وترجل رائد النهضة الموريتانية في هدوء وعفاف وصمت! ولما ترجل، كانت النخبة لا تعرف عنه إلا أنه سفير سابق خدم وطنه بجد وإخلاص! وبذلك نعته وأثنت عليه وزارة الشؤون الخارجية والتعاون في بيان مقتضب.. ونعم النعي والثناء!
بيد أن الرجل كان أعظم شأنا من ذلك بكثير، وأعلى كعبا وأشرف منزلة؛ هذا إذا استنطقنا تاريخنا الحديث، وفتحنا سفر تكوين الدولة الموريتانية المنسي! وسنحاول ذلك بإيجاز فيما يلي:
يعتقد جل الرافلين الآن في السلطة، والمال والجاه، والقابعين في درك الكد والبؤس والشقاء، ومن هم في منزلة بين المنزلتين، أن الدولة الموريتانية خلقت على الحالة التي هي عليها اليوم!
ولكن هيهات!
وحتى نقتصر الحديث على ملاحظات عابرة تؤسس لما نريد التنبيه عليه، نُذكّر بما يلي:
1. أن هذه العاصمة الجميلة العامرة التي ترونها الآن كانت {قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا} غداة مؤتمر ألاگ الذي أسس لقيام الدولة.
2. أن نواة الدولة التي ولدت ولادة قيصرية في مدينة سان لويس على يد المستعمر وتحت رعايته وإشرافه؛ والتي حرص كل الحرص على تفصيلها على مقاساته، جاءتنا معلبة من الجنوب ناطقة بالفرنسية ومتناقضة تناقضا عدائيا مع المجتمع الذي تحكمه ويفترض أن تكون قد خلقت منه وإليه!
3. أن المجتمع الموريتاني في غالبيته العظمى كان يومئذ بدوا رحلا ينتجعون الغيث أينما حلوا وارتحلوا، باستثناء قلة ضئيلة جدا تسكن "لكصور" والمراكز الإدارية الاستعمارية المترامية في الشمال والجنوب والشرق، وغير المتصل بعضها ببعض!
4. وكانت العبودية يومئذ، منتشرة على جميع التراب الموريتاني وفي الجوار؛ بما في ذلك القرى وشبه المدن، وعلى مرأى ومسمع من دولة فرنسا "أم حقوق الإنسان"! وكانت المرأة (نصف المجتمع) خارج التاريخ! ولا يوجد في البلاد كيلو متر واحد معبد!
وحين هبت كوكبة من أبنائنا ترفع التحدي وتتصدى للمعالي في ظروف حالكة، وآلت على نفسها أن تبني كيانا جامعا للموريتانيين، حسب منطق العصر؛ كان الخلاف لها بالمرصاد، لاختلاف مشاربها وأهوائها، ولطبيعتها البدوية الفوضوية، وقلة تجربتها السياسية، ومكايد المستعمر وأعوانه المحنكين.. فانتصبت خيمتان وطنيتان، بدل خيمة واحدة:
من جهة، هناك الرئيسان المختار ولد داداه وسيد المختار انجاي رحمهما الله، وحزبهما "التقدمي" وما بقي من حزب الزعيم أحمدو ولد حرمة رحمه الله (الوئام) بعد هجرته إلى المغرب؛ ومن جهة أخرى، هنالك شبيبة موريتانيا التي ما لبثت أن أسست حزبا سياسيا شبه ثوري يدعى النهضة الوطنية. وقد باءت جميع محاولات رص الصف الوطني بالفشل؛ مما أدى - ضمن عوامل أخرى- إلى ضعف وهشاشة بنية الكيان الوطني الوليد وتأخر نموه. إذ لو شاء الله في أزله أن اتحد أبناء الوطن يومئذ في درب لتغير وجه تاريخنا، ولتمكنّا من تذليل صعاب كبيرة وتجنب مآسي وأزمات كثيرة {ولكن الله يفعل ما يريد}.
لقد جبلت طبقتنا السياسية من نشأتها الأولى على التفرق والخلاف، وعلى كثير من العمى السياسي، والتفاوت الشاسع في تقييم الأوضاع القائمة الملموسة؛ أحرى أن تتنبأ بالمستقبل وتستشرف السياسات والحلول الملائمة! وما نزال حتى اليوم نعاني من تبعات ذلك التشوه الخَلْقي الوراثي الذي زاد من مضاعفاته اليوم ما تفتق في أزمن الجفاف الفكري والتصحر وضعف المناعة الوطنية من أعشاب طفيلية خبيثة في جلهات وادي عبقر المقدس!
كانت الحكمة والجاه والنفوذ ضمن مقتنيات الخيمة الوطنية الأولى؛ بينما زان الخيمة الوطنية الثانية العنفوان، والطموح، والثقافة الأصلية: بوياگي ولد عابدين، أحمد بابه ولد أحمد مسكه، هيبه ولد همدي، محمد الحنشي ولد محمد صالح، الشيخ ماء العينين ولد اشبيه، أحمد ولد محمدو ولد عبدِ الله.. وغيرهم!
ومن بين تلك الشلة المنيرة يوجد فتى شنقيطي نحيل فارع ووسيم يدعى محمد الحنشي ولد محمد صالح، يختلف عن أقرانه بالتواضع ودماثة الخلق والصمت لدرجة توحي للوهلة الأولى بأنه دونهم في كل شيء، ولكن ما إن يتم التعارف وسبر الغور حتى تتكشف حقيقة لا غبار عليها؛ وهي أن ذلك الفتى هو زعيم النهضة دون منازع، شجاعة وفكرا وعلما وسياسة وأدبا وشعرا!
لقد كان محمد الحنشي ولد محمد صالح أول من صدع بالثورة على الاستعمار، وحدا الشباب للثورة! وأول من استنهض تلك القوة الجبارة، وراهن عليها باعتبارها القادرة وحدها على تحرير البلاد وإنهاء الوجود الاستعماري المَقيت الذي رأى أن الموت في سبيل عزة الوطن خير من الحياة في ظل عبوديته! فقال في صدر - أو منتصف- الخمسينيات:
شباب العصر إحدى الحسنيين ** تلقوا فالمنية فرض عين
فموت المرء خير من حيــــاة ** يقلبها المعمر باليديـــــن.
وقال أيضا:
شباب العصر افعلْ ما تريــد ** ولا تجبن ولو قطع الوريد.
وتتسارع الأحداث.. فيعلن الرئيس المختار وصحبه الاستقلال، وتشكك النهضة في ذلك الاستقلال وتحاربه بما لديها من وسائل وما أتيح لها من تحالفات، فتجد زهرة شباب موريتانيا الصاعدة نفسها فجأة نزيلة السجون والمعتقلات والمنافي، أو في سراديب العمل المسلح السري!
وفجأة أيضا يجد أسد النهضة الضاري نفسه خارج عرينه في "حصن منيع" و"عز أثيل" وقد قذفت به النوى والأقدار ليكون ثالث ثلاثة يشكلون هيئة أركان النضال المسلح في موريتانيا؛ وهم: جلالة الملك الحسن الثاني، والزعيم أحمدو ولد حرمة، وهو!
فيحن إلى وطنه البعيد جدا، ويقول في نفسه: أواه ما أبعد شنقيط! وما أقسى ما تجري به أقدار المرء على نفس هي من طينة أخرى!
تمنت أحاديث الرعاة وخيــمة ** بنجد فلم يقدر لها ما تمنت
إذا ذكرت ماء العذيب وطيبه ** وطيب هواه آخر الليل أنت
لها أنــــة عـــــند العشاء وأنة ** سحيرا ولولا أنتاها لجــنت.
ويحتدم صراع داخلي عنيف حله الرجل، ولا أدري كيف حله؟ هل باح لبعض أصدقائه وذويه بذلك السر، أم طواه الموت معه؟ وهو كتوم.
كل ما أعلمه أنه عاد إلى وطنه (موريتانيا) بعد الاستقلال بسنتين أو ثلاث، ليعتكف مدة في مسقط رأسه (شنقيط) ثم يلتحق بالوظيفة العمومية وخدمة الدولة.
وخلال مدة اعتكافه التي زرته فيها في شنقيط، تبلورت آراؤه الرائدة في ثلاثة مجالات أساسية لم تُطرق قبله يقينا بذلك الوضوح وتلك الرؤية الثاقبة التي أنارت درب جيلنا من الشباب الصاعد المناضل السائر على خطى النهضة، والمسكون بتجربتها الوطنية الطرية! وتلك القضايا هي: معضلة الهوية العربية الإسلامية للمجتمع الموريتاني في مواجهة خطط وبرامج الاستلاب والتغريب، ومعضلة العبودية الظالمة المدمرة، وقضية فلسطين السليبة باعتبارها قضية الأمة الأولى!
فلقد عالج تلك القضايا الشائكة الكبرى في شعر بديع رائد ورائع؛ وكان الشعر يومئذ وسيلة التعبير الأرقى والأكمل لدى مجتمعنا البدوي الشاعر، وصحافة من ليست لديهم صحافة مثلنا.
وإن أنس لا أنس أننا - معشر الكادحين- عندما أخطأنا الصواب وزغنا عن الصراط السياسي المستقيم سنة 1973 حين شككنا في الإصلاحات الوطنية وحاربناها كما شككت النهضة في الاستقلال وحاربته، ودعا اليساريون في حركتنا إلى خوض النضال المسلح ضد نظام وطني يقوم بإصلاحات وطنية.. كان بعضنا في معارضته لذلك النهج الفاسد يستحضر - بوعي أو بغير وعي- تجربة النهضة المرة، وشجاعة قادتها الذين رجعوا إلى مهيع الحق والوطن، وفي مقدمتهم محمد الحنشي ولد محمد صالح الذي قضى نحبه مؤخرا، رحمه الله!
يتبع
المصدر: موقع "إشدو. نت"