علاقتنا بالحروف أعمق مما نتصور، لا سيما بالنسبة للشعراء والكتَّاب عموما، حيث يُنْظَرُ إليْها مُعادِلا مَوْضوعِيا للوُجود الحقيقي، فلا يبْدو الكوْنُ إلا سِفْرًا كبيرا؛ تقْرَأ حُروفَه بالبَصِيرةِ أكثر من البَصَرِ، ولا يرى الإنسانُ نفْسَه إلا سطْرا من سُطُور كتَّاب الوُجود المَنْظور، أكثر من الكتَّاب المَسْطور...
وحين أُرْجِعُ «البَصَرَ كرَّتَيْنِ»، في مساري الشخْصي أجدُ حضورا طاغيا لهذه الرؤية، بشكل مِلْحَاح، في شعوري، وسطوري، فمنذ التسعينيات- خلالَ رِثائي لنزار قباني- اعتبرتُ مملكة الشاعر هي «مملكة الحروف»، وأنَّها هي أهْرامُه التي يُخَزِّنُ فيها عمْرَه، فيضمن خُلودَه، فناجَيْتُه:
يا خـــالقَ الحَرْفِ الجميلِ.. تركْتَـنَــا
الآنَ.. مملكةُ الحُـــــرُوفِ.. غُـــبَــارُ!
خَزَّنْتَ عُمْرَكَ، في الحُروفِ، وفي الشَّفا
هِ.. وفي القُلـــــــوبِ.. فأيْنَعَتْ أعْمـــارُ!
ومن هنا كان هاجسي أنْ أكونَ «جمْلة باقية» في «كتاب الوجود»؛ حيث تمارس يدُ الدهْر جدلَ الإثبات والمحْو.. فيما يُدَوِّنُ على صفحات التاريخ:
الدَّهْرُ.. أكْبَرُ كاتِبٍ..
رَسَمَ الحُروفَ الخالِداتِ..
عَلَى جَبينِ الصَّخْرِ..
تَحْكِي سِيرَةَ الأحْقابِ.. لِلأحْقابِ..
في سِفْرِ العُجابِ
فَمَتَى أرانِي: جُمْلَةً..
تُتْلَى.. عَلَى سَمْعِ الزَّمَانِ..
مُضِيئَةً..
قَدْ كَثَّفَتْ لي ما تَناثَرَ..
مِنْ هَبَاءاتِ الشّبّابِ؟!
هذا السُّؤالُ:
حُرُوفُ جَمْرٍ.. في دَمِي..
سَيَظلُّ مُشْتَعِلاً صَداهُ.. عَلَى فَمِي..
أوَّاهُ..
كَمْ أرْجُو..
وأخْشَى..
مُسْتَكِنَّاتِ الجَوابِ!
والحقيقة أن هويتي و«بصمة روحي»، تتشكل في الحروف، وبالحروف:
أنَا.. لنْ أسَاوِمَ.. فِي صَمِـيـمِ هـــوِيَّـــــــتي
مَهْـمَا تَـنَـاسَـخَـت الــــذَّوَاتِ.. مَــــــــــرَايَا!
فاتْرُكْ صَـــدَى غَـيْرِي.. إذَا أصْغَيْتَ.. لِي
واسْمَعْ.. صَدَى رُوحِـي.. بِـحَـرْفِــي.. نَايَا!
وكذلك جيناتي الشعرية.. شفرتها حروف.. تتأصل في «سلالة المتنبي»، من الشعراء، «الراحلين على بساط الأحرف»:
افحصْ دَمي.. تُبْصرْ رَحيقَ الأحْرُفِ
أوْ جُسَّ قلبــي.. تُصْغ فـــيه لِمعْـزَف
أنا منْ سُـــــلالةِ مَنْ تَنَبَّأ.. شــــاعرًا
المُرْتقينَ.. إلى المَــقًــــامِ.. الأشْرَفِ
وحتى جيناتي العِرْقية، أقرأ شفرتها في ذرات الرمال، متأطرة بين الحروف، هوية حضارية:
أنا.. سَلِــــيلُ الرِّمــالِ.. الســــائــباتِ.. هُــنا
تــناغــمتْ.. فـــي دَمِــــي.. ذرَّاتُ آبــــــائي!
البرْبرِ.. العَرَبِ.. الزنْجِ.. الألى.. انْصـهروا
في الدينِ.. والضَّادِ.. «بيْن الحـاءِ.. والبــــاءِ»!
بيْنَ التــــــرائبِ.. والأصْـــلابِ.. مــا فَتِأَتْ
أنَـــايَ.. من ألِـــفٍ.. تمْـــتدُّ.. للـــــيْــــــــــاءِ!
إنني أرى كل المكونات المقدسة لهويتي رؤية حروفية إن صح التعبير فـ:
أمِّي.. حُرُوفٌ.. هُـنَّ نبْـعُ وُجـُـــــودِنا
وَا شــوْقَــــــنا الأزَليَّ.. نَحْوَ المَـنْــبَعِ!
أمِّي.. حُرُوفٌ.. تكْتَنِزْنَ حَــيَــاتَــــــنا
جَلَّـتْ.. بـسِرِّ اللهِ - فِيـهَا- المُــــــودَعِ!
أمِّي.. حُـرُوفٌ.. يــــانِعَـــاتٌ بالجَنَـى
حـتــــى ولـــوْ ثـمَـرُ الــدُّنَــا لـمْ يَـيْنَعِ!
أمِّي.. حُـرُوفُ النُّور.. تُوقدُ فِي دَمِـي
شُعَـلَ المَعَـانِي.. وَالأمَـانِي.. الهُــجَّـعِ!
أمِّي.. حُــرُوفٌ.. هُنَّ زوْرَقُ رحْلـتِي
عَبْرَ العَـــوَالمِ.. خـلْفَ سِرِّ المُـبْـــدِعِ!
وكذلك لغتي العربية «لغة الضاد»، بل «لغة السماء»، أناجيها «شجرةً نورانية.. أصلها ثابت، وفرعها في السماء»، عناقيدها الحروف:
رُصِّــي عَــنَاقِــيدَ الحُـرُوفِ.. بِسِدْرَةِ الْـ
إبْــدَاعِ.. طُــــوفِي.. مُنْـتَـهَى الأفُـــــلاكِ!
ولتزْرَعِ النَقَطُ الحُـــــــروفَ.. بــأنْجُـــمٍ
ليَــــدُورَ.. بالحَرَكَــــــاتِ.. كَوْنُ بِنَـــاكِ!
وحتى نبيي ورسولي- عليه الصلاة والسلام- أناجيه بـ «سيد الحرف»، لأنه «أفصح من نطق بالضاد»، وعندما أهم بمديحه، تصبح الحروف في قصيدتي عناقيد من النجوم:
فإذا الحُرُوفُ.. بِهَا.. عَناقِـيدُ الرُّؤَى
حُزَمٌ منَ النَّجْمَاتِ.. تَغْزُو طِـرْسَها
للهِ.. سِدْرَةُ مُنْــتَـهَى الإبْـــداعِ.. هَــا
تَسَّـــاقَطَتْ.. رُطَــبًا.. يُسَـابِقُ لَمْسَها
لكَ - سَيِّدَ الحَرْفِ- القَصائِدُ تَزْدَهِي
وجَلالةُ البُلَـغَا.. تُطَـــأْطِـئُ رَأسَــها
وإذا كانت الحروف- في القديم- تُسْتَخْدَمُ طاقة سحْرية، فإني - ما زلتْ أستلهمُ قوة أسْرارها الإيجابية، في مواجهة كل سلبيات عصرنا الحديث، حيث ما تزال حروفي- في عصر مهانة الشعر- تكتنز بقية من الكبرياء، تسكن «نزيف مشاعري»:
في تَمْتَـــمَاتِـي.. ما تـــــــزالُ بَــقيةٌ
مِنْ كبْرياءِ الحرْفِ.. مِلْءَ جَنَـانــي!
رَبَّاتُ عَبْقَـــرَ.. قَاسمتْـنِــــي موْثِـقـاً:
إنْ ذَلَّ شِعْرِي.. ضَيَّعتْ عُـنْـــواني!
أقسمْتُ بالحرفِ.. الجميلِ.. وسِـرِّه:
مَا لِــي بهجْرِ المُلْهِمــــاتِ يـــــدان!
وأمام هيمنة القبح على العالم اليوم، أتوسل:
رُحْمَــــاكَ.. بالشَّـاعِرِ.. المَكْـتُوبِ.. في دَمِهِ
حُبَّ الجَـمَـــالِ.. وسِـــرَّ الــنُّــونِ.. والقَــلَـمِ!
إني بقوة الحرف أقاوم اليوم الخنوع.. لهيمنة الطاغوت والظلم: خُذْ.. أيُّها الإنسان.. شِعْــــري.. إنَّنِــــــــي
- في وجْهِ كلِّ الظُّلْمِ- قدْ أدْمَــــــنْـتُ: «لا»
وفي الحوار الافتراضي الذي بنيْتُ عليه قصيدة «هذا أنا»، أرد على جمرك الإبداع، حين يستجوبني عن مهنتي:
ما مِهْنةُ الصعْلوكِ؟
أكتبُ أحْرُفًا..
مهما تَعَدَّدَ شكـْـلُهَا
حاءٌ.. وباءٌ.. أصْـلُـها..
لامٌ.. معَ الألفِ.. المَدِيدَةِ.. فَصْـلُها..
لم تمْتَهِنْ – للظالمينَ- نِفَاقا!
وهكذا جعلت حياتي - في عصر الكراهية هذا- «رحلة بين الحاء والباء»؛ حيث كتبت حولها قصيدة، بل أصدرت ديوانا كاملا تحت اسمها 2009، حيث أرى الكون والحياة -على فساحتهما- يتحركان بين هذين الحرفين، وجعلت بينهما حربي المقدسة:
إنِّي أحاربُ راءَ الحرْب مُذْ زَمَنٍ
لأسْقِطَ الحدَّ بيْنَ «الحاءِ» و«الباءِ»
ولعبتي مع الحاء والباء موضوع آخر يحتاج مقالا آخر.