احتفاء على مقدار قامة شعرية كبيرة
ودّعت مجلة "الشارقة الثقافية" التي تصدرها دائرة الثقافة في الشارقة، وتوزع على مستوى الوطن العربي، وتساهم فيها أقلام عربية كبيرة، في عددها الثامن عشر (إبريل 2018) بالشاعر الموريتاني الكبير محمد كابر هاشم من خلال مقال موسع معزز بصور ضافية، بقلم الروائي محمد ولد محمد سالم، ما يعكس المكانة الكبيرة التي حازها المغفور له بإذن الله، على المستوى العربي، والأهمية التي يحظى بها في الأوساط الثقافية العربية، وهذا نص المقال:
__
شاعر التأسيس للحداثة في موريتانيا
رحيل محمد كابر هاشم ابن مدينة النخيل والماء (تجكجة)
فقد الوسط الأدبي الموريتاني في 15 فبراير المنصرم، أحد أعمدته المؤسسين، الذين رعوه إبداعيا وتوجيهيا منذ إرهاصاته الأولى إلى أن ارتفع استوى واستقر شامخا، وهو الشاعر الكبير محمد كابر هاشم، الرئيس السابق لاتحاد الكتاب والأدباء الموريتانيين، وصاحب ديوان "حديث النخيل"، وابن مدينة النخل والماء والهضاب تجكجة، التي ولد بها سنة 1953.
قدم كابر هاشم إلى نواكشوط في بداية السبعينيات، وكانت عاصمةُ الدولة الناشئة حديثا يومها ملتقى للأدباء والمثقفين والساسة، وحضنا لتشكل الحركات الثقافية والسياسية، وملتقى للحالمين بدولة الحداثة والتنمية والثقافة، وكان محمد كابر هاشم مفعما بتلك الأحلام التي وصلته أصداؤها، وهو لا يزال هناك على هضبة تجكجة، مدينة العلم والعلماء، وإحدى الحواضر التي تمركزت فيها الإدارة الاستعمارية، وأنشأت فيها إدارة حديثة وافتتحت فيها مدارس مفرنسة، ما جعل أهلها من أوائل من خاضوا تجربة الصراع الثقافي بين قوة استعمارية تريد فرض ثقافتها ولغتها، ومجتمع مشبع بثقافة عربية إسلامية تقليدية، يسعى بكل وسيلة للحفاظ عليها، وتعزيزها، ورغم أن الصراع غير متكافئ ذلك المجتمع إلى حد بعيد في إبقاء ثقافته حية قوية، بتلقينها لأبنائه، وكان لا بد لكابر هاشم بحكم نشأته في بيت علم وأدب أن يتأثر بذلك الصراع الذي أدرك بقاياه مع بدايات دولة الاستقلال التي تفتقت معها إدراكه، وعندما دخل نواكشوط كان يحمل معه حظا وافرا من الثقافة التقليدية المشكلة من علوم اللغة والشعر والعلوم الشرعية، جلعه بشكل تلقائي يصطف مع المدافعين عن اللثقافة العربية، وينخرط سياسيا في صفوف الحركة القومية العربية، وظل حتى آخر لحظة مدافعا صلبا عن عروبة موريتانيا وعروبة ثقافتها.
حصل محمد كابر هاشم على الثانوية العامة، وعلى الدبلوم العالي من معهد الصحافة في مصر، وكان من أوائل من التحقوا بالإذاعة الوطنية، وقدم برامج ثقافية وتراثية ناجحة، سعى فيها إلى تعميم وتوثيق الثقافة الموريتانية التقليدية، وفي تلك الأثناء تعرف على حركة الحداثة الشعرية العربية، وقرأ لروادها، واحتك ببعض رموزها، مما شكل إضافة عميقة إلى معارفه الشعرية، وأثر في طبيعة الكتابة الشعرية عنده، فكان أن انطلق في شكل جديد من الكتابة الشعرية لم يكن معروفا لدى الأجيال الشعرية الموريتانية السابقة، وكان عماد هذا الشكل الجديد العدول عن الأغراض الشعرية التقليدية، والكتابة في موضوعات جديدة تتمحور حول الوطن والعدالة والحرية، والحقوق القومية للعرب، وموضوعات فلسطين، وكذلك استخدام مفردة شعرية حديثة تتماشى مع القاموس العربي المعاصر، والتخلي عن اللغة القاموسية التي كان يكتب بها الشعراء الشناقطة في العصور السابقة، ويبدو كابر هاشم أكثر تأثرا بالحركة الرومانسية العربية منه بغيرها من الحركات الشعرية الحديثة، وهذا مفهوم في تلك الفترة التي تكونت فيها موهبته الشعرية، فترة السبعينات، فقد المد القومي متصاعدا، وكانت موريتانيا تتلقى أصداء الحركة الرومانسية العربية في شكل كتب ودواوين، من قبيل ما كتبه العقاد والمازني وأبو شبكة وأبو ريشة ونزار قباني وغيرهم، وكانت الحداثة الشعرية التي قادها أودونيس وسعيد عقل وأنسي الحاج في مجلة شعر، لا تزال في بداياتها، ولم يشعّ تأثيرها كثيرا، يقول كابر هاشم من رائعته الشهيرة "حدث النخيل" التي اتخذ فيها النخل رمزا لموريتانيا ولعراقة عروبتها:
حَدّثَ النخـلُ قـال ذاتَ زمــــــــــانٍ *** كـان مهـدي للفاتحيـن مَقيـــــــــــــــلا
أكلـوا التمـرَ زادَهـم ونـــــــــــــــواهُ *** قد رمَـوْه فكنـتُ منـه النخيــــــــــــلا
حملوني من نبع «يثربَ» ذكـــرى ***من عبيرٍ تفـوح عطـراً جميـــــــــــــلا
طبتُ فرعـاً وموطنـاً وفصيــــــــلاً *** وقبـيـلاً ومنبـتـاً ومَـسـيــــــــــــــــــلا
كنتُ في المَحْل والخطوب رخـــاءً *** ومــلاذاً ومنـهـلاً سلسبـيـــــــــــــــــلا
كـان سَيْبـي للمعتفيـن مِجَـنّــــــــــاً *** دون عِرضي وكنتُ ظِلاً ظليـــــــــــلا
فَصَّلوا سمـتَ قامتـي وغَذَوْهـــــــا *** كبـريـاءً وعنفـوانـاً أصـيـــــــــــــــــلا
لـم أذق يومـاً للفسولةطعـمـــــــــاً *** مذ غذونـي ومـا نبـتُّ فسيـــــــــــــــــلا
عوّدونـي أن لا أرومَ انحـنـــــــاءً *** و لْيَكُ الجدبُ - لو يشاءُ - طويــــــــلا
قـدَرُ النخـل أن يظـلّ دوامــــــــاً *** رافـعَ الهـامِ أو يكـونَ قتـيــــــــــــــــــلا
ذاق محمد كابر هاشم مرارة السجن على أيام الرئيس محمد خونه ولد هيدالة الذي اصطدم بمعظم الحركات السياسية الناشطة في البلد، وزج بقادتها في السجن، وأذاقهم صنوف التعذيب، ولم يفرج عنه إلا بعد الانقلاب الذي قاده الرئيس معاوية ولد الطايع، وكان ذلك في شهر ديسمبر كانون الأول 1984، فكان أن انتشى الشاعر بتلك البادرة التي أعادت إليه هو وزملاءه الحرية، فكتب قصيدته الجميلة "كانون فجر"، وفيها يقول:
كانون فجر وإشراق وحمحمــة // ونجمة من نجوم المجد غــراء
كانون ملحمة العشـاق منقبــة // ونخلة فرعت في التيه معطـاء
النخل من قبله ضاقت عراجنــه // واستنزف النسغ والأمـلا والماء
ما إن ترى البسر في أعلى شمارخه // إلا وتسقطه نكبـــاء هوجـاء
به استطالت عجاف النخل باسقـة // واستأنست بحفيف البــان ورقاء
الخيل من قبله هجن مغارسهــا // لا الخيل خيل ولا البيداء بـيـداء
استغفــر إلا ما تناقلـــــــــــــــه // عن حرب "داحس" والغبراء " أنباء
من قبله "الأصمعي" أضحى مغمغمة // حروفه واستطاب اللحن فرّاء
دمع الحرائر كانون يكفكفــــه // فاليوم لا دمعة حرّاء خرساء
لكن نشوة الشاعر لن تطول، فلم يلبث نظام الحكم أن تحول إلى دكتاتورية ظالمة، ثم كان الانتقال التاريخي نحو الديمقراطية، وما صاحبه من تدجين لقادة الحركات السياسية التقليدية، بالإغراء بالمال والمناصب الرفيعة، وتداعى الكثير من رموزها إلى الحضن، لكنّ محمد كابر هاشم عفّت نفسه وكرمت عن أن ينخرط في الجوقة، وفي تلك الأثناء قد انصرف إلى العمل الثقافي من خلال إدارته لرابطة الكتاب والأدباء الموريتانيين، وكان الصراع الثقافي على أشده بين أنصار العروبة وأنصار الفرنكوفونية، فركز كابر هاشم اهتمامه للإبقاء على الرابطة كوجه بارز من أوجه الثقافة العربية في موريتانيا، ونجح في ذلك، وانسحب الكتاب الفرانكفونيون منها لتبقى لكتاب العربية وحدهم، ولتتحول إلى اتحاد الكتاب الموريتانيين، وظل كابر هاشم يديره لأزيد من ثلاثة عقود، لم يقبل خلالها أن يستغل الاتحاد استغلالا سياسيا أو يلوث وجهه الثقافي، رغم انعدام الدعم، وكثرة المتربصين بالاتحاد، وكانت فترة من أخصب فترات العطاء الأدبي، حفلت بالتجارب الشعرية والسردية الجديدة، وتعزز فيها حضور الأدب الموريتاني عربيا، وكما قال حبيب الصايغ الأمين العام للاتحاد العام للكتاب والأدباء العرب في رسالة نعيه "إن الراحل الكبير كان فاعلاً في الاتحاد العام، خلال فترة رئاسته لاتحاد موريتانيا، فقد شهدت هذه الفترة التي استمرت أكثر من عقدين، أزهى فترات الاتحاد الموريتاني بقوة العطاء وتدافع الأجيال الجديدة، التي رفعت راية القصيدة الموريتانية في كل المحافل الشعرية، وتعددت إصداراته ومنشوراته، وأصبح له حضوره المتميز في اتحاد الأدباء والكتاب العرب ومختلف الهيئات الثقافية العربية خارج البلاد".
كتب كابر هاشم القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة، وظل وفيا لمبادئه الثقافية والأدبية، متماهيا مع موقعه كمثقف عضوي ينصر القضايا الإنسانية الكبرى، ويدافع عن المظلومين، ويحتفي بالمقاومة، من قصائده الشهيرة تلك التي كتبها 1985، احتفاء ببطلة المقاومة "سناء محيدلي"، ومنها:
ﺤﺴﻨﺎﺀ ﻻ ﺘﺴﺘﻨﺠﺩﻱ
ﺘﺠلدي.. ﺘﺠلدﻱ
ﻭﺒﻌﺩ ﻤﺎ ﺘﺯﻭل ﺃﻜﺩﺍﺱ ﺍﻟﻅﻼﻡ
ﻭﺘﻅﻬﺭ ﺍﻟﻀﻔﺎﺌﺭ ﺍﻟﺤﺴﺎﻥ.. ﻤﻥ ﻓﻭﻕ ﺍﻟﻐﻤﺎﻡ
ﻭﺘﻤﺘﻠﻲ ﺃﺭﺽ ﺍﻟﺴﻜﻭﻥ.. ﺒﺎﻟﺯﺤﺎﻡ
ﺴﻴﻌﺭﻑ ﺍﻟﺭﺠﺎل ﻭﺍﻟﻨﺴﺎﺀ
ﺃﻥ ﻓﺘﺎﺓ ﺤﻠﻭﺓ ﻤﺜل "ﺴﻨﺎﺀ"
ﺘﻔﺠﺭﺕ.. ﻤﻥ ﺩﻭﻥ أبسط ﺍﺴﺘﻨﺠﺎﺩ ﺃﻭ ﻨﺩﺍﺀ.
ﻓﺴﻴﺩﻱ ﺍﻟﺴﻠﻁﺎﻥ ﻴﻜﺭﻩ ﺍﻟﻔﺩﺍﺀ.. ﻭﺍﻟﻨﺩﺍﺀ
ﻴﺼﺎﺩﺭ ﺍﻷﺤﻼﻡ
وﻴﺭﻜﺏ ﺍﻷﻭﻫﺎﻡ
ﻴﻘﺩﻡ ﺍﻟﺤﻼﺝ.. ﻟﻠﺠﻼﺩ
ﻓﻴﺼﺭﺥ ﺍﻟﺤﻼﺝ.. ﻓﻭﻕ ﺍﻟﺠﻠﺠﻠﻪ:
ﻜﻥ ﻤﻥ ﺘﺸﺎﺀ..
ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻤﻥ ﻁﻴﻥ ﻭﻤﺎﺀ
ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻤﻥ ﻁﻴﻥ ﻭﻤﺎﺀ
ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻤﻥ ﻁﻴﻥ ﻭﻤﺎﺀ.