتها .
في الصباح رن هاتفها "نبيغوه"..
ــ نعم من ..؟
ــ هل أنت كمب بنت الصبار ؟؟
ــ نعم ماذا تريد ؟
ــ مطلوبة لقسم الشرطة بمفوضية الميناء ! و أقفل الخط
بسم الله الرحمن الرحيم قالتها و هي ترتجف ، مالي و للشرطة اللهم اجعله خيراا
وصلت إلى قسم الشرطة و هي لا تعرف كيف ، من يجلس هناك ؟! إنه .. لم تنبس بكلمة فالمفاجأة عقدت لسانها ، أكبت عليه لماذا أنت هنا ؟؟!
ــ أحقا لا تعرفين شيئا عن ولدك المحترف ؟ قالها الضابط و على وجهه ابتسامة ساخرة.
ـ بالله قل لي ماذا فعل ابني حتى جئتم به هنا ؟؟
ـ اسمعي ياسيدتي ابنك يترأس عصابة إجرامية و قد شارك في جريمة قتل بشعة الليلة الماضية ووجدنا بحوزته مبلغ مائة ألف و أسلحة و مخدرات .
مادت الأرض تحت قدمي المسكينة و هي لا تصدق أذنيها و تهذي هذيانا مرا ... لا يمكن ابني يسرق و يقتل ؟؟؟
اقتاد الشرطي سالم وزملاءه إلى الداخل و أغلق الباب ...
رجعت كمب إلى منزلها ، لابد أن تتصرف بأي طريقة ، تذكرت جارها محمد الامين الشرطي يمكنه اطلاق سراح ولدها ، الحمد لله أن "الكيص" قد جاءها في هذا الوقت ، ذهبت إلى المكان الذي خبات فيه النقود .. ماذا ؟ تسمرت في مكانها أين النقود ؟ لا يمكن ؟ أحست و هي تردد هذه العبارة أن آخر خيوط أملها قد اختفى وراء سحابة الياس القاتمة التي أظلتها ...