أنطون بافلوفيتش تشيخوف طبيب وكاتب مسرحي ومؤلف قصصي روسي كبير ينظر إليه على أنه من أفضل كتاب القصص القصيرة على مدى التاريخ، ومن كبار الأدباء الروس. كتب المئات من القصص القصيرة التي اعتبر الكثير منها إبداعات فنية كلاسيكية، كما أن مسرحياته كان لها تأثير عظيم على دراما القرن العشرين.
الوفاة: 15 يوليو 1904
من أقواله المشهورة:
" كلما زاد نقاءُ المرءِ زادت تعاستُهُ"
النقاء:
كلمة تحمل معنى الأصالة و الصفاء و التميز ، و الاحتفاظ بالخصائص الخاصة كاللون و التركيب و الشكل،
فأي نقاء يقصد هذا الكاتب الكبير؟
بالطبع يختلف النقاء من بلد إلى آخر و من ثقافة إلى أخرى ، و من عِرق إلى عرقٍ مُختلِف ، لكن النقاء اللغوي الذي يتبادر إلى الذهن أول مرة هو اللون الفاتح الذي يحمل موجات ضوئية، تنعكس فيه ، و تنبعِثُ منه، و كأنه بها يُثبِتُ وُجوده ، و يدعو إلى نفسه، فلا يكاد المشاهِد يسلَمُ من إغراءاته و عروضه التي تُشبه الإعلانات.
يوجد نقاء سطحي يُمثِّل الصورة الخارجية، فهل هو المقصود ؟
ويوجد نقاء داخلي يُمثل الفكر و المبادئ ، فهل يقصده الكاتب؟
و هناك النقاء العام ، كنقاء الذهب و المعدن و الدقيق و غيرهم، فهل هو من النقاء المقصود أيضا؟
مقولة الكاتب اتشيكوف تتكون من أركان ثلاثة:
النقاء و التعاسة و الشخص المستهدَف بهما،
كلما زاد النقاء زادت التعاسة،
فما هي التعاسة؟
هل هي الشقاء؟
أم هي الحياة المريرة؟
التعاسة هي حياة حزينة في جانبها النفسي، و ربما أثَّر ذلك على جوانب الحياة الأخرى ، الاجتماعية و السيّاسية ...
قد يعتقد بعضنا أن النقاء هو نوع من السذاجة، و الحياة البدائية، يمكن تجاوز صاحبها و خداعه مرةً و مرات مُتعدِّدة، لكن هذا ليس النقاء المقصود ، فهذا نقاء معجون في طينة الجهل و قلة الإدراك، النقاء هو أن يُنشد المرءُ الكمالَ الإنساني، الحرية الرزينة، و الحقوق الكاملة، و العدالة في جوانبها جميعا، و المساواة التي تؤسس لقيَّم عامة، دائمة ، و القانون الناضج المُطبق على الجميع، و الذي لا تؤثر فيه الأغراص و الألوان و الأعراق، و لا يخضع لتوجهات القوة و رأس المال، و الممسكين بزمام القيادة؛ السياسية و الدينية و الحزبية.
النقاء المقصود هو التساوي في إتاحة فرص التعليم، و الولوج إلى الوطائف، و إلى مراكز القرار، و الاستفادة من الثروة، و فتح نقطة الضوء(الإعلام)
أمام الجميع دون تمييز و لا إقصاء.
هذا النوع من النقاء ، أو حياة الضمير ، أو المبادئ السامية رغم قيمته و اتفاق الجميع على تقديسه و تعظيمه، إلا أنه مثل الرياضيات في انسجامها و تناسقها و براهينها الواضحة، لكنها تخسر في كل مرة تقترب فيها من الواقع، فقوانينها لا تجد الأرضية المناسبة، و لا يُمكن توطيد الظروف التي تجعلها تُطبَّقُ بصورتها المثالية الأفلاطونية.
النقاء المثالي يُشبه المعدِن الخالص، و في الغالب يكون ذلك المعدن راكدا ، و عديم التفاعل مع غيره، و قيمته الحقيقية يجدها من التقديس المَوهوب ، و ليس مما يُقدمه في الواقع كالذهب مثلا.
ليس هذا ذما للنقاء بقدر ما هو تفسير للواقع، و مع ذلك فكلما اقترب الإنسان من النقاء كلما زادت قيمته عند الجميع بكل طوائفهم، و بقي ذكره خالدا في الأذهان و كُتُبِ التاريخ عبر عصور البشرية المختلفة، حيث تحتفظ به الذاكرة الجمعية العالمية.
فهل تجد هذه المقولة صدقها في الواقع و أن تعاسة الأفراد مرتبطة بقدر نقائهم؟
و ماذا عن التعساء الذين سبقتهم تعاستهم إلى بيوتهم و حاراتهم؟
و هل كل تعاسة بسبب النقاء و الصفاء و الضمير ؟
ربما يقصد الكاتب الروسي الكبير اتشيخوف بمقولته ذلك التلهُّف الدائم، و الألم المستمر الذي يصيب أصحاب الضمائر الحية في عالمنا اليوم، فالمَشاهِد الجارحة و الخادشة، في الشاشات و الإذاعات و تحتَ قبب البرلمانات و أروقة السياسية، هي مَشاهِد تمنع البعض أحيانا من النوم، بل تجعله لا يرى في الحياة نفسها شيئا جميلا، فهي محطات تعاسة و آلام، حين يرى الفرد الحروب العبثية، بين الأعراق، بين دول تصرف على السلاح و الجوع و المرض و الكوارث و المصائب تتهددها في كيانها ، في وجودها، حين يرى الفردُ القوَّى العالمية القادرة على إيقاف المجازر وهي تنظر إليها، و كأنها برامج وثائقية من قنوات الطبيعة و الحياة البرية، و بعض تلك القوى يرمي أخشابا في الحفرة كلما هدأت نارها .
أي تعاسة أكثر من ملايين المشردين و الجائعين، أي تعاسة أكثر من طمس القرى و المدن و طمس العائلات، بل و التفنن في ذلك، في عالم يَعتقد أصحابه أنهم وصلوا إلى قمة الرقِيَّ و التقدم و الحضارة.
إنها تعاسة الأحياء، أحياء الضمير ، أصحاب الإنسانية، أولئك الذين ما تزال تجري في جفونهم الدموع، و في عروقهم الدماء، و حروفهم تنبض بالحياة، فما أجمل التعاسة حين تكون اختيارا، حين تصبح المكان الأنسب لأصحاب النفوس الكبيرة، لتسجنهم في أسوارها بعيدا عن مُتبلِّدي الشّعور، و الأنانيين الماديين.
53