سعيدة شريف - الرباط - سكاي نيوز عربية
ما زال المجتمع الصحراوي يفرض نفسه على الباحثين في العلوم الاجتماعية في العقود الأخيرة، وذلك لأن هذا المجتمع البدوي الصحراوي الذي كان معروفا بسيادة نمط الرعي والترحال، القائم على التنقل الدائم بحثا عن الماء والكلأ، سرعان ما تحول وانتقل من فضاء البادية والخيمة إلى فضاء المدينة بمقوماته الحداثية، وهو ما يعني تحولا في التفكير ونمط العيش والعادات والتقاليد.
غير أن استيعاب المجتمع الصحراوي لمفهوم المدينة، كما يرى مجموعة من الباحثين المتخصصين في الدراسات حول الصحراء، لم يتم بعد، وهناك من يرى أنه لم يبدأ بعد، مثل الباحث أحمد بطاح، الذي يقول إن "العيش في المدينة يفرض بالضرورة امتلاك فكر غير تقليدي، يتماشى مع حداثية المدينة.
ويخلص إلى الانتقال من فضاء البدو إلى فضاء الحضر لا بد أن يصاحبه انتقال على مستوى البنية الذهنية والفكرية وطرق التفكير للمجتمع، بمعنى الوعي الجمعي عموما، لكننا حينما نستحضر تجربة المجتمع الصحراوي لا نكاد نلمس إلا انتقالا طفيفا.
الكاتب رحال بوبريك
ولتسليط الضوء على هذا التحول، والبحث في سياقاته العامة والخاصة وحتى معيقاته، يقدم الباحث الأنثروبولوجي المغربي رحال بوبريك في كتابه "المجتمع الصحراوي من عالم الخيمة إلى فضاء المدينة"، الصادر حديثا عن "دار أفريقيا الشرق" بالدارالبيضاء، مقاربة أنثروبولوجية تاريخية للمجتمع الصحراوي ولمسار تحوله من نمط يقوم على البداوة والترحال إلى نمط جديد من العيش أساسه الاستقرار والتوطين، ويتساءل هل هذا التحول هو إعلان عن نهاية ما يعرف بـ "حضارة الصحراء"؟
ويتناول الكتاب مسار البدو الرحل الذين استقروا في مكان حضري والتحولات الاجتماعية والثقافية التي شهدها المجتمع الصحراوي بالمجال الممتد من واد نون شمالا إلى تيرس جنوبا، منذ منتصف القرن الماضي.
وعرف هذا المجتمع تحولا عميقا بدأ مع الانتقال من الخيمة إلى المنزل في المدينة، في سياق يتميز بتفكك نظام الرعي والترحال. وقد كانت الدولة زمن الاستعمار (إسبانيا وفرنسا)، وما بعد الاستعمار، هي الفاعل الأساس في عملية التوطين المكثف للرحل بالمدن، دون إغفال العوامل المناخية والاقتصادية التي دمرت نظم الإنتاج الرعوية.
وفي تصريح لـ "سكاي نبوز عربية"، يقول الباحث رحال بوبريك، أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة محمد الخامس بالرباط، والأستاذ الباحث في معهد الدراسات الإفريقية بالجامعة نفسها، إن هذا الكتاب يندرج في إطار مشروع يشتغل عليه منذ سنوات، ويتعلق بالبحث في المجتمع الصحراوي، وأنه "يعتمد في هذا الكتاب منهجية أنثروبولوجية تاريخية، تأخذ بعين الاعتبار المدى الطويل في دراسة تطور أشكال ومظاهر التحضر ما قبل الاستعمار (ولاتة وكلميم)، من خلال التركيز على سيرورة الانتقال من نمط يقوم على البداوة إلى نمط جديد من العيش أساسه الاستقرار والتوطين".
ويضيف أن غايته من هذا الكتاب هو "الوقوف على اللحظات الحاسمة التي شكلت نقطة تحول في عملية استقرار الرحل، دون السعي إلى توسيع دراستنا إلى التطور الذي تشهده المدن الصحراوية حاليا، وهو تطور نعتبره تتويجا لعملية التوطين الكثيفة التي حدثت سابقا، لأن تطور الواقع الحضري في المدن الصحراوية هو عملية بدأت منذ منتصف القرن الماضي لتنتهي في أواخر السبعينيات من القرن الماضي مع حرب الصحراء، وهذه هي حقا الفترة التي اتخذناها موضوعا لدراستنا".
ويوضح الكاتب أن السكن في المدينة لا يعني نهاية نمط حياة الرعي على المستوى التقني والاقتصادي لهؤلاء الرحل المستقرين فحسب، بل هو نهاية عالم يحمل قيمه الخاصة وثقافته وروحانيته وأخلاقه، وهو بمثابة اجتثاث بالنسبة إلى البعض، إنه بخلاصة إعلان عن نهاية "حضارة الصحراء:، التي وصفها ببراعة روبرت مونتان في كتابه الذي يحمل العنوان نفسه.
ويتوزع كتاب "المجتمع الصحراوي من عالم الخيمة إلى فضاء المدينة" إلى أربعة فصول، يتناول الفصل الأول منها عالم الخيمة كنمط للسكن والتنظيم الاجتماعي، والثاني المدينة التقليدية ما قبل الاستعمار من خلال نموذجي كلميم وقصبة السمارة، والثالث الترحال على محك التحولات.
أما الفصل الرابع فيتناول فيه الباحث نهاية الترحال وصيرورة الانتقال من الخيمة إلى المنزل وصولا إلى الاجتثاث أو ما يمكن تسميته بـ "نهاية البداوة".
تحولات الصحراء
وفي تقديمه لهذا الكتاب، يشير الباحث رحال بوبريك إلى أن العديد من النقوش والرسوم الصخرية تشهد أن الصحراء كانت منطقة رطبة ومخضرة، وبعد ذلك تحولت إلى مجال قاحل عقب التغيرات المناخية بشمال إفريقيا، وأنه نظرا لندرة المياه في هذا المجال، واستعمال تقنيات بسيطة في المعيش اليومي، فضلا عن الإكراهات المناخية، فإن الترحال كان هو النمط الوحيد الذي يتأقلم مع هذا الوضع.
ويضيف الكاتب أن دراسته للخيمة في هذا الكتاب، تتجاوز الوصف المادي والتقني في صناعتها، الذي سبق له تناوله في كتابه السابق "الخيمة: روح الصحراء"، ويقدمها كفضاء رمزي واجتماعي وجوهر الحياة البدوية ونمط حياة الرعي القائم على الترحال، الذي لا يختزل في طريقة تأقلم الإنسان مع الظروف الطبيعية القاسية.
والترحال كما يقول الكاتب "طريقة للتفكير في العالم وفلسفة في الحركة، إنه نظام يستجمع قيما متنقلة ويتمثلها عن طريق التعلم المكتسب من خلال العمل، إنه فن أن تكون رحالا"، كما تسميه الباحثة كلوديت هواد".
ويتتبع بوبريك في هذا الكتاب مسار البدو الذين استقروا في فضاء جديد، ويقف على نظام التحولات الاجتماعية والثقافية التي شهدتها المنطقة الصحراوية منذ دخول الاستعمار إلى المجال الجغرافي الممتد ما بين وادي نون شمالا إلى تيرس جنوبا، حيث يتخذ من مدينة العيون مختبرا لمتابعة سيرورة التحضر بالصحراء، المدينة التي تشكلت معالمها الأولى مع الاستعمار، والتي تمثل نموذج المدينة الصحراوية الحديثة، التي عرفت الاستقرار والتوطين، وهي الفاصل بين نمط بدوي وآخر حضري لا يقوم على الخيمة بالأساس، هذا دون إغفال استحضار تجارب مدن أخرى مثل كليميم وطنطان.
وتجدر الإشارة إلى ان الكاتب رحال بوبريك باحث وأكاديمي متخصص في الأنثروبولوجيا، حاصل على الدكتوراه من جامعة "إيكس مارسيليا" في فرنسا عام 1997، عمل أستاذا سابقا في كلية الآداب في أكادير والقنيطرة والرباط، ومديرا لمركز الدراسات الصحراوية في جامعة محمد الخامس بالرباط.
صدرت للكاتب مجموعة من المؤلفات، نذكر من بينها: "بركة النساء. الدين بصيغة المؤنث"، و"زمن القبيلة السلطة وتدبير العنف في المجتمع الصحراوي"، و"بين الله والقبيلة: رجل الدين والسلطة السياسية في موريتانيا"، و"الأولياء والمجتمع في الإسلام"، و"الأنثروبولوجيا: نظريات وتجارب"، و"مجتمع الصحراء في الكتابات الاستعمارية"، وغيرها من الدراسات الصحراوية، كان آخرها كتاب فني جميل أصدرته أكاديمية المملكة المغربية، وهو بعنوان "التبراع.. الشعر النسائي الحساني"، وهو ثمرة مجهود علمي قام بتنسيقه الباحث رحال بوبريك.