يقول الكاتب الأميركي الكبير
(الحائز على جائزة بولتيزر 1953 وجائزة نوبل 1954م) إرنست همنغواي :
"يحتاج الإنسان إلى سنتين ليتعلمَ الكلامَ ، و خمسين سنةً ليتعلمَ الصَّمت" :
أركان هذه المقولة ثلاثة؛ التعلم و الكلام و الصمت، و التعلم هو الواسطة الرابطة بين الكلام و الصمت ، و إن ظهرا متعارضين فالمشترَكُ بينهما كبير يقترب من التطابق التام، ذلك أن الكلام هو صَمتٌ عن أجزاء أخرى و أن الصمتَ كلام واضِحٌ في بعض صوّره.
الكلام عند العامة هو الصوت المسموع المُتكوِّن من ألفاظ مفهومة بلغة أو لهجة ما ، و عند الكتاب و المثقفين يشمل ذلك و يشمل كل مكتوب و منطوق و مسموع، و حتى ما يفهم بالإشارة و الرموز.
أما الصمت فهو امتناع الفرد أو الجماعة أو المؤسسة... عن النطق أو الكتابة أو الإشارة و الرموز.
الكلام المقصود في عبارة الكاتب إرنست همنغواي ليس الكلام بمعناه الساذج الذي يتبادَر إلى ذهن القارئ فحتى ذلك يملكه المجنون و الصبي و غيرهما من الطيور المُقلِّدَة،فعبارة التعلم لسنتين تكفي لصرف نظرنا عن النطق و التخاطب إلى الكلام المقصود به التوجيه أو الدعاية أو لفت انتباه السامعين، و هو ما يُطلق عليه اليوم الظواهر الصوتية و إن كانت قبائل و طبقات لا يجمع بينها إلا صفة الكلام، فهناك الثقافي و السياسي و الاجتماعي و الفكاهي ،و الديني و الذي لا يُمكن تصنيفه.
و للكلام شهية معروفة يُشبهها المفكرون بشهية الطعام و يطلقون عليها الشَّرَهَ حيث يعدونها من أكبر العيوب و السقطات.
فالكاتب يقصد بمقولته أن القدرة الفائقة على الكلام و الخطابة لا تحتاج علما كبيرا و لا خصائص نادرة، و لا ذكاءً خارقا، بل تحتاج وقت معرفة الحروف و تكوين الجُمل، و هو وقت مُهمَل إذا قيس بتعلم الصمت!.
ما الذي يقصد الكاتب بالصمت ؟
أهو ذلك التّجهُّم المطابق للسكوت؟
أم يقصد بالصمت التجاهل؟
أم يقصد به الترفع عن السفاسف؟
كل ذلك يدخل تحت يافطة الصمت بمعناه العام الذي يتِم استهلاكه.
الصمتُ هو ذلك التحديق الطويل و التدقيق و التمحيص، بل القراءة المُتأنية لكل ما يُشاهَد و يُسمع، لكل ما يَشُدُّ التفكيرَ و التحليل.
الصمت هو ذلك التجاهل الظاهري ، الذي يُعتبَرُ إهمالا في حين أنه رزانة، و أنه زيادة معرفة و إدراك.
الصمت هو ذلك العمُر المعرفي المتراكم من التجارب السابقة و الملاحظات و تداخل العلوم النظرية و التطبيقية.
الصمت هو ذلك الوقوف بعيدا عن طريق العاصفة و العاطفة و الشعبوية و الغوغائية و السذاجة.
الصمت هو ذلك الرد الهادئ على ما لا يَستحق الردَّ و لا يَستحق الوقت و لا يَليق بالحروف و الكلمات، ذلك هو الصمت، و ليس السكوت الذي يأخذ روافده من الخوف و الخنوع و الخضوع، فكل ذلك لا يستحِقُّ تسمية الصمت الفاضلة.
قد تكون مدة السنتين تقريبية تحمل معنى الاستخفاف بالنتيجة و الحصيلة ، فالكلام المُنظَّمُ قد يحتاج زمنا طويلا ، لكنه زمن في اتجاه خاطئ ، أما الصمت الذي هو حصيلة الحكمة و الإدراك فهو يحتاج معرفة الكلام نطقا و تدبرا و تجاوز تلك المرحلة إلى آخر المراحل ، حين يتِمُّ وزن الكلام و تصوُّرُ نتائجه إيجابية كانت أم سلبية.
لذلك وجدت مقولة " إذا كان الكلام فضةً فسيكون السكوت ذهبا"
و من المعروف أن النتيجة تابعة للعمل للجِدِّ و للنشاط، و أن قيمة الصمت قيمة عظيمة يصعُب إدراكها
و الثبات عليها لأنها نهاية النضج و طريقة إلى الكمال و التمام، فمتى ندرك قيمة الصمت؟
و كيف نحافظ على الطاقة التي نستهلكها في كلام لا طائل من ورائه، بل قد يكون ضرره في مكان انتظار المنفعة منه.
و السؤال المطروح:
هل بإمكاننا دائما لجْمَ هذا الغول الذي يحاول الخروج ضاربا بالفكين و الشفتين عرض الحائط؟