1- حسن نصر
كان الكاتب التونسي حسن نصر أول أديب عربي ألتقيه. قبل ذلك بعام تعرفت على جملة صالحة من كتاب العربية المعاصرين، عام ترشحي للإعدادية، من خلال كتب القراءة التي كنا نتبارى في حفظ نصوصها واستثمارها في تمارين الإنشاء. من هذه المقررات تعرفت على وجوه العديد من الكتاب وعلى نتف من سيرهم، غير أنني، وبرغم الحلم الملحاح بأن أرى اسمي متبوعا بألفاظ (كاتب موريتاني حصل على الدكتوراه في الآداب له مؤلفات عديدة من أشهرها...) لم أكن أطمح في الأفق المنظور – على الأقل – أن أواجه كاتبا عربيا إلا بين دفتي كتاب.
ذات صباح دخل مدير الدروس بالإعدادية، التي ورثت المعهد الإسلامي ببوتلميت، فجأة، ليطلب من التلاميذ اختيار ممثل للفصل في لجنة، يعهد إليها بتنظيم نشاطات ثقافية ورياضية على مستوى المدرسة. وفي ظني أن الحس الأمني هو ما حدا بأهل السياسة في فصلنا إلى التفاهم حول الدفع إلى هذه الهيئة بشخص غير مهم هو أنا – ولا فخر. لست أذكر على وجه التحديد وقائع الجلسة التي حضرها، إلى جانب الحاكم ومدير المدرسة، كل أعضاء هيئة التدريس من الموريتانيين (كانوا ثلاثة بالتحديد) كما حضرها العديد من المدرسين من المغرب وتونس ومصر، فضلا عن التلاميذ. أذكر أنها تمخضت عن تشكيل لجان من ضمنها لجنة يرأسها أستاذ العربية بالسنة الثالثة حسن نصر. كان حسن نصر مشهورا في الإعدادية بحساسيته المفرطة تجاه المناخ الصحراوي الجاف وعواصفه الرملية، وتجاه جمهور من طلاب البدو المتصوفين في طلبهم للعلم بمقدار تصوفهم في انتماءاتهم السياسية التي لم تكن، أحيانا، تستسيغ بعض شطحات هذا المجذوب اليساري القادم من ضفاف المتوسط.
خلال جلسة القراءة الأولى (ولعلها الأخيرة أيضا) ،في عطلة منتصف الأسبوع، يوم الخميس، فوجئت بمستوى مكتوبات كبار التلاميذ، كانت دون ما اعتدناه في الابتدائية، وكانت – في رأيي – دون ما كنت أتلهى بمحاولته، من حين لآخر، من صور قلمية لهذا الشخص أو ذاك من الزملاء أو "مشاهير" القرية. ولكنني فوجئت أكثر حين أخرج الأستاذ جريدة قديمة بدأ يقرأ منها قصة قصيرة عنوانها "البراح" (قرأتها من بعد ضمن مجموعة عنوانها 52 ليلة). وللمرة الأولى سمعت عن النوع والرمز والالتزام وخرجت بقناعة مؤداها أن للكتابة غاية غير الكتابة.
أتيح لي من بعد أن أتابع، عرضا، نتفا من نقاشات لا أستوعب منها غير القليل بين الكاتب وبين المراقب العام محمد حرمة الله ولد جد تغمده الله برحمته، أمام مكتبه في الجناح الغربي من بناية المعهد.
قبل اختتام السنة الدراسية صيف تسع وسبعين وتسعمائة وألف كان المرحوم حرمة الله والأستاذ حسن نصر جالسين على كرسيين أمام مكتب المراقب العام، وكان غير بعيد منهما أحد المحظريين من عمال المدرسة، مشهور بطيبته، لا يخاطب الإخوة العرب إلا بالفصحى، دار بينه وبين السي حسن هذا الحوار:
- متى سترجع إلى أهلك في تونس؟
- أنا سأبقى هنا، سأتزوج فتاة من موريتانيا، وأستقر هنا.
نظر مليا إلى زيه الأوروبي وقال:
- وكيف تتزوجك وأنت في هذه الملابس؟
- هي لا تجبني إلا في هذه الملابس.
- هذا مما يدل على حماقتها. وكيف تتزوجك وأنت على كفرك؟
- هي لا تحبني إلا لأنني لا أعبد ما تعبدون أيها الكافرون.
- هذا يدل على حماقتها.
علق المراقب العام وكأنه لا يعلق:
- كفيرك اللي ما اتصيب عنو
وقام إلى داخل المكتب، كان ذلك آخر عهدي برؤية الأستاذ حسن نصر.