حواء ميلود (*)
لم يحفظ لنا تاريخ الأدب العربي مخزونا شعريا كبيرا في مجال تغزل المرأة بالرجل وقد يرجع ذلك لطبيعة نمط التفكير السائد في المجتمع العربي، فكيف لهذا المجتمع الذي يرفض زواج المرأة بشاعر لمجرد أنه تغزل عليها أن يقبل تغزل المرأة بالرجل؟
ثم إن المرأة العربية عموما ترى في تغزلها بالرجل نوعا من الضعف والتذلل، وحسب المخيلة المجتمعية فإن المرأة يجب أن تظل قوية متمنعة ، متحكمة في عاطفتها، إلا أن كل ذلك لم يمنع من ظهور شعر غزلي نسائي خلال العصور الأدبية المختلفة من أيام أم الضحاك إلى ليلى الأخيلية و علية وولادة إلخ...غير أن نسبة هذا الغزل ظلت ضئيلة مقارنة بغزل الشعراء الرجال في الأدب العربي.
ولا يختلف المجتمع الموريتاني كثيرا عن المجتمعات العربية الأخرى، إذ رفض هو الآخر مبدأ تغزل المرأة بالرجل، ولذا اعتبر الفقهاء سكوتها عند استشارتها على الزواج موافقة وذلك لاستحالة تصريحها بالقبول، إلا أنه رغم ذلك ظهر نوع أدبي جديد من غزل النساء الموريتانيات يسمى "التبراع" و" التبراع" هو جمع "تبريعة" و"تبريعة" و"التبريعة" شطران لهما قافية واحدة ، ويرى البعض أن التبراع مجرد مرحلة من المراحل التي مر بها " لغن" الحساني أثناء تطوره.
ويقول الدكتور أحمد باب مسكة إن "التبراع" ( أداة فنية تستخدم في الأصل من طرف الفتيات للتعبير عن مشاعرهن التي لا تسمح الموانع الاجتماعية بإظهارها علنا).
ويعتبر هذا النوع من الأدب من أقدم وأعرق أنواع الإبداع الشعري الذي تنتجه المرأة الموريتانية ، ورغم وجود أشعار غزلية خاصة بالنساء في بعض المناطق الأخرى كرباعيات نساء فاس، والدارمي عند النساء العراقيات ، وأدب اللاندي عند النساء الأفغانيات ...إلخ فإن "التبراع" يختلف عن كل تلك الأنواع بقوة شحنته الدلالية وجمال صوره الشعرية ونبرته الموسيقية وحرارة وصدق عاطفته وقدرته على وصف الشوق والمعاناة والبكاء على الأطلال.
ورغم أهمية هذا النوع الأدبي فإن المهتمين به لم يتوصلوا حتى الآن لدلالة اصطلاحية ثابتة لكلمة "التبراع " ، الأمر الذي فتح المجال لتعدد الآراء حول تعريفه ، فمثلا يمكن أن نعتبر أن هذا المفهوم قد يكون مشتقا من كلمة "التبرع" ، والتي تعني أن يُعطِي الشخص دون أن يُطلَب منه ذلك ودون أن ينتظر مقابلا، لأن المرأة حين تقوله لا تنتظر من ذلك أي مقابل وكأنها تتبرع به .
وإذا كان "التبراع" يشترك مع الشعر الغزلي في خضوعه لنظام عروضي معين ، وفي بعض خصائص الشعر الغزلي أيضا، فإن هناك بعض الصفات التي ينفرد بها فن " التبراع " عن الغزل الآخر مثل:
أولا / ارتباطه بمرحلة عمرية معينة :
"التبراع" هو النوع الأدبي الوحيد الذي يرتبط بمرحلة عمرية معينة، فيرى المجتمع أن "التبراع" يرتبط بالفتيات ويخصهن، بل الأطرف من ذلك أن المرأة عندما تتجاوز مرحلة الشباب عليها حسب المألوف، وحسب العرف الاجتماعي أن تتوقف عن قرض "التبراع "، وأن تدين الفتيات على إنتاجه بوصفه يخرج عن دائرة الحياء والأخلاق، ولذا نجد الفتيات في المجتمع القديم يكتمن تبراعهن عن النساء الكبيرات في السن إذ لم يعد لديهن الحق في سماعه رغم أنهن كن يقلنه ويتداولنه أيام الشباب، ولعل هذا ما يبرهن على إفراغ هذا النوع الأدبي من دلالته الإبداعية وحصره في دائرة النزوة العاطفية العابرة، فنحن نعرف أن الإبداع لا يتوقف عند عمر معين ، ولذا فإن الأديبة تنتج "التبراع" استجابة لرغبة إبداعية، كأي إنتاج فكري ، وقد لا يعني ذلك بالضرورة وجود شخص معين في حياتها، وهذا ما يجب أن يدركه الأدباء و النقاد حتى ننصف المرأة المبدعة ، ولا نقتل هذه الموهبة الإبداعية بربطها بمرحلة عمرية معينة، وبسطحية تناولها وحصرها في مجال الغزل فقط رغم وجود الكثير من "التبراع" في أغراض أخرى.
ثانيا / سرية تداوله:
يختلف "التبراع" عن جميع أنواع الأدب، فبينما نجد أن أي إنتاج أدبي لابد أن يُعزى لصاحبه ويتم تداوله بين الناس بشكل معلن، فإن "التبراع" لا يُعزى لصاحبته ، بل يتم قرضه بشكل سري ويتم تعاطيه بين الناس بشكل سري أيضا ويُلحن ويُغنى دون أن يُنسب لمنتجته ، بل ويحدث أن تقول إحدى الفتيات "التبراع" على لسان صديقتها، وهكذا يظل "التبراع" في دائرة مغلقة خاص بالفتيات، ليس لدى المجتمع الحق في سماعه أو معرفة صاحبته، وهذا ما يؤكد ضرورة تناول هذا النوع الأدبي الفريد من ثقافتنا الشعبية بشكل أكثر عمق وأكثر مصداقية وبجدية أكبر.
-----------
(*) شاعرة وكاتبة موريتانية شهيرة