حول موارد استعمال (جزى) و(جازى)

أحد, 03/04/2018 - 20:15

بقلم الشيخ الخليل النحوي

عندما نتأمل موارد الجزاء بصيغة الفعل في القرآن، نلاحظ ما يلي: 
ورد الفعل المجرد (جزى) في المثوبة على فعل الخير في آيات كثيرة منها قوله تعالى {وسيجزي اللـه الشاكرين}، {وكذلك نجزي المحسنين}، {ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط}، {ليجزيهم اللـه أحسن ما كانوا يعملون}، {كذلك يجزي اللـه المتقين}، {أولئك يجزون الغرفة بما صبروا}، {كذلك نجزي من شكر}.

ورد الفعل المجرد نفسه في معاقبة المسيء في آيات كثيرة أيضا منها قوله تعالى: {من يعمل سوءا يجز به، { {إن الذين يكسبون الاثم سيجزون بما كانوا يقترفون}، {ذلك جزيناهم ببغيهم}، {ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها}. 

ورد الفعل ذاته دالا على مطلق المكافأة مثوبة كانت أو عقوبة، كما في قوله تعالى {ليجزي اللـه كل نفس ما كسبت}،  {إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى}، {اليوم تجزون ما كنتم تعملون}. 

ورد الفعل المزيد (جازى) مرة واحدة، مورد عقوبة لا مثوبة، وذلك في قوله تعالى {وهل يجازى إلا الكفور}، ببناء الفعل لما لم يسم فاعله في قراءة (يُجازَى) وببنائه للفاعل وإسناده إلى جماعة المتكلمين في قراءة أخرى (نُجازِي). واللافت في هذه الآية أن ظاهرها يفيد، بمقتضى قراءة الجمهور، قصر المجازاة على الكافر، فالاستفهام المعضد بأداة الاستثناء يفيد النفي والحصر معا. ولذلك في القرآن نظائر عديدة منها قوله تعالى: {هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون}، {هل ينظرون إلا أن يأتيهم اللـه في ظلل من الغمام}، {هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك}، {هل يهلك إلا القوم الظالمون}. كل ذلك بمعنى : ما ينظرون إلا...، ولا يهلك إلا... 
يستخلص مما سبق أن (جزى) وردت في القرآن لمطلق المكافأة مثوبة كانت أو عقوبة، وأن (جازى) وردت فيه للعقوبة فقط؛ فسواء أكان الفعل (جزى) متمحضا للثواب والعطاء (إلا إذا قُيّد بما ينافي ذلك) أم كان مستعملا لمطلق الجزاء عقوبة كان أو مثوبة، على ما ذهب إليه بعضهم وكما يوحي به استقراء نصوص القرآن، فإن منطوق القرآن، عند جمهور القراء، صريح في تمحض الفعل (جازى) للعقوبة، فإن اللـه سبحانه عدل عن الفعل المجرد (جزى) في صدر الآية {كذلك جزيناهم بما كفروا} إلى المزيد (جازى) في سياق استفهام دال على النفي والحصر {وهل يجازى إلا الكفور} وكأن الآية تقول لنا إن اللـه يجزي المؤمن وغير المؤمن، لكنه يجازي الكافر، بل إنه لا يجازي إلا الكافر شديد الكفر. فلم يا ترى اختصت المجازاة بالكفور في هذه الآية، والحال أن الجزاء قد يكون ثوابا يناله المومن، وقد يكون عقابا يقع على الكافر؟

بالعودة إلى كلام المفسرين نجد النيسابوري - في غرائب القرآن – يذكر مع آخرين أن "المجازاة في النقمة والجزاء في النعمة إلا إذا قيد كقوله سبحانه {جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا}". وهذا ملمح لطيف خصوصا إذا علمنا أن المجازاة "مفاعلة وهي في الأكثر تكون بين اثنين يوجد من كل واحد جزاء في حق الآخر"، وعليه فالنعمة – كما قال - لا تكون مجازاة لأن اللـه مبتدئ بالنعم". ونضيف إلى ذلك أنه ليس مبتدئا بالنعم فقط، فإنه أيضا إذا أعطى أجزل العطاء ولم يكن عطاؤه من باب مجرد المكافأة أو المعاملة بالمثل، بل يعطي بغير حساب، ثم إن العبد حتى حين يطيع ربه لا يعطي وإنما يأخذ فاللـه غني عن العالمين ومكافأته العبد على الطاعة هي جمع له بين الثمن والمثمون، فالطاعة مطلقا نعمة معجلة تلد نعمة مضاعفة مؤجلة. وحين تتعلق الطاعة بالمعاملة بين العباد، فإن  الكريم الموسر سبحانه يتولى الجزاء، بميزان كرمه وغناه، عن الفقير المعسر. وهنا أيضا يكون عطاؤه جزاء لا مجازاة. لكن هل يكفي ذلك لفهم نكتة اختصاص الآية بالمجازاة دون أخواتها من آيات الجزاء الكثيرة؟
حين نتأمل سياق الآية {وهل يجازى إلا الكفور} نجدها منتظمة في سلك آيات تتحدث عن قوم سبأ {لقد كان لسبأ في مساكنهم آية...}، ونجد هؤلاء القوم حين كفروا نعمة اللـه سلط عليهم عقاب دنيوي {فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين...} الآيات. ولعل من لطائف الإشارات في ذلك التنبيه إلى أن الجزاء الدنيوي هين قياسا إلى الجزاء الأخروي، إلى حد أنه يكاد يكون من باب المفاعلة التي تقتضي المعاملة بين طرفين وتحتمل المماثلة في تلك المعاملة خاصة والدار الدنيا دار عمل يكون الغرم فيها بالغنم كما يكون الغنم بالغرم، ويقوم القصاص فيها على المعاملة بالمثل، فيجازى العبد فيها جزاء منقطعا على عمل منقطع، فالعمل والجزاء الدنيوي يشتركان في ثلاث خصائص: إحداها أنهما منقطعان، وثانيتها أنهما محل مفاعلة بين طرفين غالبا لتعلقهما بالتعامل بين الفاعلين في الحياة الدنيا، وثالثتها أن المكافأة تقتضي المماثلة في الحجم والنوع، فللأرش والقود والقصاص مثلا مقادير وحدود معلومة. والجزاء الأخروي بخلاف ذلك كله، فمنه ما لا ينقطع، والمكافأة فيه خصوصا من باب المثوبة لا تخضع لقاعدة المماثلة، ثم إنه فعل فاعل واحد لا  فاعل غيره يومئذ ولا منازع له {لمن الملك اليوم؟ للـه الواحد القهار}. وليس ذلك اليوم يوم عمل حتى يكون محلا للمعاملة (بصيغة المفاعلة بين طرفين) وإنما هو يوم الحكم فيه للـه وحده، يجزي فيه. وجزاؤه فيه غير مقيد بالمماثلة كما أسلفنا، بل إن اللـه يعطي فيه العبد على العمل القليل الثواب الكثير الذي لا يخضع لموازين المفاعلة وما تقتضيه من المماثلة بين كم العمل ونوعه وأمده وبين كم الجزاء ونوعه وأمده، فهو هنا يجزي، لا يجازي. أما في الدنيا فإنه قد يجازي، مشاكلة لما يقع بين أهلها من المعاملة بالمثل كما هو الشأن في الأرش والقود (النفس بالنفس والعين بالعين...). ومما يشهد لهذا المعنى قوله تعالى في القصة {فبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل}.. جنتان مقابل جنتين، مع تغير الأوصاف بمقتضى المجازاة. هذه معاملة بالمثل. 
وخلاصة القول من هذا الوجه أن جازى (من باب فاعل) أمكن في العقوبة عموما، والعقوبة الدنيوية خصوصا لأن الدنيا دار تفاعل وتعامل بين ساكنيها، ولأن مبدأ العقوبة وإن كانت أخروية هو المجازاة بما يناسب الذنب {من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون}، وأن (جزى) من باب فعَل أمكن في المعاملة الأخروية التي هي في الحقيقة فعل لا مفاعلة، والمثوبة فيها غير مقيدة بالمماثلة. ولا يمتنع مع ذلك أن ترد (جزى) للمثوبة والعقوبة عاجلا وآجلا، ولا أن تحل كل منهما (جزى وجازى) محل الأخرى، فتحمل مدلولها، وإن كان القرآن قد رجح اختصاص المجازاة بالعقوبة، وجعلها بالعقاب الدنيوي أخص. وقد جاء من ذلك في الشعر العربي؛ فمن استعمال (جازى) للعقوبة في الشعر قول عنترة: 
إذا جحد الجميل بنو قراد
وجازى بالقبيح بنو زياد
وقول المعري: 
أسأت بعبدك في عسفه،
وحملت عيرك ما لم يطق
وسوف يجازيك رب السماء،
فشمر لأحكامه، وانتطق

ومن إجراء جزى وجازى مجرى واحدا في الشعر قول عامر بن الطفيل (جاهلي): 
وأقسمت لا يَجزِي سُميط بنعمة 
وكيف يجازيك الحمار المجدع

وقول مهيار الديلمي: 
فلأجزينك خيرَ ما جازى امرؤٌ 
وجدَ المقال فقالَ وهو مجيدُ
فإن كلا من هذين جمع في بيت  واحد بين جزى وجازى متواردتين على معنى واحد
واللـه أعلم.