أيام مربدية:
الإثنان مساء، منتصف الليل 20/11/1989م كان بداية الرحلة.
رحلة المربد؛ ذلك الأمل الذي تنتظره الكلمات الحائرة في النفوس، تزيح عنها غبار النسيان. وفي زحمة الانتظار والليل والأمل المجهول، تقدم لك الخطوط الجوية الإفريقية فيلما مرعبا عن البحر والقراصنة والسفن المغامرة!
باريز مدينة النور يلفها ضباب شتوي كثيف، ويغلف مناظرها رداء قطني سميك من الثلج. المناظرلم تتغير كعهدي بها سنة 1987م، في الأفق الشرقي تبرز شمس كليلة كعجوز في نزعها الأخير.
في مطار أورلي تقضم أظافرك من طول الانتظار، الدقائق أيام أما الساعات فَأَبَـدٌ مَهُـولٌ!
يوم من الأيام الناعسة الوئيدة بدون ملامح، هل تفهمون أن يكون الزمن بلا طعم ولا سمات، وأن يكون المكان لا يثير فيك أي إحساس ولا ذكرى؛ هو ذلك ما يساورني وأنا أتسكع في ردهات المطار الواسعة.
الخامسة صباحا حطت بنا الطائرة في مطار شارل ديكول، ويتراءى حيزه معلوما أنيقا، وحملتنا الباصات مباشرة إلى مطار أورلي الدولي حيث الفضاء اللامحدود والتيه المطلق، والنداءات المتلاحقة على الرحلات إلى جميع أصقاع العالم.
لك أن تجلس على البلاط، أو على كرسي مل صاحبه الجلوس وأنت تنتظر انقضاء النهار بأكمله، وحلول الليل لتستقل الخطوط العراقية إلى بغداد.
كان الجوع والتعب إِلْـفَـيْ السفر خلال هذا اليوم الباريزي الشاتي؛ فلا مكان للجلوس ولا استضافة للمسافر على الخطوط الإفريقية، التي تتخلص منك على أرضية مطار شارل ديكول، لتقضي يوما كاملا من الفجر وحتى الثامنة مساء منتظرا رحلة إلى أقصى الشرق.
الخامسة والنصف مساء تتراءى لك أنوار بغداد المتلألئة، يمتزج نفسُ الـرِّضَى بضوء المصابيح الكهربائية مشكلة عقودا جمانية بديعة؛ وأتذكر قول المعري:
فَكَأَنِّي مَا قُـلْـتُ وَالْـبَـدْرُ طِـفْـلٌ ** وَشَـبَـابُ الظَّـلْـمَـاءِ فِي عُـنْـفُـوانِ
لَيْـلَـتِي هَـذِهِ عَـرُوسٌ مِنَ الـزِّنْــــــجِ عَـلَـيْهَـا قَـلَائـــدٌ مِـنْ جُـمَــــانِ
تُصَافحك الوجوه؛ تحتفي بك باسمة مشرقة، يقفز إلى ذهنك ما اختزنتَه من قراءات وما سمعته من حكايات؛ شريط يمتح من عصور زاهية؛ المنصور وهو يرسم مخطط المدينة بحَبِّ الكتان. الرشيد يتصدر ديوانه؛ وجعفر البرمكي عن يمينه، ومسرور السياف واقف ينتظر الأوامر، ووسوسة حلي الجواري خلف الستائر.المأمون يزور بيت الحكمة ويراقب تقدم العمل فيه، ليالي دجلة ، حَرَّاقَاتُ الصيادين، أحاديثُ شهرزاد تعجن التاريخ وتخرج الغرائب من كفيها ليظل شهريار الدموي حبيس جسد الأنثى وحديثها.
ذلك الماء الرقراق نهر دجلة العظيم! قال الدميري إنه والفراتَ ينبعان من نهر في الجنة. النخيل ذو حفيف شاعري هامس، تمثال الفارس العربي منتضيا سيفه يلخص لك حكاية تاريخ أشبه بالأسطورة.
كل مكان تمر به يبعث فيك ذكرى وينوء بثقل حضاري مجيد!
الكرخُ: ويعرض لك ابن زريق البغدادي ومقامه الشقي بأرض الفردوس المفقود، وموته شهيد حب وحسرة بعد أن تعابث به الأمير الأندلسي ليختبر صبره على مكافأة مخزية عن قصيدة مدح عصماء أودعها كل إبداعه ولهفته عسى يحظى بمهر الحبيبة التي عزه مهرها الغالي:
أَسْـتَـوْدِعُ اللهَ في بغدادَ لِي قَـمَـرًا ** بِالْكَـرْخِ من فَـلَـكِ الْأزْرَارِ مَطْـلَعُـهُ
وَدَّعْـتُـهُ وَبِـوِدِّي لَــوْ يُــوَدِّعُــنِي ** صَـفْــوُ الشَّـبَــابِ وَأَنِّـي لَا أُوَدِّعُـــهُ
الرصافةُ: ويتراءى لك ابن الجهم بعد أن هذبتْ لغته وطباعه مدينةُ الرشيد، ورمى خلف ظهره البيئة البدوية الجافة، وصورها الكالحة، وهو يمشي الهوينى مترقبا ومراقبا شبابيكَ البيوت بين الحَيَّيْنِ العريقين؛ والعيونُ النجلُ تطل لتحاصره حصارا شهيا محموما:
عُـيُـونُ الْـمَهَا بَيْنَ الرُّصَافَـةِ والْجِـسْـرِ ** جَـلَـبْـنَ الْهَـوَى مِنْ حيثُ أدرِي وَلَا أدرِي
أَعَـدْنَ لِيَ الشَّـوْقَ الْقَـدِيــمَ وَلَـمْ أكُـــنْ ** سَـلَـوْتُ؛ وَلَكِـنْ زِدْنَ جَـمْــرًا عَـلَى جَـمْــرِ
الأعظميةُ: ووجه نزار قباني يحمل الكلمة والصورة الشاعرة ويلقي البث مباشرا إلى العراق؛ يسائل الأماكن عن عهودها، وعن الجميلات الفاتنات:
أَكَـلَ الْحُـبُّ مِنْ حُشَاشَـةِ قَـلْـبِي ** وَالْـبَـقَـايَـا تَـقَـاسَمَتْهَا الـنِّـسَـاءُ
كُـلُّ أَحْـبَابِيَ الْـقُـدَامَى نَـسُـونِي ** لَا نَــوَارٌ تُجِـيـبُ أَوْ عَــفْــرَاءُ
فَالـشِّـفَـاهُ الْـمُطَـيَّـبَـاتُ هَـــوَاءٌ ** وَخِـيَّـامُ الْهَـوَى رَمَاهَا الْهَـوَاءُ
أَيْـنَ وَجْهٌ فِي الْأَعْـظَمِـيَّةِ حُلْوٌ ** لَـوْ رَأَتْــهُ تَـغَــارُ مِنْهُ السَّمَـاءُ
بغدادُ: ويجلس أبو نواس متخذا من المدينة مركزا للقصيدةِ، نابذا الطلل، محتفلا بكل الجديد والحديث، مُعَدِّدًا مَعَاصِـرَ الخمر، وأماكنها، ومُلْـقِـيًّا عصا التسيار ببغداد:
قَـالُوا تَـنَـسَّـكَ بَـعْـدَ الْحَـجِّ قُـلْـتُ لَهُمْ: ** أَرْجُـو الْإِلَـهَ، وَأَخْـشَى طَـيْــزَنَـابَاذَا
أَخْشَى قُـضَـيِّـبَ كَـرْمٍ أَنْ يُـنَـازِعَـنِي ** فَـضْـلَ الْخِطَامِ وَإِنْ أَسْرَعْتُ إِغْـذَاذَا
مَـا أَبْـعَـدَ النُّسْـكَ مِنْ قَـلْـبٍ تَـقَـسَّـمَـهُ ** قُـطْـرُبُّــلٌ فَــقُــرَى بُـنَّى فَـكَــلْـــوَاذَا
فَـإِنْ سَلِـمْـتُ وَمَا قَـلْـبِي عَـلَى ثِــقَــةٍ ** مِـنَ السَّـلَامَـةِ لَـمْ أَسْـلَـــمْ بِـبَـغْـــدَاذَا
قَـوْمٌ تَـوَاصَــوْا بِـتَـرْكِ الْـبِـرِّ بَـيْـنَهُمُ ** تَـقُـولُ ذَا شَرُّهُمْ، بَـلْ ذَاكَ، بَـلْ هَذَا.
كان صباحا شتويا دافئا واسيتيقظتُ من نوم ثقيل والساعة تعلن تمام التاسعة،أخذت دشا مريحا، وتناولت فطوري سريعا. كنت على عجلة من أمري فاليوم يفتتح المربد الثامن، كان الحدث يعيش في وجداني أحلاما ورؤى سريعة التشكل،.
أقلتنا السيارات الفارهة من فندق سميراميس إلى قاعة المؤتمرات، وعزف نشيد السلام الجمهوري؛ فوقفت الجموع الغفيرة إجلالا وإكبارا، وران صمت وخشوع حين بدأ القارئ علاء الدين القيسي يتلو من كتاب الله، ثم هنأ وزير الثقافة والإعلام لطيف انصيف جاسم الحضور، وتمنى لضيوف المربد أسعد إقامة، وأشاد بدورهم ودور الكلمة الخلاقة في تنمية الوعي القومي والحس الثقافي لدى الشعوب...