أدي آدب
أعزائي القُرَّاء أدْعوكمْ لوففةٍ وجدانية ووجودية أمامَ هذا العُودِ الصغير،الذي رافقَ الرُّعاةَ،منذُ النَّشْأةِ البدائية الأولى،وتحَكَّموا-من خلالِ ثُقوبِ قَصَبَتِه الضيقة- في شَواردِ القطيع،تسْخيرا، وفي أوابدِ الشُّعورِ تعْبيرا،وفي غوامض فلْسفةِ الوُجود تصويرا .
وياطالما حلمتُ بأنْ يَنُفَخ الشاعرُ في حُروفه الرُّوحَ التي طالمَا نَفَخَهَا الزامرُ في قَصَبَتِه،بكلِّ أسْرارها العجيبة،وكنتُ أشْعُرُ أنَّ الشُّعَراءَ لمْ يُوفوهُ حَقَّه،حيث حاولَ جلال الدين الرومي تَلَمُّسَ بَعْضِ أسْراره،وأشارَ جبران خليل جبران إلى أنِينِه الوجودي الخالد،غيْرَ أنَّ كلَّ تلك اللَّفَتَاتِ لم ْتُعَبِّر ْعنْ كُنْهِ شُعوروي تجاهَ الناي،ولا عنْ تَصَوري لفلسفته،حتي تنزَّلتْ -ذاتَ ليْلةٍ- هذه القصيدةُ فجْأةً،في لحْظةِ تَجَلٍّ غريب،عبَّرتُ عنه هكذا:
يا عازف َالنَّايِ .. إسْرَافيلُ..والصُّورُ
أرَاهُمَا..فِيكُمَا.. إذْ حَصْحَصَ النـُّورُ
ما كنتُ أفهَمُ فِعْلَ النايِ..فِي خَلَدِي
حَتىَّ تجَلَّى لِرُوحِي المُلْهمُ الطـُّورُ
رُوحـِي..ورُوحُك..رُوحُ النَّاي..مَلْحَمَةٌ
زَبُورُهـَا..بنشِيجِ النَّاي..مَسْطُـورُ
النَّايُ.. مَجْرَى صَدَى الأرْوَاحِ..يَعْزفهَا
بَيْنَ الأنامـــلِ .. تقتِيرٌ.. وتحـْـــرِيرُ
فالمُصْمَتَاتُ..بجَوْفِ النَّاي..حَشْرَجَةٌ
والمُرْسَلاتُ.. لهَا -بالرِّيـــحِ- مَزْمُورُ
الرِّيـحُ..تَبْحَثُ عَـنْ نَـايٍ.. يُمَوْسِقُها
فخارجَ النَّاي..عَزْفُ الرِّيحِ..مَنْثورُ
الرِّيحُ..والرُّوحُ- فِي مَعْناهُمَا-نَفـَسٌ
والنَّايُ..كالْجسْمِ..بالأنفاسِ..مَعْمُورُ
النــَّايُ..أبسطُ عُودٍ.. دُونَ عازفهِ
إنْ يَبعثِ الـرُّوحَ فِيهِ.. إنهُ الصُّـور
وعازف النَّاي.. دُونَ النَّاي.. طِينـَـتُـهُ
لمْ يَنفث الرُّوحَ.. فِيهَا.. طِينةٌ بُـورُ
النَّـايُ.. يَشْرَبُ سِرَّ الرُّوحِ..خَمْـرَتـَهُ
فإنْ تَـنفّـسَهَا.. فالكَوْنُ.. مَخْمُـــورُ
النَّايُ..يَعْصرُ إحْسَاس الوُجُودِ..صَدًى
فـكُلُّ قلْبٍ-بصَوْتِ الناي- مَعْصُــــورُ
انظرْ .. لشـبَّابَةِ الرَّاعِي ..إذا نُفخـَتْ
يَهْفـُو القطيعُ لـَهَا ..أعْناقـُهُ صُـــــورُ
النَّايُ..يَنْدُبُ عَهْدَ الرَّتْقِ..مُذْ فُتِـقـَتْ
عَنَاصِرُ الكوْنِ..قلبُ النَّايِ..مَشْطورُ
النَّايُ.. تشْكُو سَحِـيقَ النأي زَفْرَتـُهُ
لذاك سَمَّوْهُ ..فهـْوَ-الدَّهْر-مَصدُور
النَّايُ..مِنْ سِدْرَة الخُلْدِ التي سَحَرَتْ
قِدْمًا ..أبَانَا..فأيْنَ الخُلدُ والحورُ؟
النَّايُ.. يُعْــولُ .. تذكَـارًا لمَنْبـتِـــهِ
كَمَا يَحِنُّ..لدَى الهجْرَان .. مَهْجُورُ
وعازفُ النَّاي..يَحْكِي صَوْتَ"كُنْ"..أزَلاً
كُلٌّ ..عَلَى تَوْقِهِ لِلأصْلِ.. مَفطُورُ
ياعازفَ النَّاي..عُجْبِي..حِينَ تَلثمه
أنْ لا يَدبَّ بعُودِ النَّاي يَخْضُــــورُ!!!