عبيد حتى في القبور

جمعة, 03/02/2018 - 01:03

موسى دياغانا.. تنويري ينتصر للحب وينتقد العبودية من الداخل
   
لقطة من فيلم «سيا حلم الثعبان» المأخوذ عن مسرحيته «أسطورة واغادو»

محمد ولد أمين*

رفع الكاتب المسرحي الموريتاني موسى دياغانا -رحمه الله- المسرح الموريتاني إلى العالمية، بفضل مسرحيته العظيمة أسطورة واغادو، التي ألهمت الكثرة من شباب غرب أفريقيا نزراً من روح التحدي الأسطوري لمواجهة الدوغمائية والخرافة.. ولعل تلك العفوية المنطلقة من كل عقال، ما جعل هذه المسرحية العظيمة تتمدد بسرعة إلى الشاطئ المقابل من بحر الظلمات فيعاد تمثيلها على خشبات مسارح الولايات المتحدة.. كندا.. والبرازيل تباعاً. أسطورة واغادو هي العمل الأشهر لهذا العبقري الذي غادر دنيانا في يناير المنصرم.. لكنها ليست العمل الوحيد ولا الأفخم في مسيرته الفنية والفكرية الرائعة والنادرة.
ولد موسى دياغانا سنة 1946 في امبود بجنوب موريتانيا في مكان مختلط ومتعدد الثقافات وتعلم العربية ومبادئ الدين قبل أن يدخل في المدارس الكولونيالية، واكتسب منذ الصبا لغات عديدة هي: العربية: لغة الدين، والسونينيكية: اللغة الأم، والبولارية: لغة الجيران، والفرنسية التي تمتعت بهيمنة كبيرة في تلك الأزمان حتى أضحت لغة التعاطي والتواصل بين المثقفين في هذه الربوع.
في نهاية الستينيات، سيتخرج صاحبنا من مدرسة المعلمين بنواكشوط وسيتم تحويله إلى نواذيبو في شمال موريتانيا مدرساً في ابتدائيات عديدة.. لكن رغبة عارمة سرعان ما ستجعله يستقيل من العمل الحكومي وستدفعه نحو البحث عن مكان مناسب للدراسة العالية؛ إذ لم تكن بموريتانيا في تلك الأيام الباكرة من وجودها كدولة أي جامعات.

سيصل إلى تونس بورقيبة في سنة 1971 وتونس التي سيتخرج من جامعتها بالليسانس في السوسيولوجيا ستترك فيه أثراً بالغاً، حيث ستصالحه مع ذاته، وهي المصالحة التي سبقه إليها الشاعر السنغالي ليوبولد سيدار سنغور وخصص لها قصيدة صاخبة عنونها بإلياذة أفريقية. وكان الفقيد رحمه الله يحب تلك القصيدة السنغورية التي حملت المناضل الأكبر إلى مصاف عظماء التراث الأفريقي الغابر.. وأقصد هنا بكلمة مصالحة: التحرر من أثقال التراث وخرافيته عبر تحويل الخرافة إلى أسطورة أي إلى مجرد معارف بدل قداسات.
هذا سيتجلى لاحقاً في أدب دياغانا.. حيث سيخرج الموروث الإحيائي السونينكي من الإثنية الضيقة إلى فسحة الإنسان المعولم والحداثي والمتصالح مع قيم العقل والتنوير.
شهرة عالمية
بعد تونس سيركب صاحبنا البحر المتوسط نحو فرنسا ليلتحق بالسوربون التي سينال منها شهادة الدكتوراه في سوسيولوجيا التنمية سنة 1981 وهي سنة عودته إلى موريتانيا.
كأغلب أبناء جيله سيظل موسى دياغانا عرضة لكوابيس الصدمة الحضارية وعقابيل المواجهة الكبرى مع الآخر وهي الانفعالات التي سترشح من مسرحياته المختلفة، المتمحورة في جلها حول حقنا في المعاينة الحرة للحياة والأحياء.. والحب والعنف... ومشكلة الحرية.. ومحنة التواجد في النصف الحزين والجنوبي من هذا الكوكب.

ورغم أن العمل في مشاريع التنمية سيأخذ جلَّ وقته لكن مسرحية عظيمة ستعرف طريقها للانتشار معلنة ميلاد كاتب ناضج ومكتمل الرؤية، وتنتمي هذه المسرحية إلى المدرسة الواقعية السحرية في أفريقيا حيث تعود بنا إلى أسطورة واغادو التي كانت المعتقدات الوثنية لقبيلة السونينيكيه، قبل دخولها للإسلام، تلزمهم باسترضاء الثعبان الأعظم صاحب الرؤوس السبعة والقابع دوماً في غابة واغادو بقربان جميل... وليس القربان سوى فتاة بكر تترك مقيدة في قعر الغابة في مستهل كل سنة إلى أن اعترض الحب الذي ربط ممادي البطل «بشهرزاده» التي قررت القبيلة التضحية بها عبر تلك الطقوس.. فحارب لإنقاذها وانتصر الحب أيضاً.. وأعاد قومه إلى جادة الصواب.
أسطورة واغادو ستكسب شهرة عالمية بعد تحويلها لفيلم سينمائي بجهد المخرج الشهير داني كوياتو، من دولة بوركينافاسو، التي ستنال عنها النوط الذهبي في مهرجان فيسباكو، الذي ينعقد كل عام في واغادوغو عاصمة بوركينافاسو، ولا مناص هنا من التذكير بأن العاصمة سمت نفسها بواغادو، تيمناً بنفس الأسطورة التي خرجت من المخيال السونينكي لتنتشر في كل شعوب الماندينج المشكلة لأغلب قبائل غرب أفريقيا.
ربع ساعة قبل...
لموسى دياغانا مسرحية أخرى من خمسة فصول تدعى: «ربع ساعة قبل...؟»، تتقاسم فيها البطولة بنت فلسطينية وجندي إسرائيلي وأطفال تمت تربيتهم على الحقد. وبمسحة عبثية تكشف حجم المأساة الفلسطينية في الوجدان الإسلامي المنتهك والمحتقن في آن.. ولقد كان الفقيد مصاباً بوجع فلسطين ومسكوناً بمعاناة العرب الفلسطينيين، وكأني به رغم سحنته السوداء وجذوره الفرعونية الضاربة في القدم، يريد تذكير محبي فنه بشقه العربي المسلم الذي يحتمه الانتماء لموريتانيا، تلك الخلاسية الجميلة التي خرجت ثملى من ليلة عشق عربي زنجي، حسب تعبيره، أو موريتانيا همزة الوصل (ولم لا الوصال) حسب قولة الرئيس المؤسس مختار ولد داداه.
طارقية..
للفنان موسى دياغانا مسرحية أخرى تندرج في نفس النسق الإنساني الباذخ، وقد اعتبرها بعض النقاد أنشودة السلام بامتياز، وعنوانها «طارقية» وتتحدث عن مأساة كاعب، تفيض بالصباحة والجذل، لكنها من قبيلة الطوارق، ما يجعلها تتعرض لعينات متعددة من الاضطهاد؛ الاضطهاد العام الذي يتعرض له الطوارق عموماً، والاضطهاد الخاص الذي تتعرض له هي كأنثى من الصحراء... أنثى تتلمس الحب من خارج الدائرة الأثنية والقبلية.
وستنتصر الطارقية في حبها لطبيب أوروبي على مواضعات العشيرة وأعرافها. تماماً كما انتصرت البنت الفلسطينية على الحقد المتبادل مع الجندي الإسرائيلي.. وكما انتصر حب ممادي على فلكلور القتل في غابة واغادو.
في المسرحيات الثلاث المتتالية تلخيص واخز لعواطف شعوب مشرذمة بين دول عديدة.. شعب السونينكيه الموزع بين خمس دول يشكل فيها أقليات ميكروسكوبية بسبب خريطة رسمها ضابط فرنسي أراد تمزيق غانا التاريخية بشكل لن يسمح مجدداً بإعادة تشكيلها مرة أخرى كأمة ذات تاريخ حافل بالحضارة والتنظيم.. وفي هذا الإطار يذكرنا موسى دياغانا بأن أكبر مدينة سونينكيه في العالم هي باريس التي يوجد بها قرابة مائة ألف سونينكي وهو عدد لم يتواجد قط في مدينة أخرى.
شعب الطوارق المنسكب في الصحراء الكبرى بين تسع دول وتسع محن وحروب...وشعب فلسطين المشتت على صفحة الكوكب الأرضي... إنها الفواجع التي شغلت الحيز الأكبر من عطائه الجميل.
جيل الاستقلال
صحيح أن أغلب منشورات المرحوم موسى دياغانا كتبت بالفرنسية، على غرار أبناء جيله في المستعمرات الفرنسية، لكنه حافظ فيها على ذلك الرونق الأفريقي الذي حمل الكثير من أسرار وميول وعادات سكان السهل المنبسط والأجرد في غرب أفريقيا، والممتد من موريتانيا نحو بحيرة تشاد شرقاً، وهو السهل الذي تعمره عشرات القوميات والقبائل.. والذي تشكل العربية والإسلام سمته البارزة والممتزجة دوماً بأساطير أفريقيا.. ولا مندوحة من التذكير باختزان قومية آسوانينكيه او (آسوان اينكيه) لكثير من الموروث النوبي الفرعوني الذي يرشح في لمحات بارقة من أدباء السونينكيه عموماً، ومن عائلة دياغانا خصوصاً، التي ينتمي إليها الراحل موسى وابن عمه الأديب المشهور عثمان دياغانا صاحب القصيدة الغنائية: الشرقية.. ذكريات امرأة من السهل.. وهو كتاب سونينكي مكتوب بفرنسية جميلة قد نعود إليه في حلقة أخرى.
جيل موسى دياغانا هو جيل الاستقلالات الذي تأثر بكتاب مشاهير مثل: كاتب ياسين والرئيس الشاعر سنغور ومالك حداد وصمبين عثمان وهمباتيه باه واحمد بابه مسكة... إنه ذلك الجيل الموتور وصاحب المشاعر المزدوجة تجاه لغات أوروبا التي اعتبرها مجرد غنيمة حرب ووسيلة انتشار للعالمية وليست خياراً يميل إليه المرء بطيب خاطر... لكن وكما هو معلوم عند علماء الألسن تحمل كل لغة ثقافة أهلها ولا مندوحة من القول إن الكتاب الفرانكوفونيين في موريتانيا، وفي أفريقيا عموماً، هم الحامل الموضوعي للقيم التنويرية والحداثية، وعلى ذلك الأساس لمع نجم موسى دياغانا ككاتب ملتزم بمسألة الحرية الفردية وحق الإنسان في الانعتاق من كل ربقة ومن كل قيد بل تخطى أقرانه بأن خصص كتاباً كاملاً لجراح العبودية وسرد تجربته الشخصية حول فظاعات العيش في مجتمع عبودي طبقي تنقسم فيه البرايا إلى رتب وخانات.
في كتاب «جراح العبودية» لم يتقيد بالنسق المعهود عند كتاب أفريقيا جنوب الصحراء الذين يركنون غالباً إلى نوع من التمويه وإلقاء اللوم على الغزاة الأوروبيين وتجارتهم الثلاثية.. أو العرب وتجارتهم للرقيق في المحيط الهندي. لقد تجاوز تلك المعلبات الفكرية الجاهزة واختار كشف العبودية في داخل قبيلة السونينكيه، وهي القبيلة التي يتبع أفرادها نظاماً، تصنيفياً، وطبقياً غريباً لدرجة تمنع أن يرقد الأسياد مع العبيد في نفس المقابر.
***
غادر العميد موسى دياغانا... دنيانا الفانية منذ أسابيع ملتحقاً بالأبدية بعد صراع قصير مع المرض.. ولم يعرف قراء العربية في موريتانيا ولا في العالم الكثير عنه، ولعل ذلك هو سبب تسليطي نقطة ضوء على هذا الفنان الرائع الذي مثل أفريقيا المسلمة والمحبة للعربية أحسن تمثيل، وعبر بصدق عن كل مشاعرها الصافية تجاه القضية الفلسطينية كبرى مظالم قرننا المنفعل والحقود.
الفواجع الكبرى
في مسرحياته الثلاث تلخيص واخز لعواطف شعوب مشرذمة بين دول عديدة.. شعب السونينكيه الموزع بين خمس دول يشكل فيها أقليات ميكروسكوبية، بسبب خريطة رسمها ضابط فرنسي، أراد تمزيق غانا التاريخية بشكل لن يسمح مجدداً بإعادة تشكيلها مرة أخرى كأمة ذات تاريخ حافل بالحضارة والتنظيم، وشعب الطوارق المنسكب في الصحراء الكبرى بين تسع دول وتسع محن وحروب، وشعب فلسطين المشتت على صفحة الكوكب الأرضي... إنها الفواجع التي شغلت الحيز الأكبر من عطائه الجميل.
.................

* كاتب من موريتانيا

 

المصدر: الاتحاد