أدي آدب
العرَبُ كانتْ أمَّةَ البَلاغةِ الأمِّيَّةِ، ترْتَجِلُ بالسلائقِ، أكثر مما تُدَوِّنُ في الوثائقِ، ولذلك تُلاحِظُ أنَّها كانت تنظر للمكتوب نظرة تشكيك، وسخرية، باعتباره مجرد "أساطير الأولين"، حتى أنها استقبلتْ بذلك تَنَزُّلَ القرآن الكريم، لكن رسالة "اقْرأ" -ذات الصدى السماوي الإلهي المُعْجِز- زلزلتْ مُسَلَّمَاتِ هذه الأمَّة، وأخجلتْ سُلْطةَ بلاغتها؛ حيث ألهمَها الرحمنُ، مُعلم البيان، القرآن، وأقسم لها بالنون، والقلم ،وما يسطرون، فبدأت تأخذ الكتاب بقوة، رويدا، رويدا، حتى بلغت أوج العلم والحضارة، قلبل أن ترتكس- خلال القرون الأخيرة- في خسوفها الثقافي الذي مازالت تنحدر في سحيق دركاته....
بهذه الإلْمَاعاتِ الخاطفةِ، أردْتُ التمْهيدَ لاشتقاقِ الصحافةِ مِن الصُّحُفِ، التي جاءَ الإسلامُ لِيَرْبِطَها-أكْثَرَ- بالتوْثيقِ الإلهي الدقيقِ لِحَسَنَاتِ الناس وسيِّئاتِهم، استعدادًا للحِساب الأخْرَوِيِّ، يوْمَ تُعْرَضُ صُحُفُ كسْبِهم الدُّنْيَوي مُنَشَّرَةً، فتتَرَتَّبُ عليْها مَصَائِرُهم، إيجابيا لمَنْ أخَذَ كِتابَه بيَمِينه، وسلبيا لمَنْ أخذ كتابَه بشِمَالِه، غيْرَ أنَّ الصُّحُفَ ظلتْ لدى الذهْنيةِ العربية، مُرْتَبِطَةً- منْذ القِدَمِ- بالخطأ، فاشْتَقُّوا مِنْهَا مُصْطَلَحَ "التصْحِيفِ"، الذي يَعْنِي الاخْتلالَ في بنْيةِ اللفظ نُطْقًا وكتَابَةً، لحْنًا في القوْل، حينَ يَكُونَ زَلَلاً كتابيا، أو خطابيا، ولحْنًا بالقوْل، حينَ يجيئُ-قصْدًا- للتعْمِيةِ والتوْرية، حتى أصبحَ هذا لنوْعُ الأخيرُ-في عصْر الضعْفِ- فنًّا مَعْرُوفًا من فُنونِ المُحَسِّنَاتِ البَديعية، والألاعيبِ الدلالية.
فكيف نُصَنِّفُ ما يَمْتَهِنُه صحفيو هذا العصر من "لحْن القوْل"، كتابةً، وخطابةً؟ هل هو لحْنٌ في القول؟ أم لحْنٌ بالقول؟ وماذا كان الأعرابي القحُّ الآنفُ الذِّكْر سيقولُ لو اسْتَكَّ مَسْمَعُه بنَقِيقِ الضفادع البَشَرِيَّةِ اليوم؟ ربَّما تَمْتَمَ – مَعِي-:
رِفْقَا باللغةِ العَرَبيةِ!
ثُمَّ أرْدَفَ- مَذْهُولاً- يا سُبْحانَ اللهِ.. يلْحَنُونَ، وبالصحافةِ.. يَسْتَرْزِقُونَ؟!