الشاعر الدكتور أدي آدب
عمري .. رحلة خلف المَعْنى (مقال ذكرنيه يوم ميلادي الافتراضي):
أنا أعتقدُ –جازما- أنَّ العُمرَ الحقيقي للإنسان عموما، هو أثَرُه الشاهدُ، ومُنْجَزُهُ الخالدُ، ولذلك أحْرِصُ – ما استطعت- على اسْتِثْمار الفاني، في الباقي، تثْقيفا للذات، وتثاقُفًا مع الآخر، وصقْلا للمَواهبِ، وتطويرًا للأدواتِ...
وقد عبَّرْتُ منْذ التسعينيات، عن إحْساسي بسِبَاقِ الأماني والثواني، باعْتبارِ جَدَلِيَّتِهما هي حقيقةُ العمْر، مُستخْلِصا أنَّ حياتَنا:
أمَـــــانٍ.. ثَـــــــــوانٍ.. وهلْ أنا إلاَّ
جَنَا.. أو رمـادُ.. الأماني.. الثواني!
وعندما وطئتُ عتَبَةَ الأرْبعين، تَفاقَمَ إحْساسي بسبِاق الأمَانِي، والثَّوانِي، المُتَصارِعَةِ في كيْنُونَتي، فتولَّدَتْ قصيدةُ "كتاب الوجود"، حيْث لاحظتُ أننا نكتبُ في الدهْر لنَخْلُدَ، وهو يكتبُ في الصخْر، و في الرمْل، وفي المَاء، وفِينَا ليَمْحُونَا... فكيف نجعلُ سلطة إثباتنا، أقوى من سلطة محوه؟!
فَمَتَى أرانِي: جُمْلَةً..
تُتْلَى.. عَلَى سَمْعِ الزَّمَانِ..
مُضِيئَةً..
قَدْ كَثَّفَتْ لي ما تَناثَرَ..
مِنْ هَباءاتِ الشّبّابِ؟!
هذا السُّؤالُ:
حُرُوفُ جَمْرٍ.. في دَمِي..
سَيَطَلُّ مُشْتَعِلاً صَداهُ.. عَلَى فَمِي..
أوَّاهُ..
كَمْ أرْجُو..
وأخْشَى..
مُسْتَكِنَّاتِ الجَوابِ!
فَهُنَا وَجِيبُ القَلْبِ..
يَكْتُبُ نَبْضُـهُ..
لَحْنَ الحَيَاةِ..
مُسَابِقًا صَمْتَ المَمَاتِ..
نَشِيدُهُ:
يا وَيْلَتِي.. عِنْدَ الحِسَابِ..
مِنَ الحِسابِ!!
والحقيقة أني لا أحرصُ على عيْشِ الحَياةِ بتفاصيلها، لأنَ تفاصيلَها كثيرا ما تكونُ مُمِلَّةً وتافهةً، أنَا أطاردُ" المَعْنَى"، وقد حدَّدْتُ مُهِمَّتِي هذه، في حِوَارِيةِ "هذا أنا":
.....
منْ أيْنَ جِئْتُ؟
وأيْنَ تمْضِي؟
إنَّنِي أدْمَنْتُ
- مذْ فَتَحَ الوُجُودُ عَليَّ عَيْنَيْهِ-
الرحيلَ ..
أطاردُ المَعْنَى ..
فمن حاءٍ ..
إلى باءٍ ..
ومن باءٍ..
إلى حاءٍ..
تُطَوِّحُ رِحْلَتِي ..
ما أوْسَعَ الآفَاقَا!
وأعلنتُ امْتهاني لِمُطارَدَةِ المَعْنَى-أيضا- في قصيدة "نشيد الشاعر المهاجر":
تُطَوِّحُ.. "بَيْنَ الحاءِ.. والباءِ".. رِحْلتِي
وَراءَ المَـعَـانِي.. والمَعَالِي.. أُدِيـــرُها!
أجَلْ، مُهِمَّتِي أنْ أغُوصَ وراءَ الجوْهر الغارقِ في زَبَدِ الحياة، حسبما أقُولُ في قصيدةِ "المَسار":
وفي الزبَّدِ.. الطامي.. أخَضْخِضُ.. عَلَّنِي
ألامِسُ دُرًا .. والمَغَــــاصُ.. خَــــطِــيـــرُ!
وما يسمى الفترات الرمادية في حياتنا، ما هو- في نظري- إلا لحظاتُ تشكُّلٍ للأفكارِ، تكونُ فيها الأحاسيسُ هُلاميةً، لمَّا تأخذْ ملامحَها الواضحة، عبْرَ مُفْرداتِ اللغة العاجزةِ -حِينَها- عن البيانِ الشافي، ولكن التعبير يجْتازُ هذه المَناطقَ السوْداءَ، وينتصرُ غالبا، لا سيما بالنسبة للشعراءِ "أمَرَاءِ الكلام".
وما يسمى أيضا فترات جمود إبداعي، ما هو إلا لحظات شبيهةٌ بما كُنَّا نتحدثُ عنه قبل قليل، وإذا أردْنا أنْ لا نكونَ سلْبيينَ، سننظرُ للنصْفِ الممْلوءِ من الكأس، بدَلَ الترْكيزِ على النصْفِ الفارغ، ومن هُنا نُنَبِّهُ إلى أنَّ ثَمَّةَ حَرَكَتَيْنِ: إحْداهُما مادية محسوسة ومرئية، مثْل اهتزازِ الغُصْنِ، في مَهَبِّ النسيم، ولكن هُناكَ حركةٌ جَدَلِيةٌ أخْرَى يُمارسُها دَبيبُ الحَياةِ المُتَنَامِي داخلَ النسْغِ، لا نَرَاهَا إلا في لَحَظاتِ بُزُوغِ الزْهْرةِ، أو الوردة، أو الثمرة....
وقياسا على هذا سنعْتبرُ (فتْرة الركود والجمود وعدم القدرة على الكتابة)، مهْمَا سمَّيْتها، مُجَرَّدَ فتْرة اخْتِمار، فصمْتُ المُبْدِعُ ناطقٌ، وسُكونُه مُتَحَرِّكٌ، وهذا ما سَمَّيْتُه: "نزيف مَشاعري"، في قصيدة بهذا العنوان:
أيريبكَ الصمْتُ.. الذي يَغْــشـــــــاني؟
القلبُ.. يَهْذي.. تحتَ صمتِ لســـاني!
إنِّــــــــي أراكَ .. ولا أراكَ.. لأنّــني
دانٍ .. بعيدٌ .. منكَ .. حــينَ تَـــراني!
فأنا ..أشــــارككَ المكانَ .. ورُبَّـــــما
أرتـادُ كونًا ..خـلْفَ كــلِّ مــــكــــــان!
..........................................
صمْتي: نــزيفُ مَشاعري.. وعبادتي
ومقدَّسٌ - مِلْءَ الخُطَى- هذَيـــــــاني!
إننا ينبغي أنْ لا نتركَ الشعورَ المأساوي بالعمر وضياعه، يتسلَّطُ عليْنا، فمُهِمَّتُنا هي مُطارَدَةُ المَعْنَي، وبناؤه، ولكن الواقع أنَّ هناك لحظاتٍ من هذا القبيل، تُهاجمُ الإنسانَ عموما، والشاعرَ الحساسَ بصورةٍ أخص، وقد سجلتُ إحْداها، في نصٍّ بعنوان" القِطار"، كان من وحْيِ الشعورِ بتماهِي مَسارِ القطار، ومسارِ الحياة ذاتها، حيث قلت:
يَمْضِي القِطارُ
كَمَا الحَياةُ – بِنَا!-
*****
هُنَا..
تَطّارَدُ الأشْجَارُ..
صَفّاً .. بعْدَ صَفٍّ..
حَوْلَنَا
*****
كَالذِّكْرَيَاتِ..
العَابِرَاتِ..
كَعُمْرِنَا
*****
وَيَفِرُّ بَعْضُ الأرْضِ..
مِنْ بَعْضٍ..
تُسَابِقُ رَكْضَنَا
*****
إثْرَ الطَّرِيقِ الهَارِبِ الآبِي انْتِظاراً..
كُلُّنَا..
حتَّى المَكَانُ..
مَعَ الزَّمَانِ..
مَعَ القِطَارِ..
مَعِي أَنَا!
*****
كالكَوْكَبِ المُنْقَضِّ..
- فِي المَهْوَاةِ- مُنْدَفِعِينَ
فِي هَذِي الدُّنَا..
خَلْفَ المُنَى..
يَا لَلدُّنَا!
*****
أنّى سَنَقْبِضُ مَا نُطارِدُ؟
أوْ نَفُوتُ يَدَ الذِي
- كَالظِّلّ- يَطْرُدُ ظِلَّنَا؟
*****
لا أنْتَ تَدْرِي
يا قِطَارُ..
ولا المَكانُ..
ولا الزًّمَانُ!
ولا أنا
إنني أتعايشُ مع هاجسِ الموت المُتَرَبِّصِ بنا، عبْر كل ثانيةٍ، وعنْد كل حركةٍ أو سكونٍ، بنفسٍ مطمئنةٍ.. فقلقِي على حياتي مُريحٌ، إنْ صحَّت المفارقةُ، وقد رثيْتُ نفْسي، منذ قاربتُ الخمسينَ بقصيدةٍ، أسجِّلُ في مقْطعٍ منْها هاجسَ جدَلِ الفناءِ والخُلودِ :
إنَّ الوُقُوفَ.. عَلَى الطُّلُولِ ..سَجِيّةُ الشُّـ
ـعَـرَاءِ .. وَالدُّنْـيَا طُلُـــولُ ظَـــــعِــــــينِ
دَعْنِي ..أُرَاجِــعُ مَا تَـبَقَّى .. مِـنْ حَصَــا
دِ العُمْرِ.. فِي الأطْلالِ .. هَلْ يُحـــــيِينِي؟
هَلْ لِي ..رُسُومٌ ..خـــالِداتٌ.. في المَدَى
قدْ سَطَّرَتْ.. فِي سِفْــــرِهَا تَكْــــــــوِينِي؟
أمْ كُنْتُ.. مَحْضَ فُـقَـاعَةٍ.. نُفِخَتْ عَــلَى
سَطْحِ الحَيَـاةِ.. فَأُطْفِئَتْ.. فِي الــحِــــينِ؟
جَدَلَ الخُلُـودِ .. مَعَ الفَـــنـاءِ .. إلى متى
هَا ذَاكَ يَكْتُبُنِي .. وذا يَمْـحُـــــــــــــونِي؟
الرَّائِعُونَ .. حَيَــــــاتُهُمْ .. فِي ذِكْــرِهِـمْ
يَا ثَـــــانِيَ العُمْرَيْن .. هَلْ تُبْــــــــــقِينِي؟
والحقيقة النهائية هي أنَّ قلقَ المصير، والحساب... هو أكبرُ هواجس عمر المؤمنين، لكنا نُكْبِرُ الظنَّ بعفْو الله مُطمئنين، فقد خاطبتُ حاملي نعشي، في مرثيتي لنفسي:
أَنَا قَــــــــادِمٌ.. ضَيْفًا.. عَــلَى رَبِّي.. وَلاَ
زَادٌ.. سِـوَى كَرَمِ المُضِـيفِ.. دَعُــــــونِي!
أدي ولد آدب