كنت قد وصلت قبل دقائق من مطار أثينا الدولي إلى فندق BEST WESTERN CANDIA الواقع على شارع Theodorou Diligianni والذي اخترت النزول فيه عن قصد قبل سفري باعتبار قربه من أحد المصليات المذكورة.
قبل الرابعة بعشرين دقيقة كنت خارج الفندق أتفحص واجهات المباني بحثا عن المصلى الوحيد بمنطقة Omonia القديمة التي تشبه إلى حد كبير الحي اللاتيني في باريس من حيث الطراز المعماري , كنت أحث الخطى وأجول ببصري يمنة ويسرة بحثا عن النقطة التي إن صدق محرك بحث Google earth فستكون مني على مرمى حجر.
كان وقت صلاة العصر قد دخل حسب التوقيت المحلي وقد مضي على تجولى أكثر من عشر دقائق مسحت خلالها واجهات عشرات المباني المتشابهة واخترقت شوارع ضيقة عديدة
قلت في نفسي إذا كان العنوان الذي أدخلت في محرك البحث دقيقا فلابد أنني ابتعدت عن مكان المصلى.
حاولت رؤية الخريطة مجددا عن طريق الهاتف لكن الشبكة لم تسعف فكررت راجعا إلى الفندق لأتحقق من معلوماتي عن طريق الكمبيوتر وقبل أن أدلف إلى الفندق من بوابة فرعية مطلة على شارع ضيق وقع بصري على اللافتة المكتوبة بخط النسخ العربي الواضح (مسجد الرحمن تأسس سنة 1989( .
لم أصدق عيني, لقد حجبه القرب كما يقال , كانت اللافتة واضحة وبخط عريض ومطلة على الشارع في تحد صريح لعنصرية وتعصب أنصار حزب الفجر الذهبي اليوناني ذي النزعة النازية
وقفت مذهولا أبحث عن المدخل حيث كانت كل أبواب البناية مغلقة وفجأة وقع بصري على قفل نحاسي مفتوح المزلاج خمنت أنه على باب المصلى, سحبت الباب جانبيا و ترددت قليلا في الدخول إلى أن استحثني صوت قادم من الداخل يقول تفضل, دخلت وقبل إكمال دعاء دخول المسجد قال صاحب الصوت بلهجة مصرية اقفل الباب وراءك ، أحكمت إغلاق الباب ودخلت ..
كان المصلى عبارة عن غرفة مستطيلة الشكل بمساحة ستة أمتار في أربعة تقريبا تقع الميضأة الصغيرة ذات الحنفيتين على يسار الداخل في حين يتوسط مقدمة الغرفة محراب ومنبر صنعا من خشب الزان.
عرفت من تفصيل لاحقة أن المصلى مستأجر بمبلغ ثمان مائة يورو شهريا يتم جمعها عن طريق صندوق للتبرعات موجود داخل المصلى و تبرعات أفراد الجالية المسلمة في اليونان من خلال حساب خاص.
بعد تحية المسجد والسلام على الرجل الذي عرف من طريقة دخولي أنني غريب عن المنطقة سألني من أي بلد أنت؟ فأجبته من موريتانيا. فبدت على وجهه علامة توحي بأنه لم يتبين في أي قارة تقع، كان مخاطبي كهلا من صعيد مصر في الستينيات من عمره لم يحظى بكثير تعليم ويعمل منذ سنوات فراشا في المصلى،
سألني متى وصلت؟ قلت قبل ساعتين تقريبا, وهل تنوي المقام في هذا البلد فأجبت بالنفي.
عد لحظات دخل شاب مغربي تلاه آخر غيني ثم شاب مصري , أقام الغيني الصلاة وصلى , وبعدها تبادلنا التحايا وتعارفنا وتفرقنا كل إلى جهته.
قمت بجولة مسائية في المدينة زرت خلالها مبني البرلمان اليوناني أو ال Hellenic Parliament والذي انتهي من تصميمه المهندس Friedrich Gärtner سنة 1843 ليكون أحد القصور الملكية, إلا أن الثورة اليونانية منحته لممثلي الشعب
وليس غريبا أن ينتصب البرلمان اليوناني فاتحا ذراعيه على ساحة Syntagma Square الجميلة ليشكل المحطة الأخيرة في طريق قطار الديمقراطية اليونانية الذي انطلق ذات ضحوة مشرقة أحد أيام 550 قبل الميلاد مؤسسا لأحدى أعرق الديمقراطيات التي عرفها العالم القديم
قام ذلك النظام على منطقةAttica الإغريقية في اليونان القديمة والتي شملت إضافة إلى أثينا كلا من جزيرتي Saronic و Cythera وأجزاء من جزيرة Troizinia
أمام ضريح الجندي المجهول بمحاذاة البرلمان يقف حراس بزي عسكري يعود إلى مائتي سنة خلت حاملين بنادق تقليدية من نوع Springfield تذكرك ببنادق Carabine 1916 ذات الطلقات الثلاث أو بنادق MAS 36 التي كانت تستخدم من قبل بعض أفراد المقاومة الوطنية والزعامات التقليدية الموريتانية.
الغريب في أمر هؤلاء الحراس أنهم يتناوبون على الوقوف في نقاط معينة حول الضريح بحيث يقف أحدهم مدة ستين دقيقة دون أن تتحرك منه شعرة وكأنه تمثال من الشمع , ستون دقيقة بالتمام والكمال يمضيها ذالك الصنم نابتا في مكانه كأنه جذع شجرة سنديان , لا يهتم لريح عاتية ولا أمطار جارفة أو حتي لعاصفة ثلجية , مع الثانية الأولى بعد انقضاء ساعته يمد رجله اليسرى إلى الأمام رافعا إياها حتى تصل قدمه إلى مستوي سرته ليحطها أرضا ويرفع اليمني بنفس الطريقة في حركات تشبه مشية طائر اللقلق ‘ إنه ينسحب من المداومة تاركا مكانه لحارس بدأ هو الآخر تحركه بنفس الخطوات ليحل محل زميله وهكذا.
عرجت قبيل الغروب علي منطقة Exarcheia حيث يقع المتحف الأثري اليوناني الذي ابتسم للوجود عام 1829 على يد Ioannis Kapodistrias رئيس الوزراء اليوناني آن ذاك
تتكدس في المتحف الغارق بين أشجار الصنوبر والصفصاف شواهد ومجسمات لا حصر لها من تاريخ من عمروا تلك الأرض أوعبروا منها خلال آلاف السنين
يحدثك اليوناني بمرارة عن ما كان لأسلافه غابر الدهر من يد طولى فى ميادين العمارة والسياسة والشعر والفلسفة وما آلت إليه حال تلك اليد نفسها التي أصبحت تتكفف الجيران وتمتهن التسول على موائد الأثرياء منتظرة ما يجودون به من صدقات أو ما يقرضونها من ديون بشروط مجحفة ومذلة.
كان قرص الشمس القاني قد اختفي وراء جبل Lycabettus ذي القمة المسنمة المتلفع بوشاح نَسجت خيوطَه أشجار البلوط، والكستناء والصنوبر والأرز مانحة إياه لونا أخضر داكنا يوهم الرائي أنه أمام هرم خوفو بالجيزة مرتديا حلة من اليَشبْ
بدأت عتمة تلك الأمسية الأثينية تمتص ببطئ ما تبقي في قاع الأفق من حمرة الشفق فعدت من جولتي رأسا إلى المصلى هذه المرة بكل ثقة وكأني أدلف إلى أحد مساجد مقاطعة السبخة
كانت جماعة المسجد قد ازدادت برجلين تبين لاحقا أن أحدهما من الجزائر والآخر من جيبوتي, وقبل أن أعتدل في جلستي سمعت المصري يقول ................
(يتبـــــــــــــع)