المجتمع الموريتاني مجتمع بدوي محافظ وأصيل، والنزعة الدينية تطغى على الفن، وعلى الشعر، فالمقام الذي يمهد للهول يبدأه المغني بالهيللة ومدح النبي، ويعاوده في باقي المقامات كلما أتيح له ذلك.
والشعر فصيحا وشعبيا يحمل بصمة دينية واضحة، في سائر أغراضه بما في ذلك الغزل.
بل نجد أن الشعر في بدايات ظهوره كان محرما تعاطيه، وجلد المشرع صاحب أول بيتين شعريين:
رُبَّ بيْــضَــاءَ مِن بَـنِي سَعْدِ الأوسِ
حُـبُّـهَـا كَـامِــنٌ بِــذاتِ النُّـــفُـــــوسِ
جَــعَـلَـــتْ بيننا وبَـيْــنَ الْـــغَـــوَانِي
والْكَــرَى وَالجفُــون حَربَ البسوسِ
مع أن البيتين مسالمان حييان ليس فيهما ما ينبو عن الذوق العام، أو يخدش الحياء.
وولد أحمد.دامو البوحسني يستعيض عن كلمة الثغر باسم الإشارة:
...وَيا لَـوْعَـةً لَوْ حُمَّ مِنْ "ذَاكَ" لِي لَـثْمُ
ولو نظرنا في مدونة لغن الحساني المتاحة لم نجد فيها ما يتجاوز الخطوط الحمر إلا نادرا، وخاصة في گيفان أشوار الظل.
فأكمل شهادة نقدية في حق النص عندما يقال: إنه يمكن أن يروى في المسجد؛ أي أنه ( ما إفرگ اجماعه).
إلا أن النصوص الشعرية تكون ماكرة أحيانا فتكشف نوايا أصحابها، وتحيل إلى مآربهم من القول، مهما احتاطوا لتضليل القارئ، ومهما راهنوا على سلامة صدره وطيب نواياه.
منذ سنوات حين ابتدأت أهتم ب ( لغن الحساني) وهذه الطلعة تستوقفني، وأعلم علم اليقين أنها غير مسالمة ولا بريئة:
الشاعر سيديا يسجل مراوغة بينه مع الحبيبة المتمنعة والمتعللة بالاكتهال:
گـلْـتِـي عَنِّـكْ كَـهْلَه عِـدْتِي@
وِاتّـبَـانِي گَـاعْ اسْتَكْـهَلْـتِي@
غَيّرْ اگْـبَيْلْ امْنَيْنْ انْشِلْـتِي@
وِاتْـلَافَ عِـرْشْ امْنِ الژَّرْبَه@
طَرْفِكْ، "والْعَنْزْ اللِّي گِـلْتِي@
عَنْهَا مَـاهِي جَـرْبَه، جَـرْبَه @
لقد قمت باستطلاع آراء مجموعة من الأدباء منهم من يوجد على هذا الفضاء، ومنهم من هو خارجه، وسألت عن معنى اتافلويتين الأخيرتين، وكلهم دون استثناء يفسر النص كما يمليه ظاهره، وهو أن الشاعر والحبيبة حدثت بينهما شحناء بسبب عنز، نفت الحبيبة إصابتها بالجرب، وخالفها هو الرأي فأثبت أنها جرباء.
لكن أي منطق هذا؟
كيف يكون السياق يبني دلالة لمعنى معين، ثم تأتي عبارة خارجة عن هذا السياق ولا تكون تخدم المعنى الكلي للنص؟ أيقبل منا أن نؤولها بظاهر القول؟
إن الناقد عليه أن يبني انسجام النص ولو كان هلوسة مجنون، فكيف بنص متماسك مبنى، ومتساوق معنى.
فهل ننخدع بعبارة كنائية وردت فيه، ونبحث لها عن معنى خارج السياق؟
إن قراءة العبارة بمعناها المعجمي لا تقنع القارئ المهتم بالنص، ولا تخدم انسجام النص إطلاقا.
فالشاعر يستعرض حوارا مع محبوبة أصبحت تصده وتتعلل بالكبر والتقدم في السن، وهو لم يرد أن يخالفها الرأي، بل سايرها وأثبت لها أنها فعلا تقدمت في العمر، ولكنه يبادر لينفي ادعاءها بذلك المشهد الذي صور لنا تصويرا دقيقا؛ فحين هرولت لقضاء مهمة ما، والهرولة ليست بمقدور من أثقلهم الكبر، أمسك غصن الزريبة طرف ملحفتها الداخلي فانكشف المستور، وسقط الادعاء، ومعلوم أن المرأة لدينا لم تكن ترتدي ثوبا داخليا تحت الملحفة، ولذا فلا مجال للكذب بعد أن عاين الشاعر ما عاين وعرف أنها ما تزال تتمتع بلياقة أنثوية طالما بالغت في إنكارها بادعائها التقدم في السن.
هكذا يكون النص أدى الرسالة التي أراد الشاعر بما في ذلك الحديث الخاص مع الحبيبة، دون ان يترك اللغة تسفر عن مقصده مباشرة بل جللها بالكناية، وحملها مشاعره وحواراته الحميمة مع المحبوبة.
ويتكرر تحايل الشاعر على المتلقي في طلعة أحمدو بمب ولد ألمين:
يَامِسْ تِدْلِـيتْ اكْـتَـابْ@
اعْـزِيـزَه ذِيكْ اعْـذَابْ @
اتْـرَكَّـبْ خِرْبْ افْـبَـابْ @
خَيْـمِـتْــهُـمْ، تِـرْكَــابُو @
ذَاكُـو حَـالِـتْ تِـرْكَــابْ@
لَـخْـــرَابْ اعْــلَ بَـابُـو @
يطرب السامعون لهذه الطلعه ويتداولونها حتى أصبحت اتافلويتان الأخيرتان منها مثلا سيارا يضرب للشيء الذي يلاقي هوى في النفس أو يأتي مطابقا للمأمول.
غير أن القراء لا يتوقفون كثيرا عند العلامات في النص، والنص الشعري مجموعة من العلامات والرموز تقودك للوصول إلى معنى كلي منسجم، تماما كما توجهك الإشارات والعلامات في الطريق لسلوك النهج الأقوم.
الشاعر بدأ نصه بلقطة تصويرية وجهت مسار النص، فرؤيته كتاب اعزيزه المتدلي، تلاه وصف دقيق للهيئة التي كانت عليها أثناء رؤيته لها.
والكتاب إذا كان مدلى فمعنى ذلك أنه يلاصق الجسد والثوب يخفيه، وحين يرى الشاعر الكتاب فمعنى ذلك أنه رأى أماكن الستر من جسم الحبيبة.
والوضعية التي هي عليها حين الرؤية تؤكد أنه كانت تخدم الشاعر المصور، فهي واقفة، ترفع يديها لتركيب الخرب في الخيمة؛ هذه الوضعية تسمح للشاعر بالتقاط الصورة واضحة غير مشوشة، خاصة وأن الملحفة تباشر الجسد فلا ثوب داخلي يساعد في الستر.
ولخص الشاعر معاناته بسبب المشهد في اتافلويتين الأوليين:
يامس تدليت اكتاب@
اعزيزه ذيك اعذاب @
و الموقف حصل بالأمس القريب، فأصاب الرجل ما أصابه من تعلق وعذاب نفسي، ثم بدأ يوضح الصورة؛ متتبعا التفاصيل ليفهم المتلقي الحصيف أن لهذا العذاب سببا، وقد أورد إيماءات سيميائية دالة؛ فشغلت المثلثات فضاء النص.
فبعد اللقطة التصويرية الأولى يأتي الخرب وهو مثلث الشكل، وتأتي الخيمة وهي مثلثة الشكل، إنها سلسلة مثلثات أحال إليها النص؛ منها المخفي ومنها المعلن، ومن خلالها جسد الشاعر إحساسه الملفع بالحياء المعرفي، والخادع للقارئ العادي.
إن أدبنا الحساني يكون أحيانا مراوغا ماكرا، فنأخذ بظاهره وننشغل عن مقصديته وسياقه.