لم يحظ موضوع بعناية الشعراء أكثر مما حظي موضوع التقدم في العمر، ولم يبك الشاعر العربي شيئا مثلما بكى أيام الشباب وانحسار القوة والعنفوان، ولم يجزع لشيء مثلما جزع لحلول المشيب، وما يصاحبه من الضعف والعجز. ولعل هذا ما جعله يتحامل على الزمن أو الدهر، ويرى أنه السبب وراء كل ما يجرى له من تبدل وتراجع.
لذلك ظلت علاقة الشاعر بالزمن علاقة متوترة، فهو قلما يرضى عنه أو يهادنه،.وكثيرا ما جعله الإحساس بتأثير الزمن عليه، يتوقف ليرى ما حدث له، مستمدا العبرة والحكمة من تقلباته وتحولاته.
وقد علل المتنبي أسباب حزن الإنسان كلما تقدم به العمر تعليلا منطقيا، حيث رأى أن متعة الحياة لا تكون إلا مع توفر الصحة والشباب، فإذا انحسرا لم يعد للعيش لذة ولا لاستمراره معنى:
آلة ُ الْـعَـيْـشِ صِحَّةٌ وشَبَــابٌ @ فَـإذَا وَلّيَــا عَـــــنِ الْمَرْءِ وَلّى
وَإذَا الشَّيْـخُ قَـالَ (أُفٍ) فَــمَــا @ مّلَّ الحياةَ وإنَّمَا الضُّعْـفَ مَلَّا
ولذيذُ الحياةِ أَنْفَسُ فِي النَّـــــفْـــــــسِ وَأشْهَى مِنْ أَنْ يُمَلَّ وَأَحْلَى
إن تراجع الشباب من الموضوعات الوجدانية التي عبر عنها الشعراء بحسرة وألم، ومن أكثر من توقف عندها ابن الرومي الذي رأى في تولي الشباب فقدا يستلزم أن يُعزَّى الإنسان فيه:
أّأُفْـجَـعُ بِالشَّـبَـابِ وَلَا أُعَــزَّى @ لَقَـدْ غَـفَـلَ الْمُعَـزِّي عَـنْ مُصَابِي
ولا شكَّ أن تولي هذه الفترة هو إيذان بالتحول على المستويين الفيزيولوجي والنفسي، وبداية لتراجع القوى البدنية والذهنية، مما يجعل الشاعر شديد الحساسية تجاه تلك التحولات التي تحدث له، والتي تتطلب تغييرا في السلوك ومراقبة للنفس.
فما كان يصلح له لم يعد يصلح، وما ظل يليق به في سن الشباب لم يعد يليق به في مرحلة الاكتهال ، فلكل فترة عمرية متطلباتها و مقتضياتها.
كل هذه الأسباب تجعل مرحلة المشيب مرحلة فارقة في حياة الشاعر؛ خاصة وأنه الإنسان المرهف الإحساس، البليغ التأثر بالأحداث، لذلك ما إن تلوح أولى تباشير الشيب في شَعره حتى يبدأ في التأسي على ربيع العمر الذي ولى والقوة التي تراجعت والزمن الذي لا يمكن استرداده.
ولعل هذا الإحساس المأساوي الحزين راجع إلى خوف الإنسان الفطري من النهاية، فما إن يتبدل سواد الشعر بياضا ، حتى يدق ناقوس الخطر، ويعلم أنه أصبح أسيرا للحظة الفناء.
ولذلك ربط الشاعر كثيرا بين المشيب والموت، ورأى أنه نذير له وباب مشرع إليه.
هذا ما يعبر عنه الشاعر مسلم بن الوليد حين يرى أن الشيب إذا حل بدار لا يرحل حتى يأخذ معه صاحبها:
لاَ يَـرْحَلُ الشَّـيْـبُ عَـنْ دَارٍ أَقَـامَ بِهَا @ حَـتَّى يُـرَحّلَ عَـنْهَا صاحبَ الدَّارِ
إن ولع الإنسان بالحياة يجعله ينفر من كل ما من شأنه أن يحد منها أو يضع نهاية لها، رغم أن الموت ملازم للحياة، وأن الإنسان خلق ليفنى، ولكن طول الأمل الذي جُبل عليه المرْء يشده دوما إلى البقاء، ويجعله يعاند هذه الحقيقة.
هكذا استقبل الشعراء المشيب استقبال ضيف غير مرحب به، يحل ليفقدهم أعز ما يملكون من شباب وصحة وحب، يقول يزيد بن الحكم:
ألَا لَا مـــرحبًا بفِــراقِ ليلَى @ ولا بالشيبِ إذْ طَرَدَ الشَّـبَـــــابَا
شبابٌ كانَ مَحْمُوداً وشيــبٌ @ ذميمٌ مَا أرَى لهمَـــا اصْطِحَـابَا
وارتباط الحديث عن الشيب بذكر المرأة ، مطرد لدى الشعراء، فقلما يذكر المشيب إلا واقترن بذكر المرأة، فهي شريك الحياة الذي لا يمكن أن يستغني عنه الشاعر، لذا كان هاجسه الأول عندما يشيب هو صدودها عنه أو رفضها له، وهو ما يجعله يحرم فيض الحنان الذي ظل ينعم به إلى جانبها أيام الشباب.
وهاجس صدود المرأة يجعل الشاعر يتحامل عليها، فيذكرها ببطولاته وإنجازاته، ويصفها بالغدر وعدم الوفاء؛ وهو ما أثبته علقمة الفحل الشاعر الجاهلي، وصاغه في شكل مسلمة رائجة؛ مصورا تأثير المشيب على الحياة العاطفية، وكيف يصبح الرجل مرفوضا من طرف الحسان بعد أن كان مرغوبا:
وإنْ تَسْأَلُــــونِي بِالنِّـسَـاءِ فَإِنَّنِـــي @ خبيرٌ بأسرارِ النساءِ طبيبُ
إذا شابَ رأسُ المرءِ أو قلَّ مالُهُ @ فَـليْسَ لَهُ مِنْ وِدِّهِنَّ نصيبُ
إن الشاعر يرى في الشيب والفقر عاملين لا يتركان للرجل مكانة في قلوب النساء مؤكدا بذلك العلاقة بينهما؛ فالتقدم في العمر يؤدي إلى العجز البدني عن العمل والكسب، كما يؤدي إلى العجز الذهني عن التفكير والتدبير.
وبذا ينصب علقمة نفسه خبيرا بنفسية المرأة، ويجعل منها نموذجا للانتهازية وتقلب العواطف، فهي لا تمنح ودها إلا للشاب الغني.
ورغم تحفظنا على هذا الحكم القاسي، فإنه يُظهر ارتباط المشيب لدى الشاعر بابتعاده عن عالم جميل طالما أحبه وركن إليه.
ويمثل التحسر على مرحلة الشباب جزءا من الحديث عن المشيب، وكثيرا ما يجري الشاعر مقارنة بين الفترتين متأسيا على الأولى ورافضا الثانية؛ فالشاعر الفرزدق يستسلم للمشيب متحسرا ويرى فيه بضاعة خاسرة، تختلف عن بضاعته الرابحة التي كانت معه أيام الشباب؛ إنها نظرة مادية تعتمد مبدأ الربح والخسارة:
إنَّ الشبابَ لَرَابِحٌ مَــنْ بَاعَــــــهُ @ والشيبُ ليسَ لبائعيهِ تِجَــــارُ
وليس الفرزدق وحده من بكى الشباب وصرح بحزنه على فواته، فهذا الشاعر الزاهد أبو العتاهية، يندب الشباب ويصف تولي أيامه في صورة رائعة متمنيا لو يستطيع استعادته:
بَـكَـيْـتُ عَلَى الشَّبابِ بِدَمْـعِ عَيْنِي@ فَـلَمْ يُغْـنِ البـكــاءُ ولا النَّحِـيـبُ
فَـيَــا أسَـفًـا أسِفْـتُ عَـلى شَــبَـابٍ@ نَـعَـاهُ الشَّـيْبُ وَالـرَّأْسُ الْخَضِيبُ
عَـرَيْـتُ مِنَ الشَّبَـابِ وَكَـانَ غَضَّا @ كَـمَا يَعْـرَى مِنَ الْـوَرَقِ الْقَـضِيبُ
فَـيَـا لَـيْـتَ الشَّبَــابَ يَـعُـودُ يَـوْمــاً@ فَـأخْـبِــرُهُ بِـمَا فَـعَـــلَ الْـمَـشِـيـبُ
إن وقفة أبي العتاهية عند هذا التحول في حياته تحمل بعدا إنسانيا عميقا ، يعبر عن إحساس كل إنسان حين يتقدم به قطار العمر، فيتمنى أن يسترد الماضي ويرجع أيام قوته وفتوته، وهي لا شك أمنية يستحيل تحققها مهما فعل الإنسان، أو حاول أن يمحو آثار الزمن، وقد عبر الجاحظ عن ذلك خير تعبير بقوله:
أترجُو أنْ تكونَ وأنتَ شيخٌ @ كما لو كنتَ أيامَ الشبابِ
لقد كذبتكَ نفسُكَ ليسَ ثوبٌ @ خَلِيقٌ كالجديدِ منَ الثيابِ
وغالبا ما يتحدث الشاعر عن المشيب من خلال حوار يجريه مع المرأة، فقد ارتبط المشيب لدى أغلب الشعراء كما أسلفنا بالخوف من هجران المرأة لهم أو بتهكمها عليهم، رغم أن هذه المرأة غالبا ما تكون شخصية يجردها الشاعر من ذاته ليجد من يتحدث إليه ويحاوره، فهي تظهر في بعض الأحيان رمزا للنفس الناهية التي توجه صاحبها إلى العمل الصالح؛ أو هي العقل الباطن الذي يرشد الإنسان إلى ما فيه الخير والسداد، ويحذره مما سوى ذلك.
يقول الفرزدق :
وَتَقولُ كيفَ يميلُ مثلُــكَ للصِّبَــا @ وعليكَ من سمةِ الحليمِ عِـذَارُ؟
والشيبُ ينهـضُ في الشبابِ كأنَّهُ @ ليــلٌ يصيــحُ بِجَانِبَـيْـهِ نَهَــارُ
كما تتخذ الزوجة في بعض القصائد دور المرشد الذي ينصح الشاعر بالاستقامة في سلوكه، منبها إياه بأنه دخل مرحلة جديدة لا بد فيها من الحيطة والحذر؛ فالشاعر "السراجْ" ينقل لنا حوارا طريفا بينه وبين زوجته؛ التي تنهاه عن اللهو والعبث بعدما وخط الشيب رأسه. وحين يحاول تحسين صورة الشيب في عينيها ، تتهكم عليه تهكما لاذعا وتسخر منه:
وقالــــــتْ يا سراجُ علاكَ شيْـبٌ @ فَـدَعْ لِجَـدِيـدِهِ خَــــلْـــعَ الْعِـذَارِ
فقلـــتُ لهَـا: سِـــــرَاجٌ بَعْـدَ لَـيْــلٍ @ فَـمَا يَدعُــوكِ أنْـتِ إلَى النِّـفَـارِ
فَـقَـالَـتْ: قَـدْ صدقْـتَ وَمَا سَـمِعْـنَا @ بِأَضْـيَـعَ مِـنْ سِـرَاجٍ فِي نَـهَــارِ
وعزوف المرأة عن الشيب ورفضها صاحبه جعل بعض الشعراء ينتصر لنفسه وللشيب ويرد على المرأة ردا مفحما ومسكتا؛ فأبو دلف العجلي يعتز بالمشيب ويرى فيه هيبة ووقارا، وعنوانا للحكمة والنضج لدى الرجل، أما مشيب المرأة فيعتبره نهاية لحياتها الأنثوية.
تَـهَـزّأَتْ إذْ رَأَتْ شَيْـبِي فَـقُـلتُ لها @ لا تَهْـزَئِي، مَنْ يَطُلْ عُـمْـرٌ بِهِ يَـشِبِ
شَيْـبُ الرِّجَالِ لَهُـمْ عِـزٌ وَمَكْـرُمَةٌ @ وَشَـيْـبُـكُـنَّ لَـكُــنَّ الـــذُّلُّ فَاكْـتَـئِـــبِــي
و هذا الموقف الإيجابي من المشيب عند أبي دلف، قلما يظهر لدى الشعراء.
ويلجأ بعض الشعراء إلى حيلة فنية يبررون بها ظهور الشيب، وكأنهم يعتذرون بذلك لأنفسهم، مع العلم أن لا يد لهم في ذلك. فالشاعر الشجاع عروة بن الورد يحاول التخفيف من نزول الشيب برأسه، معللا ظهوره بكثرة الهموم والأحداث التي انتابته، وليس لسبب تقدمه في السن حين يقول:
فمَا شَابَ رَأْسِي مِنْ سِنِـيـنٍ تَـتَـابَعَـتْ @ طِـوَالٍ، وَلَكِـنْ شَـيَّـبَـتْـهُ الْـوَقَائِعُ
وقد يكون لرأي الشاعر نصيب من الصحة، فالشيب قد يظهر مبكرا لدى المرء، ولنا في بعض الشعراء أحسن مثال؛ فأبو تمام وابن زيدون فاجأهما الشيب في ريعان الشباب وكلاهما لم يبلغ الثلاثين.
وإذا كان المشيب قدرا نازلا لا محيد عنه، فإن التغلب عليه بالخضاب لم يرق للكثيرين.
فالشاعر ابن المعتز يعلن رفضه خضاب الشعر، ولا يرى فيه إلا خداعا متكررا للنفس، وفعلا لا جدوى من مزاولته:
يَا خَاضِبَ الشَّيْــبِ الَّذِي @ فِي كُـلِّ ثَالِـثَـةٍ يَـعُـــودْ
فَـدَعِ المشيبَ لِـمَـا أرَادَ @ فَـلَـنْ يَـعُـودَ كَـمَا تُـرِيـدْ
أما المتنبي فإن رفضه للخضاب يرجع إلى منظومة القيم التي ألزم بها نفسه؛ والتي ظل يفخر بها دوما؛ فهو يرفض كل مظاهر الكذب والزيف، وبالمقابل يرغب في كل ما هو صادق وصريح:
وَمِنْ هَـوَى كُـلِّ مَنْ لَـيْـسَـتْ مُمَـوَّهَـةً @ تَرَكْـتُ لَـوْنَ مَشِيبِي غَيْـرَ مَخْضُـوبِ
ومِنْ هَوَى الصِّدْقِ فِي قَوْلِي وَعَادَتِهِ @ رَغِبْتُ عَنْ شَعَرٍ في الرأسِ مَكْـذُوبِ.
وعموما فإن إحساس الشاعر بوطأة الزمن، وخوفه من النهاية، جعل الحديث عن الشيب يحتل مكانا بارزا في شعره، وارتبط ظهوره بفقد الكثير من متع الحياة، مما جعله يندب أيام الشباب، ويتمنى لو يستطيع استردادها، كما جعله هذا الإحساس بالتحول، يفكر في الدار الأخرى وينيب بالتوبة إلى الله.
لقد حملت تيمة المشيب في الشعر العربي قلق الإنسان من الفناء، وتمسكه بالحياة، وعبرت عن فلسفة عميقة تجاه الزمان، والحب والموت.
المصدر: (مجلة الحرس الوطني العدد 34/ العام 2015م)