في جَوِّ الذكْرَي السابعةِ والخَمْسينَ لاسْتقْلالنا الوطني، أعترفُ أنَّ عُمْرَ نصْفَ قرْنٍ ليس كثيرًا في قياس بناءِ أسُسِ الدُّول ومُقوماتها، لا سيما أنَّ الانطلاقَ إليه من الصِّفْر صعْبٌ جدا، لكنَّ الحقيقةَ الأخْرَى أنَّ دوْلتنا تمْلك ثرَوَاتٍ غنية، ومتنوعة، تكْفِي لانطلاق صاروخيٍّ في اتجاه المستقبل الأجمل والأمثل، حتى في هذا العُمْر، قياسًا على دول عربية شاركتها الانطلاقَ منَ الصفْر والبَداوة والفقْر، وحققتْ عبْر عُمْرها القصير، تقدُّمًا مُذْهِلاً، فهل نقَفُ وقفةً تأمُّلٍ صادقةً مع ذواتنا، لنعرف مكمن الخلل؟
أعرفُ أنَّ هناك مُتشائمِين لا يروْنَ إلاَّ نصْفَ الكأس الفارغ، وأعْرفُ أنَّ هناكَ أبْواقًا شبْهَ بشَرية، تؤجِّرُ حناجرَها، ونزيفَ أقلامها، للمُبالغة في تمْجيد مُنجزات كلّ فتْرَة حُكْمٍ يُوالونها، وتضْخيم نِسَبِها التنموية، و" نفْخ " أرْقامِها، عبْر منطق "كل ما دخلت أمة لعنت أخْتها"، وبما أنَّني لستُ من هؤلاء، ولا هؤلاء، فإنَّ كلَّ ما أريدُ قوْلَه هنا، وسط ضجيج هذه الذكرى، هو "أن في الإمْكان- قطْعا- أبْدَعَ مما كان"، وأن من لا يملك طموحا كبيرا، لا يمكن أن يبني أوطانا كبيرة، وخلاصة ذلك أنني استقلُّ الاستقلالَ، ولمن شاء أن يقول:"شاعرٌ مَجْنونٌ نَتَرَبَّصُ به رَيْبَ المَنُون"!
أنا أدرك حجْم أزمة الشاعر المُهاجر، في علاقته مع أوطانه، أنَّه إنسانٌ حالمٌ، سقْفُ خَيالِه أعْلى بكثيرٍ منْ مَنْطِقِيَّتِه، ومِثَالِيَّتُه بعيدةٌ منْ واقِعِيَّةِ السياسي، وطمُوحُه لوطنِه المَنْشُود أكبرُ منْ حَجْم وطنِه المَشْهُود، لكنَّه-مع كل ذلك- شديدُ الألفة، لفَضَاءاتِه الحَمِيمَة، وحتَّى لوْ كانتْ أطْلالاً بلاقِعَ، وهذا ما يُفاقِمُ أزمة مُواطَنَتِه، فبلادُه تسْكُنُه، وإنْ لمْ يَسْكُنْها، وتُهَاجِرُ فيه، إنْ هاجرَ عنْها، فهو يفِـرُّ منْها إليْها، في رحْلةٍ سِيزيفيةٍ، لأنَّ ضمِيرَه "ضميرٌ مُتَّصِلٌ" بالأرض وإنسانها، مهْما تضافَرَت العواملُ على جَعْلِه "ضميرًا مُنْفَصِلاً"، فيظلُّ يُغَنِّيها، في حين تُعَنِّيهِ، ويُدْنِيها، حين تنْفيه، ولذلك يحلو لي دائما أن أدندنُ أناشيدَ هجْرتي، ومزامِيرُ غربتي.