الدهماء ريم
............
لا أكتُمُكم أنَّ افكاري ممهورة بارتباك اللَّحظة، وأن الحَدَث هبط بتفكيري -كالآلاف- الى حالةٍ من الضِّيق،.. أبتلِعُ انبهارًا من الأمر وأسفحُ آخر،.. ربَّما هيَّ لحظة لم أتهيأ أبدًا لقدومها .. إنَّ صوتي أضعف من أن يأخذ وضعًا قتاليًّا،.. ولا أتوقَّعه يتجاوز خانة اعتراضات من سيلقبُّون ب"المزايدين" القلة على المقاييس الصَّامتة في هذه الحادثة.. إنِّي أُرضِي فقط شَرفَ المُحتجِّ على القرار، الرَّافضِ له، وليستْ لي خبرة بالشَّتم الصَّريح ولا المُنمَّق، ولا أعتبره وسيلة رفضٍ.
مَنْ يُحتملُ أن يصبَّ هذا القرار في مصلحته؟، .. لمن يُجيَّرُ؟ .. من يَحتطبُ بهذا الحبل، عجيب الالتواء؟.. فلم تكن هذه التسمية يومًا مِمَّا اشْتَجَرَ فيه السَّلف والخَلف من مُتطرفي أهل السياسية في هذا البلد!..
لا أتخيل أحدًا سيستفيد من تغيير اسم الشَّارع.. لن يكون نصرًا للوحدة الوطنية،.. هو شرخ فيها!
لقد عُرض المُقترح على المجلس البلدي لبلدية "لكصر" يوم الاثنين الماضي، وحَسم المجلس أمره في اتجاه التغيير على عجلٍ نيابة عن "الشعب" بوصفه "الممثل للشعب"!...
هل بقى من مجال للحلم بالتَّراجع عنه؟ .. لا أظن الشارع سيسلم من هذا الحظ الرديء!.. اسم "شارع جمال عبد الناصر" لم يبق من عِدَادِنا، لقد اندلقتْ ذكراه على الأرض.
لا أريد أن أُنغِّصَ على بلدياتٍ وُلدت غريبة عن مبرِّر ميلادها، حلقة جديدة من عبثها الذي ظلَّ غرسه يُؤتي شوكًا وأوساخا وغلالاً من التَّخلف بارتفاع الموج،.. هي مُصرَّة على مسيرة الهبوط، وجرَّبتْ كل المتاهات الى أن وصلت الى الشارع-الذاكرة،.. البلديات في كل العالم لا يُطلب منها التَّناغم مع قرارات الجهات التنفيذية، فمن أولى صِفاتها الإخلاص لذاكرة مدينة ورثَتها، وحتَّى آخر شجر من "اكَرون لِمْحَادَّه"،.. تأمَّلوا الصُّورة المُرفقة لنواكشوط السَّبعينات، لقد كانت المدينة عامرة بأشجار "الأكاسيا" الوارفة الظل، وأشجار " لأوكالبتوس" الطبية، قُطعت كلّها!..
تسمية الشوارع من اختصاص البلديات (هذا افتراض)، إزالة أسمائها ليس محض صدفة (هذا تقدير)،.. هذه البلديات العصاميَّة المقاومة لكل أسباب النجاح ، كُنَّا نعوِّل على مجالسها التي هي عالة على من يُمثلون، أن تعيد النَّظر في مثل هذا القرار النَّاسف لذاكرة المدينة، بوصفها منتخبة من الشعب.. فلولانا نحن النَّاخِبُ لما وجد المُنْتَخَبُ الذي يُشرِّعُ عكس إرادتنا، ويمد في حبل غيِّه ، ومُصادقتهم على القرار ليست آراءً انطباعية، بل هي تعبير عن موقف سلبيٍّ من تاريخ المدينة.. وفي جُرأة الشَّيطان، .. ما تَصورتُ يومًا أن الشَّارع سيبتلعه الخُسران الحضري لمجلسٍ بلدي، حتى ولو كان ذلك مع إرادة الحكومة.
يَرسمُ لنا الذين يتصوَّرون أنَّهم يُحسنون بناَ صُنْعًا خطوط مصائرنا، وعلينا أن نسير على حوافها بانحناءٍ صامتٍ .. هكذا تتطلَّبُ الوصاية وحسن الالتزام بسيْر الرَّتل.
هذا الشارع لن تنتحرَ فيه الأزمنة بفعل شظايا غلطةٍ، لن يُلقوا بنقلة لسان خمسة عقود من العشق والالتحام بالاسم.. المسافة بين الأذهان تتسع و المصلحة بريئة من هذا الفعل..
تمُرُّ السَّاعات، تلسع أذهاننا في انتظار يوم النُّطق، يوم الخميس، فربَّما تكتمل صورة المأتَم على الشَّارع ...ونستريح.
في هذه المدينة الممطوطة في قبح، المُترهِّلة، التي تأكل وجهها كل يومٍ في السُّحت السياسي ولا تخجل، سيبقى شارع "ناصر" الخالد، الأسرع نبضًا، الأكثر شبابا ، الشارع الذي لا يتذوق مع الشمس نعمةَ الهجوع، وكأنه يُعدُّ لسالكيه طعامًا لطقوس الحياة،.. للآلاف التي تُشرِّقُ فيه وتُغرِّب، تتصيَّد أرزاقها، وتبسط على رصيفيْه أحلامها الفائرة.
.. شارع جمال، أجمل نغمة تهادت لآذان ساكنة نواكشوط،.. شارع رُسِمتْ على جنباته أجمل حكايات هذا الوطن،.. شارع جمال، خانة وكل الشوارع جملة خانة، وهذا القرار لا يدخله في خانة الإصلاح، لا يُمْكن التَّعبير عن حُبٍّ للوحدة الوطنية في صورة إساءة للذَّاكرة الوطنية.. هي موهبة في اختيار غير المناسب،. كمْ من مَعْلَمٍ أُطلقت عليه رصاصة النِّسيان ..و أُخرسَ صيته خلف مدِّ التَّخلف البارد؟ .. نبحث عن الذكرى بين الرُّكام.
أيُّها الشَّارع،.. مُستحق جدًّا تكريمك بذاك الاسم.. أنا مِنْ رِفاقٍ عرفوك، أحبُّوك ولن أبدِّل فيك، .. سأتمسَّكُ مثل الجميع بذِكْركَ الأول وذِكْراكَ في مملكة القلب، وسأزرع ورد الحُبِّ على آهاتك.. لا تحزنْ، لا تقلقْ.. فالاسم قرار أبديٌّ بصلاحيَّة العمر.
أيُّها الشّارع ، دوِّن اسمي إلى جانب اسمكَ الخالد.. شاهدين على حالة تعثُّر!.
.........
أسَفِي...