مباركة بنت البراء
في الأيام الأولى للسفر لا نكاد نصدق أننا حققنا أمنية بالارتحال إلى مكان آخر! نظل لبعض الوقت مأخوذين بطرافة المغامرة ولذة التلاقي مع وجوه جديدة، واكتشاف عالم مختلف، نتعاطى بجهد مع العمل، وتستغرقنا ترتيبات التأقلم مع البيئة الجديدة. وبعد مرور أسابيع تبدأ الحياة الآلية تطبعك بطابعها الهلامي، تشيئك برغبتها لتحس في لحظات الاسترجاع والتريث أنك لا تختلف عن الزر الكهربائي وجهاز الكومبيوتر وماكينة الغسيل، ومن هنا يتسلل إليك الوهن، وتُضيع الإحساس بالناس وجمال الحياة. تفقد الشوارع المزدحمة، والمباني الشاهقة، والحدائق الغناء بهجتها، تحسها رغم شموخها واتساعها تحكم من حولك حصارا يضيق عليك خناقه يوما بعد يوم كالخاتم في إصبع الرضيع، وتتراءى أشياؤك التي ارتحلت عنها ذات يوم وعزفت عنها بالغة القيمة، يزداد حضورها في المخيلة كلما أمعنت في الغياب؛ التلفاز الصغير المغلف بالأتربة والغبار على طاولة حائلة اللون يشدك أكثر، والمنزل الصغير بأثاثه المتواضع: الحشايا الضامرة والموكيتات القديمة والستائر الداكنة، والسرير الخشبي، ومكتبتي بأدراجها المتآكلة كلها أصبحت أشياء ذات قيمة كبرى في حياتي الآن. كيف تكسب تلك الأشياء التي قذفتها ذات يوم ومللتها حد القرف كل تلك الجدة والبهاء؟
كيف أتعلق بها كل هذا التعلق ولم تكن في الماضي القريب تعني لي أي شيء ؟ لطالما تمنيت تغييرها، وكثيرا ما راودتني أفكار في فترة الصيف أن أكسر الغرفة الوسطى وأجعل منها فرندة يدخلها الهواء ليخفف من الحر الخانق.
تلك الأشياء أصبحت تعايشني كلما أحسست وطأة البعاد.. لها طعم الرمال والرياح المطيرة، طعم الصمغ مغموسا في السكر، طعم أماسي الريف حين يعود الرعاة يعزفون شباباتهم وراء القطعان.
تأكدت أن للزمن يده السحرية في تلوين الذكريات بعواطف متباينة، ماذا جرى لأملاكي الصغيرة التي هجرت ذات يوم وهجرت معها الوطن دون لفتة وداع؟ ماذا جد عليها حتى أتصورها وجها جديدا، وكنزا أثيرا؟
لا شك أنها مثلي تقادمت أكثر وغلفها النسيان، والوطن ما زال كما هو، لم يهاتف مرة ولم يتذكر أن إحدى بناته هاجرت إلى وجهة واستقرت بعيدا عنه، فلم الحنين والشوق العتيد؟
العاطفة الهوجاء داء النساء دوما ونقطة ضعفهن، كم غريب هو التغير في التفكير وتقييم الأشياء! حسبت يقينا أن أجمل الأوقات تلك اللحظة التي تخرجك من دائرتك الجغرافية وبيئتك الضيقة وتسمح لك أن تتفيأ آفاقا جديدة، وتعرف ناسا لم تعرفهم قبل، وتتنسم هواء غير رتيب.
راقت لي يوما أحاديث البكري وابن بطوطة وابن حوقل وهم يتحدثون عن مشاهداهم ومعايناتهم الكثيرة في بلاد الله الواسعة، وكم استوقفني ذلك النهم المعرفي لجمع الأخبار ومطالعة أحوال الناس ووصف العمران، وكم استهواني السندباد ومغامراته البحرية الخطيرة التي ما إن ينجو من مطباتها حتى يعود إليها مأخوذا مبهورا، وكم سخرت من البكاء على الطلول الدوارس لدى الجاهليين، وحنين المنفى لدى المهجريين، لم ترق لي يوما تلك البكائيات ورأيت فيه نوعا من الاحتفالية المصطنعة بمرابع الطفولة وأيام الصبا. فما الذي حدث لأنشغل بمكان غادرته وفي النفس موجدة، وفي العلاقة جفاء، والأرض ما تزال كما هي، وناسها ما يزالون كما هم؟