إعلان

تأبين خاص بمناسبة أربعينية أمير الفن الراحل سيداتي ولد آبه

ثلاثاء, 11/26/2019 - 01:56

بقلم: الأستاذ محمدن ولد اشدو

 

بعض ما كتب وقيل، في تأبين أمير الفن المعاصر، الفنان العظيم سيداتي ولد آبه، الذي وافاه الأجل المحتوم في غيابي، فوجدت من واجبي أن أؤبنه تأبينا يليق به، وأن أتقدم من خلال تأبينه بالملاحظات التالية؛ وفاء لقدره ومكانته الفنية والأدبية والاجتماعية، وإحقاقا للحق، وأمانة مع التاريخ.

أولا: سيداتي ليس "أبا الموسيقى الموريتانية" كما ادعى بعض "المؤبنين" وإنما هو مجددها؛ فالموسيقى الموريتانية أقدم بكثير من فترة نبوغ سيداتي رحمه الله، ولها آباء كثر نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: اعلي انبيط ولد حيبلل، وأبناء مانو (البو والخو ومحمد بَبَّ) وسيد أحمد ولد آوليل، وسدوم ولد انجرتو (الجد الأعلى لسيداتي) وغرظه، رحمهم الله جميعا وجازاهم عنا أحسن جزاء. ولا بأس هنا في الاستدلال بأسطورة نشأة "أزوان" في الحوض، وبلوغه سن الرشد في تگانت، واكتمال رجولته في القبلة؛ فهؤلاء الذين ذكروا فوق من مختلف أنحاء الوطن، هم آباء الموسيقى الموريتانية - دون منازع- عبر نشأتها وارتقائها، أيا كان مدى صحة تلك الأسطورة.

ولنا في رواية الشيخ المبروك ولد بَبَيْ رحمه الله، التي من رواتها القاضيان والأديبان الفاضلان أحمدُ ولد عبد القادر، أطال الله عمره، وسيداتي ولد حمادي رحمه الله، أكبر دليل على صحة هذا القول؛ خاصة إذا علمنا أن المعيار المتبع عند الشيخ المبروك هو الأصالة  والتشبث بإرث الآباء المؤسسين لا غير. فقد سئل الشيخ المبروك ولد ببي وهو في علم موسيقى البيظان من أقران الشيخ سيدي عبد الله ولد الشيخ المهدي والشيخ السالك ولد الحاج والشيخ محمد محمود ولد عبد الرحمن، وإن لم يعاصرهم، عن طبقات الفنانين المعاصرين، وكان ذلك في أوج اعتلاء سيداتي - رحمه الله- عرش الفن في موريتانيا، وما أنجزته الإذاعة الوطنية على يد عميد الأدب الحساني الأستاذ محمدن ولد سيد إبراهيم من تعريف بكنوز الموسيقى الموريتانية وجهابذتها، فقال من جملة ما قال لما سئل عن سيداتي ولد آبه: سيداتي ليس "إيكيو" (فنانا) وإنما هو "جباب" (مطرب) ملأ الدنيا وشغل الناس؛ من نمط خوضه، ولكن "استگوي، وأزوان" (الفن) شيء آخر.

وسئل عن سيدي ولد دندني وكان في أوج ظهوره على الساحة الفنية فقال: سيدي ليس فنانا؛ بل "نشاد". أشبه ما يكون بفتى من أهل المبارك أصدر شوله أصيلا من آگماط أو شهله فاستوى على ظهر ناقته فهب عليه نسيم عليل فأخذ يترنم بأبيات من شعر غيلان!

وقال عن أهل اباشه لما سئل عنهم: إذا رأيت فنانا أسود كالفحمة، أصمع الأذنين، صوته كصوت الدب ويعزف روائع من الألحان لا يقدر على عزفها بشر، فاعلم أن انتماءه لأهل ابَّاشه صحيح لا جدال فيه؛ أما إذا رأيت فنانا أبيض اللون كبير الأذنين جميل الصوت ولا يجيد العزف على التيدنيت، فاعلم أن انتماءه لأهل اباشه غير صحيح!

ولكن المبروك لما سئل عن أهل النانه قال: "يا اوليدي" مبلغ علمي هو أنك إذا سمعت أحدا منهم يغني فإنك ستتأكد أن من يغني ليس بيظانيا بل "إيگيو".

 

ثانيا: ما هو سر عظمة سيداتي ولد آبه رحمه الله

مما لا شك فيه أن الله - عز وجل- قد حبا الثنائي الأسطوري سيداتي ولد آبه ومنينه بنت أيده (رحمهما الله) جمال الصورة والصوت، ووهبهما القبول والنصر (وما كوكبا الفن ديمي - رحمها الله- وكرمي - مد الله في عمرها وزادها تألقا- إلا خطي من ذلك الوشيج) فهيأهما ذلك في فترة تاريخية فارقة (وخاصة هو) للقيام بأدوار تاريخية، مثل تلحين وغناء النشيد الوطني، وأداء أغنية الترحيب بالأوقية وترويجها. ولكن سر عظمة سيداتي لا يكمن في ذلك كله، ولا في أبوته للموسيقى الموريتانية التي بينا افتقارها للأساس آنفا؛ بل إن سر عظمته وخصوصيته التي ميزته عن غيره وبوأته الجلوس على عرش الفن آنئذ هي شخصيته المستقلة المتميزة، وابتعاده عن التقليد، والتزامه بالتجديد ومسايرة العصر، وتشبثه بقيم العفاف (لا يهجو) والقناعة وعزة النفس (لا يطمع) والكرم والذوق الرفيع المتمثل في الحرص على انتقاء النصوص التي تجمع بين الجزالة والبساطة وعدم خدش الحياء الجمعي، ونقاء المجلس! فهو أول من غنى أبيات الإمام الشافعي ووعاها واتبعها، وهي:

نق المجالس من غليظ الطبع إن ** رمت الغنا أو غيره من مؤتنس

لا بد من ظرفاء أهــــل نباهـــة ** كالأصمعي وجميل بثنة أو أنـس

وشموس صحو مائـــسات خرد ** خرس خلاخلها أنيفات النـــفس

بيض رخيمات الكلام كعــــــزة ** وبثينة وأميـمة ذات اللــــــــعس

إياك، إياك المــــــجالس غير ذا ** إن البياض قليل حمل للــــدنس!

فرغم أنه في زمن نبوغ سيداتي ولد آبه كانت توجد قمم فنية شامخة حباها الله بأعذب الأصوات والألحان، وأعطاها القبول والنصر، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: أحمدُّ والمختار ابني الميداح، ومحمد عبد الرحمن بن انگذي، والشيخ سيد أحمد البكاي ولد عوه، وأخته فاطمه، والشيخ ولد ابّاشه، وأحمد ولد بوبه جدو، والجيش ولد محمادو، ومنينه بنت اعلية، وتكيبر بنت أعمر امبارك، وناصرها الله بنت انغيميش، رحمهم الله جميعا.. وأمثالهم. وأن الظروف واتت كلا من أحمدُّ ولد الميداح والجيش ولد محمادو ومنينه بنت اعليه ليسيروا في مقدمة ركب الحداثة والتجديد؛ حيث التحق الأولان بالمعارضة وسافرا باكرا إلى الخارج، وخرجت منينه باكرا من شرنقة البادية والحي لتلتحق بالمدينة، فإن دور ريادة الحداثة وتجديد موسيقى البيظان قد أصبح يومئذ من نصيب سيداتي ولد آبه وحده. وإذا أردنا أن نشرك معه فيه أحدا فسيكون الفنانة ناصرها الله بنت انغيميش رحمها الله.

ولقد اضطلع سيداتي بالمهمة التاريخية الملحة وسخر في إنجازها صوته العذب وعبقريته الفذة وخلقه الرفيع ومعارفه الجمة ومخزون مدرسة تگانت الفنية وثقافة الرشيد، وامتطى باكرا وسيلة الإعلام العصرية المتاحة يومها: الإذاعة الوطنية التي خدم من خلالها الكيان الوطني الوليد الذي احتضنه وعرَّف به وتماهى معه، وخدمته هي فعرفت به وأخرجته من جُب القبيلة ومحيط ولايته النائية المعزولة، ورمت به في أتون معمعة الاستقلال الوطني وبناء الدولة الموريتانية، والمحيط الجمعي، والعالم أيضا.

 

ثالثا: النهج السيداتي الوسطي

نعم، لقد تربع سيداتي بصوته وفنه وقيمه على عرش الفن مع بزوغ الدولة الموريتانية دون منازع، وعقد له الجمهور اللواء يوم ارتبط صوته العذب وفنه المتميز واسمه السلس بالكيان الوطني الجديد بقدر ما ارتبط به اسم بانيه المختار ولد داداه رحمه الله، وأصبح البدو الرحل في "الفرگان" (وهم الأغلبية الساحقة يومئذ) الذين لا تجمعهم جُمعة، ولا يتجمهرون إلا في مناسبات اجتماعية نادرة، أصبحوا يتحلقون كل ليلة اثنين حيث يوجد مذياع (راديو) لم يعد يخلو منه حي لنفس السبب وصار ضرورة وعلامة على النبل والرقي الاجتماعي. ورغم حسن صورة وصوت سيداتي ورفيقة دربه منينة بنت أيد رحمهما الله، فإن رومانسية ووسطية مدرسة تگانت المختلفة عن مدرستي الحوض والقبلة كان لها دور أساسي في حصول ذلك الثنائي على قصب السبق الذي حصل عليه؛ إذ بينما ظل الحوضيون متشبثين بـ"زُمْنية" وأصول فنهم وطرقه الموغلة في القدم، وعراه المتصلة اتصالا وثيقا بتاريخ وملاحم أولاد امبارك، وإذا عرجوا على الشعر فلماما "ليشوهدوا بتا" فتتراوح شواهدهم من زارت علي على شحط النوى سحرا" إلى "علامة النصب والحرف والآية" ضرب سيداتي عن ذلك صفحا رغم أهميته، وجعل يقدم "ادخولات" بسيطة وأشوارا فولكلورية خفيفة لطيفة مقتبسة من جل الجهات والأوساط الاجتماعية والطرق الصوفية، وتكون أكثر تناغما مع الحياة الجديدة البسيطة، وكأنه يعلن ثورة شعارها "الفن للشعب" ولم يُغَنِّ من مدح "العرب" سوى "اطلع" سدوم الصغير في الأمير أحمد ولد الداه؛ ربما لقرابة سدوم منه ولروعة ذلك النص. ولما كانت مدرسة القبلة هي الأخرى حبيسة في مقدماتها (ادخولات) لابن وهيب: بيت المدح وبيت العيش، ولبحور الكامل والوافر والبسيط والرمل.. الخ، ولا ذكر في "أزوانها" للعرب بني حسان في غير اتهيدين الذي يخصهم في الگبلة دون غيرهم! فقد اتجه سيداتي بدل ابن وهيب وغيره في مجال المديح النبوي إلى قصائد البرعي الرقيقة الشجية، وإذا غنى للحب والبين فشعراؤه: غيلان والمجنون ويزيد بن معاوية! ومع أنه لم يهمل "ازريكه" (مزيج الفصحى والحسانية في الشعر) لما لها من طلاوة وحلاوة في الآذان وما تحظى به من حميمية وألفة لدى مجتمع البيظان لقربها من دارجته وغنائه، إلا أنه أخذ منها لطيفها هي الأخرى وجانب الفتوة منها، مثل قطعة محمد عبد الله ولد اكليب رحمه الله التي يقول فيها:

لقد كان لي عظم مفيد لمن يكــــمو ** وسميته بالصاع يا حبـــــذا الإسم

فوائده جاءت على حـــــد أربـــــع ** وقيل بها خمس تضمنها النـــــظم:

جواد  سخي واسع غير ضــــــيق ** وتكوى به هند وتكــوى به نــــعم

على ظاهر الكفين طــــورا وتارة ** على المعصم الريان زيد لها وشم

ولا بأس في شرب الدخان سفاهـة ** وليـس على الفتيان في شربها إثم

وما جاء في القرآن تحريم شــربه ** وما ليس في القرآن ليس له حـكم

وأفضل كسب المرء حال حــياته ** زناد وبيت والتمــــيشة والعــــظم.

وحاولت أوساط فنية عديدة، بعد أن فاتها الأوان، منافسة سيداتي وتقليده فما استطاعت؛ كما حاول شعراء وأدباء كثر بلوغ كنهه والتعبير عن مداه. ولكن محاولاتهم العادية لم تَرْقَ إلى الإحاطة بقدره غير العادي! ووحده مثقف وكاتب وشاعر غير عادي وفق في التعبير عن مكانة أمير الفن الحديث في موريتانيا الجديدة؛ إنه الأستاذ أحمد بابه مسكه في قطعته الرائعة التي يحتفي فيها بمقدم الفنان، ويأسف على ثنائية اللقاء بدلا من ثلاثيته، ومنها اقتبست عنوان هذا التأبين، وهي:

يا مرحــــبا بالمــــعجز الأذهان ** إدراك كنه مـــــــــداه في المــيدان

يسقي القلوب رحيق خمر يا لها ** من قرقف شـــــــربت مــن الآذان

أنَّى أعبر عــــــن مداك وقد بــدا ** سيداتي أنـــــــك معجز الأذهـــان

عجبا لصوتك ما ألذ ســـــماعه ** في نـــفس هـــذا العاشق الولـهان

وأمرّه؛ إذ قد تــــــجاوز حسنه ** حســـنا تــــجاوز طاقة الإنـــــسان

"والشيء إن بلغ التمام سما إلى ** فلك به يتـــــشابه الضـــــدان"

ليتي سعدت بقرب من أحببــــتها ** مثلي تـسر بهــــذه الألــــــحان

لكن هذا الدهر أبخل بالمـــــــنى ** من أن يـقرب منكــــــما في آن!

ذلكم هو أمير الفن العبقري المجدد.. سيداتي ولد آبه رحمه الله، وذلكم هو سر عظمته، ونهجه الفني الرائع، وهذا هو المثقف الوحيد الذي استطاع الإحاطة بكنه ذلك الفنان العظيم والتعبير عن عبقريته وعظمته في أروع نص أدبي غزلي وجداني وفلسفي غير مسبوق! فرحمهما الله رحمة واسعة وبارك في خلفيهما وألهمهم الصبر والسلوان؛ إنه سميع مجيب.