إميل سيوران :
فيلسوف وكاتب روماني نشر أعماله باللغتين الفرنسية والرومانية ولد في قرية رازيناري، إحدى قرى ترانسيلفانيا الرومانية والتي كانت في تلك الفترة تابعة للإمبراطورية النمساوية المجرية.
الوفاة: 20 يونيو 1995
من مقولاته المشهورة:
" أربعون ألف سنة من حياة الإنسان، و لا يُمكنك أن تجِد حرفا واحد يَصِف الشُّعورَ الذي بداخلك تماما "
اللغة
رغم اختلافها من شعب إلى شعب، و بلد إلى آخر ، فقد وُجِدت للتعبير و الوصف، لتقريب الصورة أو الحدث، أو التنبيه، فكانت وسيلة التواصل الكبرى، و ازدادت تطورا يوما بعد يوم، فهل مر ّ كاتبنا بجميع اللغات ، و أدرك عجزها عما بداخله؟
بطبيعة الحال فإن التعميم ظاهرة غالبة، و منتشرة بين العامة و المثقفين، و هي جرثومة تجعل كل كلام عام ساذجا، و بدائيا، و لكن هناك جزء من مقولة الكاتب مهم جدا، فاللغات التي يملك ، أو يعتقد معرفتها لا تُمكِّنه من التعبير عن شعوره الداخلي.
فأين يَكمن النقص؟
هل هو في عدم معرفته لشعوره؟
أم في عدم معرفة الألفاظ ؟
أم العجز عن ربط الوصف بالموصوف؟
أم أن اللغة هي العاجزة فعلا؟
ما دامت اللغة جزءا من تركيبة الإنسان أو من صناعته على قول آخر ، فالجزء لا تمكنه مقابلة الكلِّ إلا في رأي الرياضيات التجريدية، و في غير ذلك يكون العجز منطقيا و مبررا، و لكن ،
هل استطاعت اللغات وصف الصورة المُشاهَدَة الخارجية أولا، قبل أن تصف شعورا متحركا و متقلبا داخليا؟
يمكن أن نقول: إن إطلاق تصوُّرٍ معيَّنٍ حول حدث مُشاهَد يصدُرُ من معطيات الرؤية و الإدراك و الفهم، و بعد ذلك يأتي دور القاموس اللغوي ، الذي يتحكم فيه الاستعمال و الثقافة المحلية، و جوانب ذاتية مجهولة داخل الإنسان نفسه.
و هذا المنتوج أو الرؤية التي تحولت إلى كلمات منطوقة أو مكتوبة تختلف من شخص إلى آخر ، كان معه في نفس اللحظة و في نفس المكان، و ينتمي لنفس الثقافة و القاموس المحلي، فلماذا تختلف رؤيتهما ، و نتيجة تصوُّرهما ؟
و الجواب أن الإنسان رغم تشابهه حد التطابق فهو يحمل مميزاته المختلفة، و بصمته الخاصة ؛ في الذوق و التعبير و النطق و الرؤية و الحس، و بذلك هو إنسان آخر مختلِف عن الآخرين أفرادا و جماعات.
أربعون ألف سنة من حياة الإنسان:
يريد الكاتب أن يقول :
ما أشد عجز اللغات ، فقد بلغت سِن الرشد ، أربعين ألف سنة، دون أن يتحدث عن الإنسان نفسه،
و هل هو سابق على اللغة؟
أم أنه مرافق لها؟
أم سبقته اللغة بحقب زمنية؟
و في كل الحالات الممكنة فالشعور الداخلي في أعماق الإنسان يمكن أن يكون عمره أيضا أربعون ألف سنة، و أنه في طريق التطور و التعقيد الدائم.
و ما هي العلاقة بين الوصف المنطوق أو المكتوب و الموصوف المحسوس أو المسموع أو المُشاهد؟
في بِنية السؤال تتداخل مجموعة من العوامل و المؤثرات،بعضها مُتعلق بالموصوف، فإن كان عن طريق الإحساس،
فهل يمكننه إدراكه حسيا و فهمه دون الحاجة إلى اللغة و تعقيداتها الكثيرة؟
فإذا استطعنا الإدراك الحقيقي، عندها تكون اللغة لتبليغ الإدراك إلى الآخرين و الخارج الآخر، أما إذا عجزنا عن إدراكه إدراكا تاما، فالعجز سابق على اللغة ، و هي غير مسؤولة عنه نهائيا و إقحامها يعتبَرُ اعتِداءً صارخا.
و نفس القاعدة يمكن تطبيقها على المُشاهَدِ بالرؤية و المسموعِ بالأذن.
أما حين ندرك الشعور إدراكا تاما بأي وسيلة و نفهمه فهما دقيقا، ففي هذه الحالة الأخيرة تتدخَّلُ اللغةُ بقاموسها و استعمالاتها، و تطبيقاتها السابقة، و هنا تظهر معوقات أخري منها قدرتنا على تطويع اللغة بمعرفة مفرداتها و أساليبها، و تطبيقاتها على الواقع الحسي الذاتي، و بقدر قدرتنا يكون النجاح، و يَكون الفشل كذلك بقدر العجز و ذلك في تناسب طردي مستمر.
هذا الكائن الإنسان غريب التركيب و الطبيعة، و عميق المشاعر ، يمكن اختصار جزئية الحياة فيه ، و إعطاء صورة عنها، عن هيكلها الخارجي ، عن نموها و تطورها، عن قدرتها على الصمود و التحديث، عن جانبها الروحي الغامض، عن أحلامها و خيالها الذي يُشكل وحده عولِم لا نهائية.
فكيف يمكننا تفسير جزء من مشاعره؟
ألسنا بذلك أمام مقابلات اللانهائي في الرياضيات التجريدية؟
ألا يصل عالم المشاعر إلى مجالات تفوق الإدراك و التصور و الفهم؟
و إذا كان هذا حال مشاعر نعيشها و نحسها و هي جزء منا، فكيف باللغة المستقلة عنا كأفراد؟
ألا يكون ذلك أشد صعوبة حين نربط بين مشاعرنا -التي نجهل غالبها و أسبابه-و اللغة باعتبارها عالما آخر مجهول الأطراف و الكينونة ؟
إن حديثنا عن صعوبة التعبير عن مشاعر الإنسان الداخلية يجعلنا ندرك -و لو من باب جزء من الخيال-
عظمة و حجم العالم الذي نعيش فيه و بُعدنا عن سبرِ أغوار ذواتنا التي نملك الولوج الدائم إليها و منذ أربعين ألف سنة تقريبا،
فماذا يمكن أن نقول عن أنواع الأحياء على سطح الكوكب الذي نمشي عليه؟
و ماذا عن الأخرى غير المشاهدة؟
و ماذا عن المواد و الهواء؟
و حين نخرج إلى النجوم و الفضاء ندخل متاهة أخرى لا نعرف لها نهاية، و لا نملك لغة لوصفها ، لأننا استهلكنا مفرداتنا في شعورنا الذاتي، و بقي يُطالبنا بديون مُستحقَّة.
فلماذا نقترض ديونا جديدة؟
و من سيدفع أقساطها المُخيفة؟
و أي رياضيات جديدة ستتكفل بحساب الأرقام و أسطر الوثائق؟