-محمد الشيخ (قناة المرابطين) :
على ذكر التّحوّل، ذكرتم فترة الثمانينات والحراك الثّقافيّ حينها، غياب البُنى التّحتيّة، سقف الطّموحات مرتفع، وحتّى ما قلتم بأنّه المرجعيّة التّقليديّة وبعض المعتقدات الّتي كانت سائدة. اليوم ما تقييمكم للوضع الثّقافيّ الموريتانيّ انطلاقا من هذه البُنى التّحتيّة الموجودة انطلاقا من السّياق الإقليميّ أو السّياق الدّوليّ. هناك ما يُسمّى اليوم أو ينظِّر له البعض ب"المُثاقفة" بين الثّقافات وبين الأجيال المختلفة؟
بدّي ابنو: صعب الحقيقة الحديث عن هذا. أوّلا المعطيات الموضوعيّة ليست لديّ، ثانيّا أتابع بصعوبة بالغة لأنّ حضوري جزئيّ جدّا في البلد ومع ذلك أحاول بطبيعة الحال أن أتابع ولكنّ الدّراسات غير متوفّرة أو على الأقلّ ليست متوفّرة لديّ.
ما يبدو لي بشكل عامّ من خلال ما أقرأ على الأقلّ -وهو ليس خاصّا بهذا البلد ولكنّه خاصّ بكلّ المجتمعات المشابهة- أنّ هنالك طموحات كبيرة جدّا لدى الأجيال الجديدة لأنّها لم تعد في عزلة عن العالم لأسباب تواصليّة تجتاح العالم بشكل عامّ. الثورة التواصليّة مستمرّة الآن بشكل مستمر، طفروي وجارف في نفس الوقت. وبالتّالي بالتّأكيد ستكون هنالك تحوّلات كبيرة في السّنوات القليلة القادمة في هذا البلد وفي بلدان العالم أجمع.
في البلدان المتقدّمة هنالك فعلا تحوّل جارف لدى الأجيال الجديدة مع التّحوّلات التّواصليّة وما يمكن أن نسمّيه "الصّيغة الجديدة للرّأسمالية التّواصليّة" السّائدة حاليّا في العالم والّتي تجتاح بشكل عامّ البُنى الموروثة بما فيها بُنى الدّولة الوطنيّة الصّامدة في أعْتَى معاقلها، الآن تشهد نوعا من التخلخل ومن التّحوّل الجارف الّذي ربّما هي نفسها لا تعرف كيف تسيّره حتّى بالنّسبة للدّول الّتي تتمتّع بـ"سيادة" معتبرة على أراضيها. هذا مستوى. هنالك مستوى آخر وهو أنّنا نحن نعرف أنّ هذه الرّأسماليّة التّواصليّة تشهد مستويَيْن. تشهد ما يمكن أن نسمّيه برَسْمَلَة وعوْلمة الأشياء. أي أنّ هنالك عولمة كاملة. الوسائل المتوفّرة أصبح سوقها عالميّا وتنتقل من بلد إلى بلد إلى آخر دون اعتبار للانتماءات الثّقافيّة والإقليميّة والدّولَتِيّة إلخ. ولكن في نفس الوقت يقابلها نوع من الانكفاء على الهوّيّات التّقليديّة في مواجهتها أي ما يمكن أن نسمّيه بمحْلَـلة الذّوات وعولمة الموضوعات، أو محْللة الأشخاص وعولمة البضائع الّتي تعطي نوعا مزدوجاً من اللهاث وراء السوق الاستهلاكية الكونية وتزامنياً الالتصاق بالرّمزيات التّقليديّة والانكفاء على المحلي والموضعي.
في مجتمع بالغ التّقليديّة، ربّما يكون أكثر المجتمعات تقليديّة في العالم كالمجتمع الموريتانيّ، بالتّأكيد أنّ هذا يطرح تساؤلات خاصّة جدّا لاسيما أنّ مستوى الاندماج الاجتماعيّ الّذي عرفته كثير من الدّول الوطنيّة لم يعرفه هذا البلد لأنّ الدّولة لم توفِّر فضاء رمزيّا بديلا عن الفضاءات الرّمزيّة التّقليديّة وبالتّالي أصبح هنالك انكفاء، ما أسمّيه ب"البحث في العِظاميّة عمّا يعوّض العِصاميّة" لأسباب كثيرة جدّا تعرّضتُ لها وتعرّض لها آخرون كثيرا تجعل بأنّ هنالك نوعا خاصّا من الانكفاء نحو العِظامِيّة في هذا البلد: الرّمزيّة التّقليديّة، الشّرائحيّة، إلخ. هذه تتزاوج هنا مع هذا البُعْد العوْلميّ الطّاغي والجارِف وبالتّالي هذه المرحلة الجدليّة والمرحلة التّناقضيّة إلى أيّ اتجاه سَتَسِيرُ؟ هذا فعلا محلّ تساؤل جادّ.
- في المقابل ما العوامل اللاّزم تضافرُها هنا من أجل أن يكون الفعل الثّقافيّ قادرا على تغيير العقليّات وتطوير مستوى الوعي والتّفاعل إيجابا مع مختلف الخطابات والثّقافات والمعطيات ؟
بدّي ابنو: مرّة أخرى لديّ فقط انطباعات أو تصورات أولية. ليست لديّ دراسات موضوعيّة شاملة ومَسْحِيّة للمجتمع حتّى يمكن أن نتحدّث ولا أعتقد حتّى أنّها متوفّرة. ولكن في نفس الوقت لديّ اتصورات أولية. أعتقد وهذا وربّما يعتقده كثيرون أنّ هنالك عوامل يلزم أخذها بعين الاعتبار. هنالك هشاشة ما يصطلح على تسميته بالنّخب، هشاشة نخب البلد بشكل عامّ. هذه إشكاليّة كبيرة. هنالك في المستوى الثّاني إشكاليّة البُنى الدّولتِيّة، في الإطار الدّولتيّ الموروث. هنالك، عطفا على هاذين العاملين، الطّبقة المتوسّطة أو شبه الطبقة المتوسطة التي نشأتْ منذ السّتينيّات : ما يمكن أن نسمّيه بفئة اجتماعيّة تنتمي إليها ربّما شرائح كثيرة بالمعنى التّقليديّ للكلمة، ولكنّها فئة تكوّنت على هامش إدارة الدّولة وتكوّنت عن طريق الرَّيْع العموميّ في بلد شحِّيح الموارد وتشكّلت لديها أيضا عقليّة الارتباط بالجانب الرَّيْعيّ الامتيازيّ، في ظلّ اقتصاد عائدات وليس اقتصادا زراعيّا ولا صناعيّا إلخ. الأدولة، عموما منذ أواخر الاستعمار مرورا بما بعد الاستقلال، قضتْ نسبيا على الاقتصاد الرَّعَوِيّ التّقليديّ دون أن تخلق اقتصادا إنتاجيّا بديلا، وبشكل أخصّ منذ بداية السّبعينيّات مع حركة التَّقَرِّي الكبيرة جدّا الّتي رافقتْ موجة الجفاف. آليّة الأَدْوَلَة الّتي ظهرت مع نهاية الاستعمار وبداية ما سمي بالاستقلال انبنَتْ جذرياً – بشكل غير متعمَّد بالضّرورة- عَلى تدمير الاقتصاد الرّعويّ التّقليديّ دون أن تكون لديها فكرة عن خلق بديل. وحتّى مناطق التَّقَرِّي الكبيرة مثل انْواكْشوط خُلِقَت دون أن يتِمَّ التّفكير في نوعيّة الآليّة الإنتاجيّة الاقتصاديّة الّتي سَتَعْتَمِد عليها فيما يتجاوز الرَّيْع المباشر للدّولة، الرّيْع المبني بشكل عامّ على عائدات تصدير المورد الطّبيعيّة. وكأنّ البلد أحد كبار مصدّري البترول.
وبالتّأكيد أنّه فُكِّر في موريتانيا في البداية بما في ذلك من طرف المنظومة الاستعماريّة، فُكِّر فيها كدولة رَيْعِيّة وفُكِّر فيها في مستوى من المستويات كما فُكِّر في بلدان الخليج على سبيل المثال دون أن تتمتّع طبعا بما تمتَّعت به هذه الدّول. هكذا نشأت شيئا فشيئا طبقة أو فئة ريعيّة على هامش الإدارة العموميّة ودون أن تتمتّع بالمستوى الرَّيْعِيّ الّذي يمكن أن تحلم به، أي دون أنْ تستطيع أنْ تلبي الطّموحات الاستهلاكيّة الّتي تشكّلت لديها في علاقاتها مع العالم وسوقه العابرة للحدود. وهذا التّناقض بالذّات بالتّأكيد أنّه خلق بشكل معين فئة مَخْمَلِيّة متصادِمة مع مفردات التّحديث بالمعنى الحصري لكلمة تحديث. وبالتّأكيد أنّ هذه الدينامية تعمّقت بعد انقلاب 1978م ومع التوجه نحو "خَوْصَصَة الدّولة"، لا أقصد خوصصة أجزاء واسعة من القطاع العام كما سيحدث في فترات معينة، وإنما أقصد تحويل الدولة كجهاز إلى ملكيات وامتيازات خاصة، إلى إقطاع، وهو التوجه الّذي كانت الدولة منذ بداياتها تحمل بذوره ولكنه أخذ يظهر أكثر منذ العاشر من يوليو دون أن يتراجع مدّه إلى حدّ السّاعة.
هذه الإشكاليّة بالتّأكيد أنّها في صلب عودة المرجعيّات التّقليديّة ومحاولة استثمارها في امتلاك فضاءات داخل الدّولة بحكم مستوى خَوْصَصة الدّولة. وبالتّأكيد أنّها أصبحت إلى حدّ ما تُرَسِّم للوارِدات والمستوردات الثّقافيّة والإيديولوجية االقادمة من الخارج، تعطيها طابَعا محلِّيّا وطابَعا هُوِّيَّاتِيًّا شرائِحِيّاً، قَبَلِيّا، جِهَوِيّا، تقليديّا، إلخ.
ولكنّنا نعرف تماما أنّ المحتويات الثّقافيّة الحَداثيّة، من خلال مختلف التّجارب الأخرى، لديها قدرة كبيرة جدّا على تفكيك البِنْيَات التّقليديّة وعلى أن تُعطِيَها محتوى مِن خارجها وأن ترسم لها طبيعة ووظيفة جديدتين. لِنَقُلْ فيما يتجاوز التّحديث، إنّ الرّأسماليّة بشكل عامّ لديها قدرة عجيبة على تسليع كلّ ما تجده أمامها بما في ذلك الثّقافة التّقليديّة. ولكنّ هذه القُدْرة التَّسْلِيعِيّة المتصاعدة للرّأسماليّة الحديثة ثمّ المعاصرة ثم الراهنية، بما في ذلك التَّسْلِيع الهُوِّيَّاتيّ والشَّرائِحِيّ والقَبَلِيّ وللتّراث التّقليديّ بشكل عامّ، إلخ.، هذه القُدْرة التَّسْليعيّة لديها طبعا جانب تحديثيّ، ولكنّ هذا الجانب التّحديثيّ قد يكون بالغ الخطورة أو بالغ التَّشْطِيريّة وبالغ التّفخيخية مثلما حدث في كثير من المجتمعات الأخرى الّتي تعرّضت لوحشيّة التّسليع الحديث دون أن تكون محضَّرة ودون أن تكون مهيّأة لذلك.
- هل يمكن الحديث عن وعي جديد مؤثر في الثّقافة المجتمعيّة في موريتانيا ؟
بدّي ابنو: بالتّأكيد. ولكنّ هذا التّأثير أيضا في كثير من مستويات المجتمع ما يزال تأثيرا كمونيّا وما يزال تأثيرا يُستَقْطَب من طرف هذه العمليّة الانكفائيّة الّتي تحدّثنا عنها، هذه العودة إلى الهوّيّات التّقليديّة الّتي ربّما طبعت الثّلاثين سنة الأخيرة بشكل تدريجيّ طبعا ولكن بشكل متفاقم ومتزايد. العودة إلى الانتماءات التّقليديّة ليست كما كانت قبل الدّولة. هي في الحقيقة ليست الانتماءات التّقليديّة من حيث هي انتماءات تقليديّة. هي انتماءات بمحتوى جديد. مثلا القبيلة الّتي نتحدّث عنها قبل الأدْولة ربّما هي ليست القبيلة الّتي نتحدّث عنها الآن والفئات أو الشّرائح الّتي نتحدّث عنها قبل الأدولة ليست هي نفسها. هي إعادة استثمار رمزيّ لانتماءات تقليديّة في أفق تسليع حداثيّ وفي إطار دولة لم تخلق اقتصادا إنتاجيا وإنّما اعتمدت على اقتصاد رَيْعِيّ في بلد شحّيح الموارد وأصبحت فيه الفئات الّتي بدأت تمتلك طموحات، خصوصا الطّبقة الوسطى أو شبه الطّبقة الّتي يُفتَرض أنّها أصبحت وسطى، تغذّي وتنمّي حثيثاً طموحات لا تتمتّع بوسائل إشباعها وبالتّالي تزداد حرصاً على توظيف المفردات التقليدية لشرعنة حصولها على مزيد من الامتيازات الريعية لإشباع ما استطاعت من هذه الطموحات المتصاعدة، أيْ تزداد حرصاً على خوصصة أكبر للريع العمومي. أصبح هنالك سباق على استثمار المفردات التقليدية لاكتساب هذه الامتيازات، أي للحصول على أكبر جزء من الريع العمومي. يكفي التأمّل فيي هذه السوسيولوجيا الطريفة والكثيفة الدلالة هنا : أعني ما يمكن أنْ نطلق عليه سوسيولوجيا التعيين وسوسيولجيا المراسيم الرئاسية والحكومية وأنتروبولوجيا أيام الأربعاء. كل المؤشرات تدل على أن أكثر من ثمانين بالمائة من موظفي الدولة على كل الصعد، من الحكومة إلى قاعدة الهرم، ليس لهم عمل بالمعنى المهني التخصصي للكلمة. وبالتالي فإن معايير الاستقطاب والصعود في المناصب غير معنية كثيرا بالمهنية والكفاءة والمهارة إلخ. بعبارة أخرى فإن الأمر يتعلّق بتحاصص امتيازي على الحصول على أعلى نسبة من الريع. ما يسمى محليا بالتعيين - وهي كلمة أصبحت تتمتع في التداول اليومي باستقلال دلالي لا تخطيه الأذن - معناه أساساً في السياق الموريتاني ما يسميه ابن خلدون "الجاه المفيد للمال". ولكن هذا التحاصص لا يمارس فقط عنفاً ماديا ولكنه يمارس تزامنيا عنفاً رمزيا شديدا عبر المفردات التقليدية على ضحاياه. ومن هنا فإن الفئات التي وجدتْ باب الطبقة ـ مجازا ـ الوسطى مغلقا أمامها أدركتْ أنه عليها هي أيضا القبول صراحة أو ضمنا بالمبدأ المكرّس هكذا واستثمار المفردات التقليدية (الشرائحية، الجهوية، العرقية وطبعا القبلية إلخ) ورسملتها لتستطيع الدخول عبر التنازل لها كرْها عن بعض الامتيازات. هذه الامتيازات أصبحت إذاً مرتبطة بالانتماءات التّقليديّة أوْ يُحاول أن تُرْبَط بما يمكن أن نسمّيَه مفردات تقليديّة محدَثة و إلى حدّ ما مزيفة. هذه المفردات التقليدية هي في الحقيقة سِلع خُلِقَت من خلال تسليع الانتماءات التّقليديّة تسليعاً يناقض طبيعتها الماقبل حديثة والماقبل دولتية. وهذا بالتّأكيد يشكّل خطرا كبيرا على المستوى التّحديثيّ لأنّ مرحلة التّحديث الّتي مرّت بها كثير من دول العالم لم يمرَّ بها هذا البلد.
والعالم بشكل عامّ مع أفق الرّأسماليّة التّواصليّة هو الآن في مرحلة جديدة إلى حدّ ما تتجاوز حتّى في معاقل الدّول الوطنيّة مستويات الدّولة الوطنيّة ولا توجد أيّ دولة وطنيّة الآن قادرة على مواجهتها. ولا توجد أيّ دولة وطنيّة في العالم تعرف إلى أيّ مسار ستدفع هذه الرّأسماليّة التّواصليّة الآن الّتي هي في الحقيقة، مثلما نشهد ذلك في الشّرق الأوسط، لم تعد تنظر إلى الدّولة التّقليديّة كوسيلة. كانت الدّولة التّقليديّة الوطنيّة وسيلة من الوسائل. الآن أصبحت الرأسملية الراهنة، أي الرأسمالية التواصلية، تبحث عمّا يتجاوز هذه الدّولة التّقليديّة. مثلا بعض الملِّيشيّات أكثر فاعليّة بالنّسبة لها. إذا تحدّثنا عن الجماعات المتطرّفة في الشّرق الأوسطـ، مثلا ما سُمِّي بتنظيم الدّولة الإسلاميّة إلخ.، يمكن أن نقول إنّها إنتاج هذه الرّأسماليّة التّواصليّة، ليس بالمعنى المباشر ولكن بالمعنى السياقي. ويمكن أن نقول إنّ الرّأسماليّة التّواصليّة ربّما مُصِرّة على وجودها أوهي على الأقلّ تنسجم معها انسجاما كبيرا. والطّريقة الّتي تُمَسْرِح بها هذه الحركات العنف والطّريقة الّتي تُمَشْهِدُه بها إلى آخره وتحوِّله إلى سلعة قابلة للاستهلاك المباشر بالتّأكيد أنّها تنسجم مع المرحلة الحالية للرأسمالية المابعد دولتية. هذا خطر يهدّد حتى الدول الأكثر صلابة، والمجتمعات الأكثر تماسكا.